السبيل الحميديّ في بيروت العُثمانيّة

 

أنشئ في بيروت العُثمانيّة وفي بقية المدن الإسلاميّة الكثير من السبل أو الأسبلة إستناداً إلى الشرع الحنيف وإلى الحديث الشريف، أنه إذا مات إبن آدم أنتهى عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلمٌ ينتفع به، وولد صالح يدعو له، وقد إعتبر إنشاء السبل صدقة جارية من الصدقات المعروفة، لا سيما وأن المياه في العهود القديمة وفي العهد العُثماني لم تكن متوفرة في كل منطقة أو في كل بلدة أو في كل منزل.

وإنطلاقاً من ذلك، ففي عام 1900م وبمناسبة مضي خمس وعشرين سنة على تولّي السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1909م حكم السلطنة العُثمانيّة، فقد أنشئ السبيل الذي عُرف باسم السبيل الحميدي في المنطقة المعروفة بالسور بالقرب من بوابة يعقوب، وفيما عُرف بعد ذلك باسم الهول وساحة رياض الصلح.

وقد إحتفل بتدشين هذا السبيل وتدفق المياه منه يوم السبت في الأول من شهر أيلول سنة 1900م، وفي اليوم ذاته توجّه وفد لبناني مكّون من السادة : إسكندر تويني، وأمين مصطفى أرسلان، وأسعد لحّود بحمل العديد من الهدايا القيّمة إلى السلطان عبد الحميد الثاني في استانبول.

هذا وقد وصفت الصحف اللبنانيّة والبيروتيّة هذا الحدث، وأشارت صحيفة ثمران الفنون لصاحبها الشيخ عبد القادر قبّاني إلى ما يلي:

(كان يوم السبت يوماً مشهوداً، نشرت المسرات فيه أعلامها، ونصبت المبرات فيه خيامها، ولم تكد تشرق الغزلة من حجابها، حتى أخذ الأهلون يتجمعون حول دار الحكومة التي كانت مزدانة بالأعلام والرياحين، داخلاً وخارجاً، وأخذ أرباب المناصب والرتب يؤمونها زرافات ووحداناً، حتى إذا كانت الثامنة من صباح ذلك اليوم المسعود، أقبل حضرة صاحب العطوفة والمجد، رشيد بك أفندي، ملجأ ولايتنا الجليلة، مرتدياً لباسه الرسمي، متلألئاً صدره بالوسامات العالية، فحياه الجند بالسلام، وعزفت الموسيقى العسكرية التي كانت في باحة السراي، بأنغامها الشجيّة، فصعد عطوفته قاعة الاستقبال الكبرى، وتقبّل فيها باسم الحضرة العليّة السلطانيّة، وفود التهاني من أركان الولاية والأمراء والعسكريين ورؤساء الدوائر، والجميع بالملابس الرسميّة، فلما إنتظم عقد الجمع رفع صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن أفندي النحّاس نقيب السادة الأشراف أكف الضراعة والابتهال إلى المولى ذي الجلال، بأن يحفظ للخلافة الكبرى بدرها الساطع، وللسلطنة العظمى نورها اللامع، حضرة سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وسلطان العُثمانيين، السلطان إبن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد خان، وبأن يؤدي أركان دولته العليّة، ويؤبد عزها وشوكتها إلى آخر الدوران ....، ثم شرّف حضرة ملجأ الولاية الجليلة، والأركان والأمراء والأعيان مكان السبيل الذي شيّده المجلس البلدي في بيروت إجلالاً وتذكاراً لمرور خمس وعشرين سنة على أرتقاء الجناب العالي السلطاني عرش الخلافة الكبرى، وكانت البلديّة نصبت بجانبه سرادقاً كبيراً، فوقف عطوفة الوالي تلقاء الأنبوب الشرقي يحيط به من ذكرنا، والكل بالملابس الرسميّة، ففاه صاحب الفضيلة نقيب أفندي بخطاب مناسب للمقام، ختمه بالدعاء إلى الله تعالى بطول بقاء الجناب السلطاني معزز الشوكة، منصور اللواء، موفقاً لأمثال هذه المباني الخيريّة.

وكان المصورون خلال ذلك يأخذون صورة هذا الاحتفال الحافل، بالتصوير الشمسي، ثم صدحت الموسيقى العسكريّة بالسلام الحميدي، وهتف الحضور بالدعاء: بادشاهم جوق باشا، أي الله ينصر السلطان، ثم شرّف السرداق وإستراح به هنيّهة، طاف عمال البلدية خلالها بكؤوس المرطبات، ثم توجه إلى دار الحكومة حيث تقبّل التهاني من قناصل الدول العامين، وأخذ الأهلون يستقون من السبيل شراباً مبّرداً مرطباً، ودونك الآن وصف هذا السبيل وصفاً هندسياً .... ).

