مأساة الغابة واحدة

     

وكما فعل الصليبيون ومن بعدهم المماليك، فإن بعض الولاة الأتراك الذين حكموا ولاية بيروت في أواخر العهد العثماني، وجدوا في غابة الصنوبر أحد المصادر التي تمدهم بالمال وتزيد في ثرواتهم الشخصيّة وكان من هؤلاء نصوحي بك أفندي والي بيروت سنة 1894م الذي يغضّ الطرف عن اللصوص الذين كانوا يقطعون أشجار هذه الغابة لقاء عمولة، أو بالأصح رشوة يدفعونها له، وقد ذُكر أن هذا الوالي تناول من بعض الأشخاص 900 ليرة لعشرين ألف شجرة صنوبر قطعت من الغابة.

وإذا كانت غابة بيروت أمدت المتحاربين الصليبيين والمماليك بالأخشاب اللازمة لصنع المعدات العسكرية من المنجنيقات والمراكب البحرية، خاصة عندما أحضر المماليك صناعاً كثيرين من سائر الممالك، فكانوا جمعاً غفيراً، وقيل إنه لم يُعهد قط عمارة مثلها عظماً وسرعة صنّاع وقوة عزم، وقد أمدت غابة الصنوبر الجيوش العُثمانيّة في الحرب الكونية الأولى 1914–1918م ومن بعدها الجيوش الحليفة في الحرب العالمية الثانية 1939– 1945م بالأخشاب اللازمة لمراجل القطارات الحديدية والسفن الحربية.

ففي أثناء الحرب الأولى احتاجت السلطات العسكرية العُثمانيّة للوقود من أجل تسيير قاطراتها الحديدية، ولما كانت المحروقات النفطيّة في ذلك الحين عزيزة المنال لندرتها أو لوقوعها تحت حوزة الحلفاء، فإن السلطات المذكورة لجأت آنذاك إلى غابة بيروت وكذلك إلى الأشجار الأخرى ومنها الزيتون من أجل تغطية حاجاتها الضروريّة لاستعمال وسائل المواصلات في الأغراض العسكرية حيث تدعو الحاجة إلى هذا الاستعمال دون الأخذ بعين الاعتبار مصلحة البلاد في الحفاظ على ثروتها الحرجيّة أو مزروعاتها.

وبالرغم من قيام أحبّاء الشجرة وأصدقائها بتأليف الجمعيات الأهليّة للدفاع عن كل أشجار لبنان في كل غاباته ، فإن الحرب العالمية الثانية حالت بين الشجرة وبين محبيها، وتركت للفؤوس والمناشير الطرق ممهَّدة إلى قلب الغابات اللبنانيّة، وفي مقدمتها غابة صنوبر بيروت، ووجد المحاربون من الفرنساويون والإنكليز... واللبنانيين أن للحرب ضروراتها، وأن الضرورات تقتضي بعد أن توقف إستيراد المحروقات هذه والاستعانة بالحطب اللبناني، كما وجد الفرنساويون والإنكليز أنهم بحاجة إلى خشب صالح لصناعة النجارة وأنه من الضروري أن يكون من لبنان... ونشط اللبنانيون في هذا المضمار، وراحوا يفتشون عن الأشجار التي تعطي خشباً وحطباً، فلم يجدوا سوى غابة الصنوبر في بيروت.

وهكذا، فإن غابة بيروت، لقيت في العصور الماضية من الحروب أوزارها وأوضارها، وهذا ما تكرر في العصور الحديثة أيضاً، على أن مصائب الحروب الحديثة لم تقف عند هذه الغابة وحسب بل تجاوزتها هذه المصائب وطالت معها أكثر غابات لبنان، حتى تلك التي بقيت آماداً طويلة في مأمن من الفؤوس والمناشير لوقوعها في الجبال العالية والمناطق البعيدة والمرتفعة، خاصة في المتنين الأعلى والأدنى وكسروان، وأقيمت المناشر في مختلف المناطق، وكانت معدات الجيوش المحتلّة تساعد أصحاب هذه المناشر بفتح الطرقات أمامهم وتمهيدها لهم.