أوقاف المسلمين في بيروت خلال العهد العثماني

الفصل الثالث 

 

الأوقاف في العهد العُثماني :

حظيت الأوقاف في عهد الدولة العُثمانيّة بالإهتمام اللائق بها بعد تطور الفهوم الوقفي وتبيان نتائجه الإيجابيّة في مختلف المجالات. وقد أقبل المسلمون في العد العُثماني على العمل به وتطبيقه في شتى الأمصار الإسلاميّة. ومن الدلائل على ذلك التطور الملموس في ازدياد عدد وحجم الوقفيات وتعدد مجالات الإستفادة منها والإنفاق عليها. ويكفي القول بأن عدد الأوقاف المقامة في إسطمبول وحدها بين الفترة 1453-1553م قد بلغ 2515 وقفيّة، هذا بإستثناء أوقاف السلاطين على الجوامع والمدارس والمستشفيات التي كان لها إيردات ضخمة.

ومما تجدر الإشارة إليه في هذه الفترة ورود إختلاف في التطبيق والوضع القانوني بين شطري الدولة العُثمانيّة الشرقي والغربي، بسبب تعدد وتنوع الطوائف والمذاهب والجماعات والمناطق الشاسعة التي كانت خاضعة للحكم العُثماني. ولقد عملت الدولة العُثمانيّة على إدخال أراضي الرومللي (بلاد البلقان وشرقي أوروبا) ضمن نظام الأراضي والأوقاف حسب الشريعة الإسلاميّة. وقد شارك فقهاء القرن الخامس عشر والسادس عشر وعلى رأسهم شيخ الإسلام أبو السعود أفندي في صياغة الوضع الجديد لهذه الأراضي.

 

أما في الشطر الشرقي من الدولة العُثمانيّة (الأناضول والبلاد العربيّة عموماً) فقد حافظت الدولة العُثمانيّة على النظام السائد الذي ورثته عن الدول الإسلاميّة التي سبقتها في حكم هذه المناطق. وقد جرت العادة على تدوين الأراضي الميريّة وأراضي الأوقاف والأملاك كل على حدة. ويمكن ملاحظة هذه الفروق بالعودة إلى السجلات العُثمانيّة (دفاتر تحرير ـ تسجيل الأراضي) الموجودة في دار المحفوظات التابعة لرئاسة الوزراء في إسطمبول، وكذلك سجلات دار المحفوظات للمديريّة العامة للطابو وتسجيل الأراضي في أنقرة. وبالمقارنة مع سجلات المحاكم الشرعيّة في بيروت وطرابلس وصيدا وسواها من المحاكم الشرعيّة في الولايات العُثمانيّة المشرقيّة.

 

وكانت الدولة العُثمانيّة قد حرصت على تنظيم إدارة الأملاك الوقفيّة، فكانت الرائدة في الإصلاح الوقفي، فخصّصت بعض موظفي الدولة للإشراف على الأوقاف ذات الصبغة العامة، وهي التي ينفق ريعها على المساجد والمدارس والمستشفيات ... وتركت الحكومة الأوقاف الذريّة في عهدة القيمين عليها. ثم نُظّمت الأوقاف العامة تنظيماً عصرياً من حيث الجباية والصرف وإصلاح الخراب وترميمه. وكان من نتائج التنظيمات الجديدة :

1.   توحيد عمل إدارة الأوقاف، وحصول وفر في نفقات الإدارة ونفقات الجباية والصيانة.

2.   تفرغ بعض الإداريين للإهتمام بالوقف دون سائر الأعمال. إضافة إلى أن الإداريين الجدد لم يكونوا أنسباء أو أقرباء للواقف على غرار ما كان معمولاً به سابقاً، كما أصبح تعيين خطباء المساجد والأئمة والمؤذنين ... غير مرتبط مباشرة برضى أو قبول القيم أو المتولي.

3.   تخصيص مراقبين ومدققين حكوميين في شؤون الأوقاف، علماً أن الوازع الديني والأخلاقي للقيم على الواقف يبقى من أهم الضمانات للأملاك الوقفيّة.

