شهدت بيروت في عهد السلطان عبد الحميد الثاني 1876-1919م تطوراً عمرانياً بارزاً، جعل من بيروت درة الشرق ودرة آل عثمان، وباتت بحق، بيروت المحروسة، ومن بين ملامحها العُمرانيّة منارة أو برج الساعة في منطقة الثكنات العُثمانيّة (السراي الكبير).

بدأ التفكير بتنفيذ هذا المشروع في عهد والي بيروت رشيد بك أفندي، وهو المشروع الأول من نوعه من حيث الفن المعماري، فما كان منه إلا أن أرسل إلتماساً إلى الآستانة العليِّة، طلب فيه السماح لبلدية بيروت أن تبني منارة كبيرة مرتفعة على طراز معماري شرقي، وعلى نفقتها الخاصة، وليكون في هذه المنارة ساعة كبيرة " دقاقة " لتعريف الأوقات العربيّة، وكان رد الآستانة إيجابياً، بقبول الإرادة السَنِية لتنفيذ المشروع.

  وعلى الأثر بادر الوالي رشيد بك إلى تشكيل لجنة للإشراف على تنفيذ المشروع، وقد تألفت اللجنة برئاسة قومندان القشلة العُثمانيّة عصمت باشا، ومن عضوية: عمر بك بكباشي طابور البشنجي التاسع (عضو لجنة الإنشاءات العسكرية) وخيري بك طبيب أول في الخستة خانة العسكرية، المستشفى العسكري، الأستخانة، ومن صاحب الرفعة قول أغاسي حسين بك وفتوتلو مصطفى أفندي قباني، وسَر مهندس النافعة (سَر أي نقيب) عزتلو بشارة أفندي الدب، ومن عضوين من مجلس بلدية بيروت هما: مكرمتلو الشيخ طه أفندي النصولي (الذي خلفه بعد نقله إلى محكمة الاستئناف الشرعية رفعتلو محمد أمين أفندي البربير)، ورفعتلو جرجس أفندي الشويري، ورفعتلو مهندس البلدية يُوسُف أفندي أفتيموس.

ولا بد من الإشارة إلى ما قام به لإنجاز هذا المشروع الضخم صاحب الهمّة وصاحب السعادة عبد القادر أفندي قباني رئيس المجلس البلدي، بالتعاون مع سعادتلو عصمت باشا قومندان موقع بيروت.

وأول ما قررته لجنة الإشراف إقامة برج الساعة في الساحة الممتدة بجوار ثكنة العساكر الشاهانية والمستشفى العسكري، أي بين السراي الكبير ومجلس الإنماء والإعمار اليوم، ويُعتبر هذا الموقع من أفضل المواقع بسبب ارتفاع المكان الواقع على هضبة مرتفعة ولتوسطه أنحاء المدينة.

وفي البداية تمّ تكليف مهندس البلدية رفعتلو يوسف أفندي أفتيموس، أحد أفاضل طائفة الروم الكاثوليك في بلدة دير القمر، بهندسة البرج، وإشترطت اللجنة عليه أن تكون هندسة البرج على الطراز المعماري العربي، ولما كان المهندس يوسف أفندي من ذوي الخبرة العُثمانيّة والدولية، فقد وفق في هندسة البرج – المنارة .

وفي 5 شعبان عام 1315هـ الموافق في التاسع من شهر كانون الثاني عام 1897م إحتفل أبناء بيروت بحدثين هامين: الأول حفل وضع الحجر الأساسي لمنارة الساعة العمومية، والثاني: الاحتفال بعيد مولد السلطان عبد الحميد الثاني، وأقيم الاحتفال بحضور عطوفة ملاذ الولاية وأركانها والأمراء والقادة العسكريين، وأكابر المأمورين ووجه البلد، وقد صدحت الموسيقى العسكرية العُثمانيّة بأحلى ألحانها، ثم تليت الخطب البليغة باللغتين التركية والعربيّة، ووجه الجميع الدعاء للذات الشاهانية بالعزّ والبقاء، فأمَّن الجميع على هذه الأدعية الحميمة، وعلى غرار عادات المسلمين في بيروت والعالم الإسلامي، فقد نحر خاروف، ثم قُدّم لعطوفة الوالي معول، فضرب به ضربتين إيذاناً ببدء العمل في أساس البناء، ووضع الحجر الأول وركّزه بمطرقة صغيرة من الفضة، وفي نهاية الحفلة أخذ رسم المحتفلين بالتصوير الشمسي، ثم باشرت اللجنة والبناؤون في العمل، وشّمروا عن ساعد الجّد، وواصلوا البناء إلى أن انتهوا منه في مدة خمسة عشر شهراً.

