الخستة خانات والأطباء في بيروت العُثمانيّة     

 

كانت بيروت على غرار أكثر المدن القديمة، فبعد مرحلة الإنهيار العلمي الذي عمّ المناطق العربيّة والإسلاميّة ما بعد العصور الوسطى، بعد أن كانت تتميز هذه المناطق بأنها مراكز للعلم، عادت الأساليب التقليديّة في معالجة المرضى، وإختفت البيارستانات (المستشفيات) المتخصّصة، لتحل محلها أساليب التداوي العادية.

 

وكان الحلاق في المجتمع البيروتي والعربي بشكل عام هو الطبيب المعالج لكافة الحالات لا سيما الأمراض الجلديّة وأمراض الرأس وأوجاع الأسنان والأضراس، وهو الذي يقوم بختن الأطفال. ومن هنا جاء المثل الشائع : (بيكون عبيحلق بيصير عم بيقبع أضراس).

 

وتبعاً للظروف الصحيّة والعسكريّة، فقد بدأت الدولة العُثمانيّة بإنشاء بعض الخسته خانات في المناطق والولايات العُثمانيّة. ففي أواسط القرن الثامن عشر أنشأت الحكومة العُثمانيّة المستشفى العُثماني في بيروت في المحلة المعروفة بالثكنات بجوار بوابة يعقوب. كما أنشأت في أواسط القرن التاسع عشر الخسته خانة الجديدة في بيروت مع  القشلة العُثمانيّة في المنطقة المعروفة اليوم بمنطقة سراي الحكومة القديمة ومركز العدليّة السابق في داخل البلد.

 

ومن أطباء المستشفى الحكومي العُثماني الدكتور إبراهيم أفندي صافي والدكتور خيري بك، وقد وصف عبد الرحمن بك سامي في حوالي العام 1890م في كتابه (القول الحق في بيروت ودمشق) هذا المستشفى بقوله: ( توجهت مع حضرة عزتلو محي الدين بك حمادة لزيارة مستشفى الحكومة السنيّة. فقابلنا هناك جانب الفاضل الدكتور خيري بك، نجل أحد أعيان الآستانة العليّة، وأرانا مع رفقائه الأطباء غرف المستشفى ومعداته، فإذا هو كامل الترتيب، نظيف للغاية، وجميع أسرته على أحسن ما شاهدت في المستشفيات (الأسبتاليات). وكان المرضى قليلين وذلك لجودة الهواء وإعتناء حضرات الأطباء. ومما زادني سروراً أُنس حضرة الدكتور خيري بك، ومعاملته مع حضرات رفقائه المرضى باللطف والإعتناء والإهتمام الزائد. وبلغني أن معظم الفضل في قلة الأمراض عائد لحضرة الفاضل حمادة بك رئيس مجلس بلدية بيروت، الذي يفرغ جهده أناء الليل وأطراف النهار مهتماً بأحوال النظافة، وإزالة ما يضّر بالصحة العموميّة...).

 

ومن المستشفيات القائمة في بيروت العُثمانيّة المستشفى البروسي المعروف باسم (خستخانة بروسيا) وموقعه في رأس بيروت قرب الكليّة السوريّة الإنجيليّة وهو على نفقة الألمان وأمراء مار يوحنا. وكان يقبل على هذا المستشفى الفقراء من مختلف المناطق، وكانت المعاينة مجانيّة، في حين كانت الراهبات تعتني بالمرضى وبنظافة الغرف. وكانت رئيسته في أواخر القرن التاسع عشر السيدة لويزا.

 

ومن المعروف أن العلامة الفيلسوف الدكتور فان ديك (Van Dyke) خدم في هذا المستشفى، ونال أعلى نيشان (وسام) من الإمبراطور الألماني غليوم الثاني. كما خدم فيه الدكتور يوحنا ورتبات.

 

أما فيما يختص بأساتذة الطب في الكليّة السوريّة الإنجيليّة (الجامعة الأميركيّة فيما بعد) فإنهم كانوا يعاينون المرضى في المستشفى البروسي، كما كان طلاب في هذه الكليّة يتدربون في هذا المستشفى، وذلك قبل إنشاء المستشفى الخاص بهم.

 

وفي المستشفيات العامة في بيروت في العهد العُثماني المستشفى اليسوعي في اليسوعيّة، وكان يديره أساتذة الطب  في المدرسة اليسوعيّة وكان هؤلاء الأطباء يطببون أيضاً في مستشفى الراهبات العازاريات في منطقة العازارية والذي عُرف فيما بعد باسم المستشفى الفرنسي.

