يوم ولدت السينما اللبنانية

من رحم الحرب المقبلة وحلمت بالهذيان

 

إبراهيم العريس

لا نقول ولادة سينما الحرب اللبنانية... بل تحديداً، ولادة السينما اللبنانية. ففي ذلك اليوم، كان العرض، غير التجاري، الأول لفيلم (بيروت يا بيروت)، أمام جمع من المشاهدين، كان الفيلم يحمل توقيع مخرج لبناني شاب عاد حديثاً من باريس حيث درس السينما. كان فيلمه الأول ذاك قد أنجز بكثير من الصعوبات والمشقات... وكانت أحداثه تتوقف في أحد الأيام الأخيرة من شهر أيلول 1940 على حدث كان فاجعاً في حينه: موت الرئيس المصري جمال عبد الناصر، بالتزامن مع بدء انخراط الجنوب اللبناني في معركة سيطول أمدها مع إسرائيل، إذا أحداث الفيلم توقفت قبل ما يقرب من خمسة أعوام من اندلاع الحرب (الأهلية) اللبنانية. ومع هذا، اعتبر الفيلم، منذ عرضه، وسيظل يعتبر دائماً فيلماً عن تلك الحرب... ارهاصاً بها، بوقوعها؟ على الأقل تلمساً للمناحات السياسية والطائفية التي أدت إليها.


والاهم من هذا انه كان الفيلم الأول الذي يحاول أن يسمي الأشياء بأسمائها، ويقول إن ثمة في البلد انقسامات هي، أصلا، من العمق، بحيث ستخرب البلد ذات يوم. وفي هذا المعنى كان (بيروت يا بيروت) فيلماً لبنانياً حقيقياً، يسير على غير السكة التي اعتاد أن يسير عليها نمط معين من انتاجات سينمائية كان سائداً في لبنان منذ ولادة فن السينما فيه، قبل ذلك بأربعة عقود وأكثر.

بدايات... بدايات

لقد قدم مارون بغدادي، يومها، هذا الفيلم المؤسس... ومع هذا لم يكن، هو، المخرج الأول الذي ارتبط اسمه بمشروع الولادة الجديدة للفن السابع في لبنان. فمن ناحية كان برهان علوية - الدارس في بلجيكا - سبقه بفيلم هو (كفر قاسم) - غير أن هذا الفيلم كان سورياً عن القضية الفلسطينية. وليس له من لبنانيته سوى جنسية مخرجه، ثم دور هذا المخرج الكبير في المرحلة التالية من مراحل ولادة المشروع السينمائي اللبناني.


وسبقه أيضا غاري غارابيديان، ثم كريستيان غازي، في شرائط طويلة (جدية) عن قضايا سياسية: العمل الفدائي الفلسطيني، أشجان المثقف اللبناني... غير أن هذين لم يكونا سوى طائرين يغردان خارج السرب... ثم إن غارابيديان قتل في حادث مريع وهو يصور فيلمه (كلنا فدائيون)... أما غازي فكان يعتبر مناضلاً وشاعراً يعبر عن نفسه، بالسينما... لا أكثر.


مع مارون بغدادي، إذا، تجسد المشروع... وولد الجيل (الذي سيرقم خامساً، في مسيرة تاريخ السينما اللبنانية، بعد جيل المؤسسين - بيدوتي وعلي العريس، ثم جيل سينما الجبل - جورج قاعي وميشال هارون وجورج نصر... وجيل الإنتاج المصري في لبنان. وأخيراً جيل المساعدين الذين كانوا وراء الإنتاج التجاري مع معلمين مصريين هربهم إلى لبنان تأميم القاهرة للإنتاج السينمائي المصري). ولقد ضم الجيل الذي كان برهان علوية ومارون بغدادي رائديه، عدداً من فناني سينما آخرين، أتى معظمهم من السياسة (وكان هذا جديداً ليس فقط على السينما اللبنانية، بل على معظم السينمات العربية)... وكان من الطبيعي لهم أن يتعاطوا بالتالي في مشاريعهم، قصيرة كانت أم طويلة، مع السياسة، وخصوصاً مع شؤون الحرب وهواجسها إذ اندلعت بعد أيام قليلة من ولادة جيلهم...


من هنا كان من الطبيعي أن يسمى ذلك الجيل: جيل الحرب... وهو ضم إلى جانب علوية وبغدادي، جان شمعون الذي سرعان ما وجد نفسه ينخرط في السينما الفلسطينية، وهيني سرور، التي بعد بدايات لبنانية، نوعت اهتماماتها عربياً، وجوسلين صعب، التي انطلقت من الصحافة، إلى الصحافة من طريق السينما، فإلى السينما الروائية فأبدعت إلى حد لا بأس به، في كل المجالات التي خاضتها... وصولاً إلى رندة الشهال، التي كانت بداياتها، بدورها، سياسية، وظل فيلماها الوثائقيان (خطوة خطوة) و(حروبنا الطائشة) افضل ما حققته حتى وان ظلت تصر لاحقاً على إن السينما الروائية مجالها المفضل... فلم تقنع... ولم تقتنع بالعكس!.