وفي سنة 1259هـ 1843م، صدر في عهد السلطان العُثماني عبد المجيد (1839-1861م، 1255-1278هـ) بيورلدي (فرمان) موجه إلى النواب والمفتين في إيالة صيدا وطرابلس وسنجاق القدس وغزة والرملة ويافا واللد والخليل ونابلس وجنين، يتعلق بالدعاوى والمنازعات القائمة حول الأملاك الوقفيّة السلطانيّة والخاصة.

ومما جاء في هذا البيورلدي السر عسكري ... أنه بمقتضى الأمر السامي الوارد من جانب الباب العالي، فالدعاوى والمنازعات التي توقع بين البعض بخصوص جميع المحلات والأراضي والمسقفات التابعة أوقاف حضرات السلاطين العظام والوزراء الفخام وساير الأوقاف أن تكن كليّة أم جزئيّة، وتصير رؤيتها بالمحاكم الشرعيّة، فالذين لا يكون موجوداً بيدهم حجج عتيقة ويدعو بها بموجب إخبار الشهود لا تصير المسارعة بإعطاء سندات التملك لهم، بل ينبغي إن بحضور ناظر العموم الأوقاف محمد درويش أفندي يصير  تحقيقها بالأطراف في المجال، وتصير مراجعة شروط الوقفيّة، ويجري أمر ذلك الوقف على المنهج الشرعي بغاية التدقيق. فلزم إصدار مرسومنا هذا العمومي الخطاب... من ديوان إستقلالنا ومشيرية صيدا وملحقاتها لكي عند الوقوف على مضمونه يصير إجراء العمل بموجبه).

 

وفي سنة 1283مالية – 1285 هجرية صدر في عهد السلطان عبد العزيز (1861-1876م، 1278-1293هـ) تنظيمات جديدة وتعديلات في النظام العُثماني، جاء في أحد مواده (وإن كانت في أصلها مخالفة للشرع الإسلامي) حماية الأوقاف والمؤسسات الإسلاميّة في بعض المظاهر الإجتماعيّة المخالفة للشرع الإسلامي. فقد جاء في المادة (12) من النظام العُثماني (مادة بيع المسكرات) ما يلي: (لا تعطى الرخصة بفتح دكاكين ومخازن المسكرات في المحلات القريبة أقله ماية ذراع من الجوامع والتكايا والمدارس والمدافن... ولا في المحلات المأهولة بالإسلام فقط، ولا في المواقع التي يرى فيها محظور من جهة أمور الضابطة وعادات البلدة والمحلات التي لا يباع فيها أشياء مختلفة بل هي مخصّصة لبيع المسكرات وحدها، يجب أن تكون ذات باب واحد وأن تكون جوانبها الأربعة محاطة بجدار ...).

 

وفي سنة 1329مالية-1331 هجريّة صدر في عهد السلطان محمد رشاد الخامس (1909-1918م، 1327-1336هـ) نظام توجيه الجهات خاص بالأوقاف وما يرتبط بها من أعمال ووظائف. ومما جاء في المادة الأولى من هذا النظام: ( إن المدرسية والخطابة والإمامة ووظيفة القيّم وحافظ الكتب والمتولي وما شابهها من خدمات المؤسسات الوقفيّة تسمى جهة).

أما المادة (24) فقد نصّت على ما يلي: (إن توجيه تولية الأوقاف التي تكون وقفيتها موجودة ومعمولاً بها أو التي يتحقق كون تعاملها على الوجه الشرعي يجري بموجب الوقفيّة وبمقتضى التعامل. وأما تولية الأوقاف التي ليس لها وقفيّة معمول بها، ولم يتحقق أيضاً كون تعاملها على الوجه الشرعي، فتدار بمعرفة نظارة الأوقاف بدون أن توجه على أحد).

أما المادة (25) فقد نصت على أنه (إذا ظهر نزاع ودعوى في تولية الوقف الذي تكون توليته منحلّة فيدار ذلك الوقف بمعرفة نظارة الأوقاف لحين توجيه توليته).

وجاء في المادة (52): (إن المحكومين بجناية أو بجنحة مخلّة بالناموس، وقد كسب الحكم المعطى بحقهم الدرجة القطيعة ترفع عنهم الجهات الموجودة بعهدتهم وتوجيه على غيرهم توفيقاً لحكم هذا النظام ...).