 

وفي العهد العُثماني أنشأت الطائفة الأرثوذكسيّة مستشفى الروم في الأشرفيّة. وقد تقدم للتطبيب فيه مجاناً كل من الدكتور فان ديك  والدكتور حبيب طبجي والدكتور سمعان الخوري.

 

ومن أطباء بيروت في أواخر القرن التاسع عشر:

·       د. إبراهيم صافي

·       د. شاكر الخوري

·       د. حبيب جبّولر

·       د. حنا جبّور

·       د. إلياس شكر الله

·       د. يعقوب ملاط

ومن الأطباء الأجانب :

·       د. بوش

·       د. بركستوك

·       د. بوست

·       د. لورانج البروسي

·       د. فان ديك

·       د. يوحنا  ورتبات

ومن المعروف أن كلية الطب التابعة للكليّة السوريّة الإنجيليّة تأسست عام 1867م بمساعي كل من الأخيرين أي الدكتور فان ديك والدكتور ورتبات.

 

أما فيما يختص بالأطباء المسلمين الأوائل في بيروت، فإن ذلك قصة ينبغي ذكرها وتدوينها. فمن المعروف أن آل قدّورة هم أول من إخترقوا جدار الطب، وكان الدكتور أديب قدّورة أول طبيب مسلم بيروتي لبناني يتخرج من الكليّة السوريّة الإنجيليّة في بيروت عام 1881م بعد أن أمضى خمس سنوات في دراسة الطب (1876-1881م). بينما كان مصطفى قدّورة أول صيدلي مسلم يتخرج من الكليّة ذاتها عام 1900م، ويؤسس صيدليّة في منطقة السور في باطن بيروت.

 

ولم تكن هذه الفترة من القرن التاسع عشر قد شهدت وجوه أطباء مسلمين، سوى الدكتور أديب قدّورة. مما حدا بالشيخ عبد القادر قبّاني أول رئيس لجمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت، إلى حث المسلمين على التعلم، ومجاراة الطوائف الأخرى بالإستفادة من العلم والعلوم الحديثة، وأكّد على ضرورة التقدم وترك أساليب التعليم القديمة والإقتداء بما هو سائد في الكليات والمعاهد الأجنبيّة.

ولما تأسست جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة في بيروت عام 1295هـ 1878م، كان من هم المؤسسين الأوائل إرسال بعض الطلاب المسلمين إلى مصر لدراسة الطب. وبالفعل ففي جلسة 22 شوال عام 1296هـ 8 تشرين الأول عام 1879م، برئاسة حسن بك محرّم رئيس الجمعيّة الجديد، قرر أعضاء الجمعيّة تقديم تقرير للحكومة العُثمانيّة كي تخابر الولاية (أي ولاية بيروت) الحكومة المصريّة، بقبول خمسة تلاميذ، ترسلهم الجمعيّة لمدرسة الطب على نفقتها.

وفي 29 ذي الحجة عام 1296هـ 14 كانون الأول عام 1879م عقدت جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة قي بيروت جلسة، بحثت فيها الموضوع ذاته، وقد تلي في الجلسة ما يلي :

(... تلي التحرير الوارد خطاباً وجواباً إلى صاحب الدولة الأبهة أفندينا الوالي، من نظارة الداخليّة المصريّة المؤرخ في 19 ذي الحجة 1296هـ ، تومرو 121، المتضمن إمكان قبول وتعليم خمسة تلامذة من طرف هذه الجمعيّة في المدرسة الخديويّة الطبيّة في مصر. وعلى ذلك قررنا تعيين كل من أحدنا الشيخ أحمد أفندي عباس، وحسن أفندي بيهم، وأحمد أفندي دريان، لجنة لإنتخاب خمسة تلامذة من الأولاد الطالبين الدخول، مع ملاحظة ذكاء التلاميذ وإستعدادهم الطبيعي وقابليتهم سناً، وذلك بمخابرة من يقتضي من الأطباء. وبعد الإنتخاب تعرض أسماء المنتخبين على الجمعيّة لتقرر إرسالهم إلى المدرسة المذكورة حسب القرار السابق).

وفي جلسة الجمعيّة التي عقدتها يوم الجمعة 5 محرّم 1297هـ 19 كانون الأول 1879م، تبيّن بأن الجمعيّة اختارت الطلبة الذين تنوي إرسالهم إلى مصر. ومما جاء في قرار الجمعيّة :

(.... حيث أن اللجنة المكلّفة بإنتخاب خمسة تلامذة من أولي النباهة ليرسلوا إلى المدرسة الطبيّة في مصر، للتعلم فيها أنواع الفنون الطبيّة، قد قدمت تقريراً مؤرخاً في 4 محرّم 1297هـ يتضمن إنتخابها التلامذة المذكورة (هكذا) وهو السادات :

·       كامل قريطم

·       عبد الرحمن الأنسي

·       سليم سعد الدين سلام

·       حسن الأسير

·       محمد سلطاني

وأبلغتنا شفاها قبولهم للذهاب إلى المدرسة المذكورة فتقرر :

1.  قبولهم وإرسالهم للمدرسة المذكورة على نفقة الجمعيّة.

