الفصل الرابع

دور الاتصالات والحركة التجارية في تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في بيروت

 

1- دور البريد والبرق والهاتف في تطور العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في بيروت

بدأت بيروت وبلاد الشام تشهد في القرن التاسع عشر تطورات في ميدان الخدمات الحديثة، بعد أن رأت الدولة العثمانية أهمية هذه الأساليب الحديثة في سرعة التوصل، وفي سرعة نقل المعلومات والخدمات على الصعد العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فلذا رأت الدولة العلية ضرورة استحداث نظام يتضمن : البريد والبرق والهاتف :

البريـد: بالرغم من أن نظام البريد في بيروت وفي بلاد الشام من الأنظمة القديمة، غير أنه كان يعتمد على الحمام الزاجل الذي كان يحمل رسائل من مدينة إلى أخرى كتبت بخط يعرف "بخط الغبار" نظراً لصغر حرفه. كما اعتمد البريد قديماً على الخيول والعربات لنقله من أقليم إلى آخر، وقد استمر هذا النظام يعمل به في العهد العثماني. وكان في بيروت والولايات الشامية ومنها ولاية سورية مؤسستان للبريد. الأولى رسمية: وتضم سعاة الدولة المعروفين باسم "التتار" والنجابين، وكان هؤلاء يستعملون الخيل والجمال. والثانية: محلية، وتضم سعاة يخضعون مباشرة لشيخهم الذي عرف بشيخ السعاة، وكانوا يتلقون أجورهم من هذا الشيخ الذي بدوره يحدد أجور النقل وأجور الرسائل والطرود. وقد بلغ أجر الساعي ما بين بيروت وطرابلس الشام أو بين طرابلس الشام ودمشق ثلاثة أرباع المجيدي.

في عام 1869م 1286هـ صدر نظام البريد العثماني الحديث، وكان لبيروت المحروسة السبق في هذا المضمار، حيث أول ما طبق النظام الجديد فيها، وكانت أول وسيلة انتظمت لنقل البريد بواسطة العربات والقوافل المنظمة على طريق بيروت دمشق. ثم تطورت الأساليب منذ تاريخ إنشاء السكك الحديدية عام 1891م 1307هـ بين بيروت دمشق المزيريب، حيث ساهمت القاطرات بسرعة نقل البريد والتأمين عليه. علماً أن النقل البحري لم يستغن عنه، فقد شهد مرفأ بيروت الكثير من عمليات نقل الرسائل والطرود والصحف والكتب من بيروت إلى المناطق العثمانية والأجنبية وبالعكس. وبالرغم من أن أكثـر الخدمات البريدية كانـت لمصلحة الحكومة العثمانية ومصالحها ومؤسساتها، غير أن إيرادات البريد قدرت في عام 1896 بحوالي (3,230,485 ملايين) قرشاً من مختلف مراكز البريد والبرق في ولاية سورية.

في عام 1900م 1316هـ بدأ نظام البريد يتطور في بيروت والمناطق الشامية الأخرى، وأصبح يعتمد بشكل أساسي على السكك الحديدية براً من الولايات حتى الاستانة، وقد ألغي تباعاً نظام "التتار" أي السعاة، كما ألغي نظام الاعتماد على الحيوانات لتحل السيارات مكانها. ومنذ عام 1900 أنشئ في بيروت وسواها نظام الحوالات البريدية والحوالات البرقية والطرود العادية. ومنذ عام 1902 طبق هذا النظام بين بيروت والبلدان الأوروبية والأسيوية والأفريقية.

أما مراكز البريد في لبنان فكانت في المناطق التالية : بيروت، جديدة المتن، جونية، جبيل، قرطبا، البترون، أنفة، طرابلس الشام، زغرتا، عكار، غزير، أميون، بشري، إهدن، سير، حدث الجبة. أما مراكز جنوبي بيروت فكانت في : الشويفات، الدامور، صيدا، صور، تبنين، بنت جبيل، جزين، النبطية، مرجعيون، حاصبيا. أما مراكز شرقي بيروت والجبل فكانت في : بعبدا، عاليه، سوق الغرب، دير القمر، بعقلين، بيت مري، برمانا، بكفيا، بيت شباب، الشوير، بسكنتا، بحمدون، صوفر، حمانا، زحلة، رياق، بعلبك، جب جنين، الهرمل، مشغرة، حصـرون، عين زحلتا، دومة لبنان.