 

يبلغ ارتفاع السبيل الحميدي ثمانية أمتار، يبلغ وزن الرخام الذي إستعمل في تشييده مائة وخمسة عشر قنطاراً، ويرتكز هذا السبيل على دكة هندسيّة تصميماً فنيّاً رائعاً، ويتخلل البركة زخارف هي بمثابة دوائر هندسيّة متشابكة بشكل مستمر إلى نهاية إطار كل بركة، ويفصل بين البرك الثلاث ثلاثة جدران سميكة يتخللها زخارف هندسيّة جميلة ويعلوها أعمدة ملصقة بالجدار الأعلى للسبيل، ويتخلل هذا الجدار لفائق هندسيّة وزخارف فيها بعض المؤثرات المعماريّة البيزنطيّة.

ويُلاحظ الدارس للسبيل الحميدي، ظهور الطرة العُثمانيّة مثبتة فوق النجمة الخماسيّة، وقد ظهر إسم السلطان عبد الحميد الثاني في تلك الطرة ضمن دائرة وبخط هندسي رائع.

ويُلاحظ أيضاً بأنه كلما إرتفع بناء السبيل كلما إنساب إنسياباً هندسيّاً ملائماً، فيبدأ من قاعدته ضخماً ثم تتضاءل ضخامته شيئاً فشيئاً عبر الأمتار الثمانية.

وللسبيل ثلاثة وجوه دائريّة فوق البرك الثلاث، وعلى الوجهين الأخيرين كتابة مُذهبّة باللغتين العربيّة والتركيّة، بمعنى واحد، وقد ظهرت الأحرف الصخريّة نافرة بخط جميل كتبها الشيخ محمد أفندي عمر البربير، ونثبت هنا النص العربي الذي إستوعب ستة أسطر من أحد الوجوه، والنص هو التالي:

1.   أنشئ هذا السبيل الحميدي عام ثلاثماية وثمانية عشر بعد الألف

2.   من الهجرة النبويّة تذكاراً وتعظيماً لمضي خمس وعشرين سنة

3.   من جلوس حضرة سيدنا ومولانا السلطان إبن السلطان

4.   إبن السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني على عرش

5.   الخلافة الإسلاميّة الكبرى وأيكة السلطنة العُثمانيّة

6.   العظمى وصدقة جارية تنضّم لما لجلالته من عظيم الخيرات وتعميم المبرات

 

يبقى أن نشير إلى مهندس السبيل الحميدي، فقد كان رفعتلو يوسف أفندي أفتيموس مهندس بلدية بيروت والذي كلفته البلدية بإنجازه، وقام بتركيبه المعلم أليان أبو السلو، وقام بنقشه المعلم يوسف العنيد الشامي والأخيران من أشهر صناع وتركيب الرخام.

وبهذه المناسبة السعيدة إختتن في المستشفى العُثماني العسكري خمسون صبياً من أبناء الفقراء على نفقة رشيد بك أفندي، استجلابا لدواتهم الخيريّة بتأييد الحضرة السُلطانيّة، فأعطى لكل صبي منهم كسوة كاملة من قميص ولباس وخنباز حريري وطربوش وحذاء ومنديل، وبالمناسبة ذاتها، أحتفل بتأسيس مخفر في منطقة الأشرفية، تعزيزاً لدعائم الأمن وتوطيداً لأركان الراحة في تلك المحلة.

ولقد استمرت ساحة السبيل الحميدي لسنوات طويلة مقصد البيارتة، لا سيما في الأعياد، ولقد أشارت المرحومة السيدة عنبرة سلام الخالدي في كتابها (جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين) إلى هذه الساحة بقولها:

(وأهم ما كان يبهج أيام طفولتي، وكان هذا قبل تحجبي، هو الاحتفال بالأعياد، وكان ذلك يعني ثياباً جديدة، وعيديات نقديّة من الوالدين والأهل الأقربين، ثم مراجيح عامة يُسمح لنا بارتيادها برفقة مسؤولة من الخادمات وقد كنت مع إخوتي وبعض الرفاق من ذوي قربانا نقصد إلى محلة السور، حيث كانت هنالك ساحة كبيرة خالية إلا من سبيل عُِثماني قديم بُني من الرخام المحفور بشتى النقوش، وذلك قبل أن يُبنى فيها الهال الذي إستمر قائماً عدة سنوات ثم هُدم، فهناك كانت تُنصب المراجيح على أنواعها، وتقام القلابات والدوارات فنصرف العيديّة على الإنتقال من الواحدة إلى الأخرى ونحن أشد ما نكون بهجة ...).

والسؤال الذي يمكن أن يطرحه البيارتة واللبنانيون هو: ماذا حلّ بالسبيل الحميدي وما هو مصيره وأين موقعه اليوم ؟

لقد أقامت بلدية بيروت عام 1900م هذا السبيل في الساحة المشهورة باسمه، وهي التي إتخذت قراراً في عام1957م بتفكيكه حجراً حجراً ونقله إلى حديقة الصنائع المشهورة قرب سراي الصنائع، ومن ثم إعادة تركيبه كما كان تماماً، ولقد أقامت مكانه تمثالاً لرئيس الوزراء اللبناني الراحل رياض الصلح، ومن ذلك التاريخ أصبحت تُعرف الساحة باسم، ساحة رياض الصلح، كما إستمر البيارتة يطلقون عليها، ساحة السور.