أما فيما يختص وصف البرج – المنارة، فهي مربعة الشكل يبلغ علوها 25 متراً، وهي مؤلفة من خمس طبقات، واجهتها الرئيسيّة تستقبل مشرق الشمس، وفي أساس الطبقة السفلى دكة مربعة مفروشة بالرخام طولها سبعة أمتار ونصف المتر وهكذا عرضها، يُصعد إليها بدرجتين من جهة المدخل، ويحيط بها سلسة من حديد، وفي زواياها الأربع ثلاث كرات من الحديد المصمّت.

والطبقة الأولى مبنيّة في وسط الدكة المشار إليها تكسير قاعدتها أربعة أمتار في أربعة، لها وجه بديع المنظر إستفرغ المهندس جهده وفنّه في تنميقه وهو من الحجر المجزّع المعروف في بيروت العُثمانيّة (بأبي ظُفر) لما فيه من آثار الحيوان والأصداف القديمة والنبات، نقله البناؤون من أحجار دير القلعه، وفيه المدخل وهو باب ذو مصراعين خشبه من شجر الأزدرخت (الزنزلخت) عمرها أكثر من مائة سنة، تفنّن وتأنق في شغلها الحاج عمر بيضون المشهور بعمر قريعة من مسلمي بيروت، وكان مشهوراً بأعمال النجارة، وهو من النجارين البارعين، لذا أوكلت إليه لجنة الإشراف شغل كل الأعمال الخشبية والنجارة في البرج.

ويُلاحظ أنه يوجد فوق الباب الخشبي إطار من الرخام الأبيض المرصّع والمطّعم بالحجر الأسود الحوراني، والحجر السمّاقي، والحجر الأحمر المعروف بأبي زنار المجلوب من بلدة دير القمر، وفي وسط الإطار قنطرة صغيرة على الطراز العربي مركّبة من الحجر المعروف بالشحم واللحم ومن الأسود الأصم، وفوق إطار الباب عند أعلاه قطعة جميلة من الشغل العربي الهندسي المعروف بالمقرنصات على غرار مقرنصات المساجد والقصور الأندلسيّة، ومقرنصات برج الساعة على غاية من الجمال، تزينها ضروب من النقوش الهندسيّة ويعلو هذه الرسوم قطعة كبيرة من حجر الشحم واللحم والأسود الأصم، ويحيط بجوانب المدخل طنفٌ من الرخام مزيّن بأشكال هندسيّة ناتئة في البناء على نمط الخطوط العربيّة، وفي أعلى كل ذلك صفيحة كبيرة من الرخام دُهنت باللون الأخضر، كُتب عليها بأحرف ذهبيّة تاريخ إنشاء برج الساعة باللغة التركيّة، وهي من خط الكاتب والخطّاط الشهير علاَّم أفندي علاَّم، وهذا نص الكتابة:

(زينت افزاى مقام معلاى خلافت إسلاميّة وأريكه بيراى سلطنت سنيه عثمانيّه السلطان بن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان ثانى حضر تلرينك طرف اشرفلرندن اشبو ساعت قله سى موسسات نافعة ملوكانه لرينه علاوةً بيك اوجيوز اون التي سنهُ هجريه سنده بنا وانشا ايدلمشدر هجري سنه 1316 رومي سنة 1314).

أما ترجمة النص باللغة العربيّة فهو التالي:

( أنشيء برج الساعة هذا من جانب من ازدانت به أريكة السلطنة السنيَّة العُثمانيّة ومقام الخلافة الإسلاميّة حضرة السلطان أبن السلطان السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني علاوةً على مؤسساته الملوكانيّة النافعة وذلك سنة 1316 هجريّة – 1314 رومية).

 

وفيما يختص الجهات الثلاث الباقية من الطبقة السفلى فيزيّنها شماسات زجاجيّة، أي القمندلونات، مختلفة الألوان على أشكال هندسيّة عربيّة، وهي مزدوجة، في وسطها عمود يُعرف بالشمعة من الحجر الفرني المكلّس الموجود في جوار البلد، وحول الشماسات صف من الحجر الأبيض الملكي المجلوب من جونية، والأسود الشامي الناري (البازلت Basalte) يتلوه إطار أوسع من الرخام العادي يبرز منه طنف مفتول فتل الإسورة.

قام بجميع أشغال الرخام ونقشها المعلم ديونيسيوس صوّان من أبناء المصيطبة من طائفة الروم الأرثوذكس، غير أن المقرنصات قام بعملها المعلم يوسف العنيد الشامي من طائفة الروم الكاثوليك ، أما كيفيّة الصعود إلى الطبقات العليا من البرج، فيُصعد إليها من داخل البرج بسلم من الحديد ذي 125 درجة، إشتغله أحد الحدادين الماهرين المشهورين من أبناء بيروت وهو عبد الستّار سوبرة من الطائفة الإسلاميّة في الثغر.