2.  إستحضارهم في ليلة الأربعاء القادم للجمعيّة، وإعطاء النصائح والتنبيهات اللازمة لهم.

3. إعطاء بوصلة بأسمائهم إلى حضرة الرئيس ليستحصل على جواب من دولة أفندينا الوالي إلى نظارة الداخليّة بمصر.

4. المذاكرة في أول فرصة عن التخصيصات اللازمة للتلامذة المذكورة. وأما أحدهم محمد السلطاني فهو وأن يكون مقرراً إرساله، إلا أنه صار التذاكر في لزوم الوقوف على رضاء وليه، لأن اللجنة أبلغتنا رضاء أولياء الأربعة البقيّة فقط).

 

وفي جلسة العاشر من محرّم 1298هـ 24 كانون الأول 1879م،عقدت الجمعيّة جلسة أخرى وإتخذت القرار التالي :

(... قررنا بالإتفاق أن أحدنا محرم بك (رئيس الجمعيّة) يخابر سعادة لمتصرف خطا أو شفاها، بأمر ذهاب الخمسة تلاميذ المتوجهين إلى مدرسة الطب في مصر، أي يستحصل لهم على أحد من طرف الحكومة لأجل الذهاب بمعيتهم وإيصالهم إلى محل مقصدهم، ويكون معه أحد من طرف الحكومة مصحباً به يسلمهم إلى حكومة الإسكندريّة، ويكون فحوى الأمر : توصيل التلامذة إلى مصر على نفقة الحكومة المصريّة بالسكة الحديديّة إن أمكن).

 

وفي 12 محرّم من السنة ذاتها عقدت جمعيّة المقاصد جلسة قررت فيها :

(كلفنا أحدنا بديع أفندي اليافي بإستحصال تواصي من عزتلو فخري بك إلى أصحابه بمصر بحق الخمسة تلاميذ المرسلين من طرف الجمعية لمدرسة مصر، وقررنا تحرير كتابين من طرف الجمعيّة، أحدهما إلى الشيخ الإبياري والثاني لسعادة حسن راسم باشا توصية بهم.

قررنا صرف خمسة وعشرين ريالاً مجيديّاً من الصندوق على الحساب إلى اللجنة المكلّفة بتسفير التلامذة إلى مصر).

 

وفي جلسة الجمعيّة في 26 محرّم 1297هـ 9 كانون الثاني 1880م جاء في محضر الجلسات ما يلي :

(نتقدم الشكر إلى الله سبحانه وتعالى الذي وفق هذه الجمعيّة لإرسال الخمسة التلامذة المتقدم ذكرهم سابقاً إلى مدرسة الطب في مصر، وذلك في يوم السبت الواقع في 22 محرّم 1297هـ في قمرة الوابور الفرنساوي عن طريق الإسكندريّة مصحوبين مع أحد ذوات البوليس، حسن أفندي المأمور المخصوص من طرف الحكومة السنيّة بإيصالهم إلى حكومة الإسكندريّة، التي ترسلهم لمصر للمدرسة المذكورة. كما أننا نقدم الثناء لدولة والينا الأفخم، ولسعادة متصرفنا الأكرم، وللحكومة المصريّة ولكل من ساعدنا بهذا المشروع الخيري).

 

والأمر الملاحظ أن رحلة المسلمين في بيروت مع التخصص في العلوم الطبيّة، كانت رحلة شاقة، صمّم المخلصون الأوائل على خرق ذلك الجدار، وقد تعاونوا فيما بينهم، ومع الوالي مدحت باشا لتحقيق تطلعاتهم وآمالهم.

وما هي إلا سنوات حتى عادت البعثة الطبيّة بشهادات من مدرسة القصر العيني في مصر، ولترافق زميلها الدكتور أديب قدّورة، ولتخطوا معاً خطوات في الخدمة الإسلاميّة العامة، ولتحث بقية الطلبة المسلمين على متابعة التحصيل العلمي في بيروت والخارج.

وقد شهدت بيروت فيما بعد تخرّج عدد من الأطباء المسلمين من الكليّة السوريّة الإنجيليّة، ومنهم على سبيل المثال الدكتور بشير القصّار المتوفى في العام 1935م.