أوقاف المسلمين في بيروت خلال العهد العثماني

الفصل الأول

مقدمة في تاريخ الوقف الإسلامي:

تعتبر الأملاك والعقارات الوقفيّة من الأملاك ذات النفع الخيري العام، وتكون عادة ملكاً عاماً للطوائف الدينيّة، وقد أعُتمد عبر التاريخ على واردات هذه الأوقاف في بناء الكيانات الإجتماعيّة والثقافيّة والإقتصاديّة بل وفي بناء الكيانات السياسيّة والعسكريّة لتلك الطوائف.

 

والوقف في اللغة هو (الحبس)، كأن يقال وقفت الداية أي (حبستها على مكانها). وفي الشرع حبس العين على حكم مُلك الله تعالى، والتصرف بريعها على جهة من جهات الخير في الحال أو في المال. والواقع فإن الإسلام عرف الوقف منذ عهده الأول، وكان أول وقف خيري في الإسلام هو الذي أوجده رسول الله محَمّد عليه وعلى أصحابه أفضل الصلاة والسلام حين قدومه مهاجراً إلى المدينة المنورة قبل أن يدخلها، فبنى مسجد قباء، ثم أقام المسجد النبوي الذي بناه في السنة الأولى للهجرة من مكة إلى المدينة.

كما وقف الرسول لجهة الخير العام الحوائط (البساتين) السبعة التي أوصى بها (مخيريق) إلى الرسول. ويُروى عن الصحابي عثمان بن عفّان، بإن النبي قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة فقال: (من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها الجنة. فاشتريها من صلب مالي) رواه النسائي والترمذي. وقد عُرف عن الرسول منذ بدء الإسلام تشجيعه الناس على إقامة الوقفيات لصالح المسلمين.

 

وبعد أوقاف الرسول محَمّد عليه الصلاة والسلام وقف الصحابي عمر بن الخطّاب أرض نخيل له بخيبر بإشارة من الرسول، فجعلها عمر لا تباع ولا تُوهب ولا تورّث، ويتصدق بها على الفقراء والمساكين وإبن السبيل وفي الرقاب والمجاهدين في سبيل الله.

ثم تتابعت أوقاف الخلفاء والصحابة مثال أوقاف عثمان وعلي (كرّم الله وجهه)، إقتداء بالرسول، ثم تكاثرت أعمال الوقف بين المسلمين إستجابة للحديث الشريف: (إذا مات إبن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له). وقد فسّر بعض علماء المسلمين بأن (الصدقة الجارية) هي الوقف. والحقيقة فقد أقام المسلمون العديد من الأوقاف طلباً لرضاء الله تعالى في الآخرة، وكذلك إحياء لذكراهم بالعمل الصالح في الحياة الدنيا.

 

ولا بّد من الإشارة، بأن المعروف في مذهب الإمام أبي حنيفة في الحالات التي يلزم الموقوف عنده زوال ملك العين عن الواقف إلى الله تعالى على وجه تعود إلى المنفعة العامة لجمهور المسلمين، ومتى لزم الوقف لا يباع ولا يُوهب ولا يورّث.

بينما الإمام مالك بن أنس وأصحابه يرون بقاء الموقوف على ملك الواقف، لكن لا يباع ولا يوهب ولا يورّث، هذا إذا كان الواقف ذريّاً على الأولاد والنسل...،

أما إذا كان الوقف عاماً على المساجد والزوايا والتكايا ودور الأيتام والفقراء الخستاخانات (المستشفيات)، فقالوا بأن الموقوف لا يكون ملكاً لأحد.

 

أما الرأي المعمول والمٌفتى به في لبنان، فهو قول الإمام أبي يُوسُف القائل بإن الوقف يخرج عن ملكيّة الواقف ولا يبقى له عليه أي حق من حقوق الملكيّة ويصبح في حكم ملك الله تعالى، فلا يدخل في ملك أحد من الناس، فلا يباع ولا يوهب ولا يوصى به ولا يرهن، لأنه خرج عن ملكية الناس، ولا يملك الرجوع عنه حتى لا يجوز للواقف نفسه أن يدير الوقف إلا إذا إشترط لنفسه هذا الحق في صك الوقف. وكما يجوز وقف الأملاك والعقارات فإن وقف الدراهم والدنانير والأطعمة جائز أيضاً.

 

ولا بدّ في هذا المجال من الإشارة إلى الفروقات بين الوقف الخيري العام والوقف الذري الخاص، فالوقف الخيري هو الموقوف على جهة خيريّة عامة كالوقف على المساجد والزوايا والكنائس والأديرة أو على الفقراء والعجزة.بينما الوقف الذري، هو الذي يكون مشروطاً للواقف نفسه ومن ثم على أولاده وعلى ذريته ونسله، وإذا إنقطعت ذريته توقف إلى جهة خيريّة أو إلى مؤسسة دينيّة أو إلى فقراء مدينة ما، كما نصت عليه بعض الوقفيات الذريّة الواردة في سجلات المحكمة الشرعيّة في بيروت المحروسة في العهد العُثماني. ويجوز للواقف الذري أن يكون مؤبداً أبدياً سرمدياً أو مؤقتاً. وعلى هذا فإن الوقف الخيري العام هو أفضل من الوقف الذري وأعم نفعاً وأفضل مرتبة، ولهذا فقد عمدت بعض البلاد الإسلاميّة إلى إلغاء العمل بالوقف الذري، فعملت على حلّه وإعادته إلى الورثة، واقتطاع جزء منه للمصلحة العامة.

أما الوقف المضبوط، فهو الوقف المتضمن أوقاف وقفها السلاطين العُثمانيون على جهات الخير العامة، وقد عهدوا بإدارتها إلى نظارة (وزارة) الأوقاف العُثمانيّة (وإنتقلت هذه الأوقاف إلى إدارة الأوقاف الإسلاميّة بعد زوال الحكم العُثماني).

 

والوقف الملحق، هو الوقف الذي يقوم بإدارته متولٍ بإشراف نظارة الأوقاف العُثمانيّة (المديرية العامة للأوقاف الإسلاميّة حاليّاً).

بينما الوقف المستثنى، فهو الذي يديره متولٍ ويتبع فيه شروط الواقف كأكثر الأوقاف من ذريّة وخيريّة.