السَّلفيُّون والقَدَريّون

ويتّضح من تراجم الشيوخ الذين ذكرناهم أنّ بيروت بدأت في العقْد الأخير من العصر الأموي تشهد تفاعل حركة فكريّة تمثّلت بجماعة المعتزلة الذين عُرفوا بالقَدَريّة، فقد نزلها بعضهم، وكانوا يبثُّون فكرهم بين أهل بيروت من المتردّدين على مسجدها الجامع، كما فعل غيلان ، وكان السَّلفيّون ينشرون فكرهم أيضاً دون صِدام بين الفريقين، ويبدو أنّ حركة القَدَريّين تفاقمت في بيروت حتى طالت الظنون الإمام الأَوزاعيّ نفسه، مما دفع باسماعيل بن عُبيد الله بن أبي المهاجر، الذي نزل بيروت مرابطاً في أيام مروان بن محمد، لأن يغضب ويجبذ الإمام الأَوزاعيّ حين رآن، وقال له: (إني أراكم من هؤلاءالقوم، يعني القَدَرَيّة، فلعلّك منهم !) ممّا حدا بالأَوزاعيّ لأن يُقْسم: (لا واللهِ ما أنا منهم).

كان الأَوزاعيّ متشدّداً في مذهبه السلفيّ، مناوٍئاً للقَدَريّة الذين لا يؤمنون بالقدّر.

ويروي (البخاري)  في تاريخه أن ثَوْراً بن يزيد الكلاعي ـ ويقال: الرَّحبيّ الحمصيّ ـ لقي الأَوزاعيّ، فمدّ ثور يده ليُصافحه، فأبى الأَوزاعيّ مصافحته وقال له: لو كانت الدنيا كانت المقاربة، ولكنَّه الدين. يقول لأنه كان قَدَريّاُ.

قال أبو مسلم الفَزاريّ: قلت للأَوزاعيّ" حَدَّثنا ثور بن يزيد. فغضِب غضبة شديدة ثم قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ستّةّ لَعَنْتُهُم ولَعَنَهُمُ الله وكلّ نبّيٍ مُجاب الدعوة الزائد في كتاب الله، والمكّذب بقدر الله).

وثور بن يزيد أحدهم. ثم قال لي: لا تأخذ دِينك عنه ولا عن محمد ن إسحاق فإنه كان يرى الإعتزال. قال أبو مسلم: فمحوت كتابي الذي سمعته من ثور وألقيته في التنّور.

وكان الأَوزاعي يُسيء القول في ثلاثة من القَدَريّة:

ثور بن يزيد.

محمد بن إسحاق.

زُرعة بن أبي إبراهيم.

قال محمد بن الحجّاج: خرجت أريد الساحل، فقال لي زُرعة: إذا أتيت الأَوزاعيّ فاقرئْهُ منّي السلامَ وقُلْ له: يقول لك زُرعة، من علَّمَكَ الذي تُحْسِنُه ؟ قال: فاجتمعت بالأَوزاعيّ وأخبرته بذلك. فقال الأَوزاعيّ: إذا لقِيتَه فاقْرِئهُ السَلام وقل له: صدّقتَ، تعلّمنا منك، فلما أحدثْتَ تركنا عِلْمك. (يعني كان يضع الحديث).

وكانت المناظرات الفقهيّة والعَقيديّة تجري في مجالس الخلفاء، فقد ناظر الأَوزاعيّ غَيْلانَ القَدَريّ بحضرة الخليفة هشام بن عبد الملك، فانقطع غَيْلان، ولم يَتُب.

هذه هي أهمّ الملامح الثقافيّة التي ظهرت في بيروت المحروسة خلال العصر الأمويّ، وكان أبرزها قيام واحد من أوائل المذاهب الفقهيّة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت المُبكّر. وهي خصوصيّة فكريّة تفرّدت بها بيروت عن بقيّة المدن اللبنانيّة والشاميّة الأخرى، وإنّ كان الإمام الأَوزاعيّ من مواليد بعلبك ، فإنّ عِلْمه وفِكره نضج في بيروت، وبها كانت مدرسته الفقهيّة والحديثيّة، وبين جَنَباتها كانت مواقفه وسيرته، وبديوانها أكتتب، وفيها رابط، ودافع عنها مع أبناء بيروت وبعلبك الذين أشادوا برجها المنيع، برج البعلبكيّة ، وبها توفّي.