أما الطبقة الثانية من البرج فيزيّنها أربع شماسات كبرى (قمنلونات) من الرخام الأبيض المطّعم بخطوط سوداء، وأسفل دفاتها، درفاتها، من الخشب المخروط المعروف بالمشربيات، ويعلو المشربيات زجاج ملوّن كما في الطبقة السفلى.

وفي الطبقة الثالثة أربعة أبواب تفضي إلى كنان، بلكونات، كلها من الرخام الأبيض المطعَّم بالأسود، والأبواب من حسب المشربيات، وفي هذه الطبقة، الطابق الثالث، عُلّق جرس الساعة الذي بلغ قطره 85 سنتيمتراًً وزنه 300 كيلو غرام.

أما بيت الساعة ففي الطبقة الرابعة، وفيها أربع مبوقات على أربع جهاتها مصنوعة من الرخام الأبيض المطعَّم بالحجر الأسود والأحمر، وقد استُوردت الساعة من مصنع الساعاتي الشهير بولس غرنيه P. Garnier في باريس بواسطة سفارة الدولة العليّة العُثمانيّة فيها، وهي ساعة ممتازة بخفة ورشاقة، أجهزتها تنزل منها أثقال إلى الطبقات السفلى، وأكبر هذه الأثقال لا ينقص عن 39 كيلوغراماً .

وعلى كل جهة من الجهات الأربع في الطبقة الرابعة ميناء للساعة، قطر كل ميناء متر وستون سنتيمتراً رسمت عليها من جهتي الشرق والغرب الأرقام الرومانيّة، وفي جهتي الجنوب والشمال الأرقام الهنديّة، غير أن الإبر جميعها تدل على الساعة العربيّة، وكذلك فإن دقات الساعة هي على التوقيت العربي، وكانت لجنة الإشراف قد أوكلت تركيب الساعة إلى الساعاتي الشهير قيصر شكري من الطائفة المارونيّة. وتنتهي الطبقة الرابعة بأطناف ناتئة (كرنيش) من الحجر الملكي على الطراز المعروف بالمقرنص.

والطابق الخامس من برج الساعة مؤلف من أربعة شبابيك بُنيت بالحجر الأبيض الملكي والأسود الشامي الناري تنتهي أيضاً بأطناف من المقرنص الأبيض من الحجر الملكي، وفوق المنارة، البرج، سطح مساحته تسعة أمتار مربعة تكتنفه شرف على شبه التاج من الحجر الرملي البيروتي المطعّم بالحجر الأسود الناري، ويرى الناظر من أعلى الطابق الخامس مناظر بيروت العُثمانيّة ولضواحيها على غاية من الروعة والجمال، لأن الموقع المميّز للبرج يؤهل الناظر الإشراف على جميع أنحاء مدينة بيروت وضواحيها وسواحل البحر ومشارف جبل لبنان.

وبعد الانتهاء من البناء ومستلزماته، فقد تبيّن أن مجموع ما أُنفق عليه مع ثمن الساعة والأجور كافة ما مجموعه 126 ألف قرش ذهبياً ، وقد حدّدت حفلة تدشين برج الساعة في 31 آب بمناسبة عيد جلوس السلطان عبد الحميد الثاني على العرش.

هذا وقد مرّ على بناء برج الساعة أكثر من مائة عام، كما مرت عليه عهود عثمانيّة وفرنسيّة واستقلالية عديدة، بالإضافة إلى حروب وأحداث أمنيّة بدأت بين 1914-1918، 1939-1945، 1958-1975، و1990م، غير أن هذا البرج ما زال شامخاً صامداً كشموخ وصمود بيروت المحروسة، وقد حرص مجلس الإنماء والإعمار بتوجيه من الرئيس رفيق الحريري، وقبل توليه رئاسة الوزراء، على ترميم وصيانة هذا الأثر العُثماني البيروتي في عام 1991م مما أعاد إليه قيمته الأثريّة.

وبمناسبة 22 تشرين الثاني عام 1996م ذكرى عيد الاستقلال في لبنان، فقد تمّ الاحتفال بإعادة تشغيل الساعة الحميديّة بعد أن وُضعت ساعة جديدة في جهاتها الأربع، وسمع البيارتة دقاتها للمرة الأولى بعد توقف دام سنوات عديدة، وفي 18 أب 1998م كانت قد انتهت أعمال الترميم في السراي الكبير، وبذلك بدا التكامل المعماري والأثري واضحاً بين برج الساعة الحميديّة والسراي الكبير، الذي تمّت توسعته وزيادة طابق علوي آخر، فضلاً عن مبنى الخسته خانه العُثماني، أي مبنى مجلس الإنماء والإعمار اليوم.