البـرق: كانت بيروت وسواحل الشام من أول المدن العثمانية التي مدت فيها الأسلاك البرقية لنقل الأخبار إلى مراكز الدولة العثمانية وإلى البلاد الأجنبية. وقد صدر نظام البرق في عام 1859م 1276هـ ونصت المادة الأولى من هذا النظام على إعطاء الأولوية والأفضلية لتجهيزات وبرقيات الدولة على جميع المعاملات الأخرى، ثم أعطيت الأفضلية لتحريرات سفارات الدول الأجنبية، ثم للتجار. كما تضمن نظام التلغراف سرية المخابرات وصيانة الأسلاك والمحافظة عليها. وكان المتبع في الدولة العثمانية قبل صدور هذا النظام استعمال إشارات الفوانيس في فترة الحروب عوضاً عن الإشارات البرقية السلكية واللاسلكية. هذا وفي عام 1867م 1284هـ، قرر مجلس ولاية سورية إنشاء مركز لتلغراف دمشق بيروت مع تجهيزة بكل ما يحتاجه من لوازم وأثاث ومعدات. والأمر اللافت للنظر أنه منذ أن شهدت بيروت والممالك العثمانية تطبيق نظام البرق، بدأ الناس يتساءلون من الوجهة الشرعية والفقهية : هل يجوز شرعاً تصديق الخبر أي خبر من الخارج بواسطة البرق أم لا يجوز تصديقه ؟

والحقيقة فإن شبكة البرق العثماني اقتصرت حتى عام 1899 على الأسلاك الممتدة من بيروت وحاصبيا ومن دمشق فحلب، ومن القنيطرة والسلط وحوران ودوما. ثم توسعت هذه الشبكة عام 1900 بمد الخط البرقي الحجازي من السلط إلى المدينة المنورة. وللسلك البرقي الحجازي عمود تذكاري ما يزال موجوداً إلى اليوم في ساحة الشهداء في دمشق. وقد ساعدت هذه الشبكات على المساهمة في تقصي أخبار الولايات، وفي توطيد الأمن وفي نقل المعلومات بسرعة، كما أثرت فيما بعد على الواقـع الاقتصادي والاجتماعي والمعلوماتي.

أما فيما يختص بلغة البرقيات في العهد العثماني حتى عام 1900، فقد كانت تنحصر باللغتين التركية والعربية، وكانت البرقيات لا تتعدى في البدء المناطق العثمانية، في حين تميزت بيروت ودمشق بمراكز تلغرافية تؤهلهما لإجراء برقيات مع الدول الأجنبية. أما مراكز البرق في بيروت ولبنان فقد كانت مماثلة تقريباً لمراكز البريد التي ذكرنا سابقاً.

الهاتـف: لم تعرف بيروت وبقية المناطق الشامية الهاتف إلا منذ عام 1908 وما بعده من أعوام، فبعد إعلان المشروطية أو القانون الأساسي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، صدر نظام الهاتف العثماني الذي تضمن كيفية العمل في هذا الجهاز الجديد، وتجديد مراكزه والمنتفعين منه. وكان استعماله في البدء منحصراً بالدوائر الرسمية العثمانية، وبالمؤسسات السلطانية والحكومية والعسكرية ومراكز الولاة. ثم سمح للأهالي بالاشتراك في الهاتف والحصول على خطوط خاصة، على أن يكون ذلك تحت إشراف الديوان البرقي السلطاني. وقد أحدث تطبيق نظام الهاتف في بيروت وبقية الولايات العثمانية دهشة وإعجاباً لدى المواطنين البيارتـة باعتباره حدثاً بارزاً هاماً واختراعاً عصرياً لافتاً للنظر.

وفي الحرب العالمية الأولى قطعت الخطوط الخاصة عن الأهالي في مساكنهم وحوانيتهم ومؤسساتهم، وانقطعت اتصالات بيروت ببقية المناطق اللبنانية، وخضعت هذه الخطوط الخاصة لسيطرة الدولة العثمانية لا سيما الفيلق الرابع الذي كان يتزعمه جمال باشا. وقد أعيدت هذه الخطوط إلى بيروت وبقية المناطق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918.

أما الهاتف اللاسلكي الرسمي فانحصر منذ تأسيسه بإدارة الراديو العسكري تلقياً ورداً، بينما الهاتف اللاسلكي التجاري، فقد سمح به في قسم التلقي والأخذ تحت إشراف إدارة البريد والبرق دون استعمال آلة الرد أي آلة الإصدار.

والحقيقة فإن الدولة العثمانية بعد هزيمتها وانحسارها عن بلاد الشام، كانت قد تركت لبيروت وللبلدان الشامية شبكة من الاتصالات البريدية والبرقية والهاتفية وشبكة من طرق المواصلات الحديدية، استفاد منها لبنان في عهد الانتداب الفرنسي بل وفي عهد الاستقلال.

منارة بيروت التاريخية

شهدت بيروت في القرن التاسع عشر تطوراً اقتصادياً بارزاً لاسيما بعد الاهتمام بمرفأ بيروت الذي كان ملتقى لمختلف التجار من مختلف الجنسيات الذين كانوا يعملون في الاستيراد والتصدير. ونظراً للحركة التجارية البارزة وقدوم السفن التجارية من الولايات العثمانية والدول الأوروبية، ونظراً لتميز الشاطئ البيروتي بالرمال في بعض مناطقه، وبالصخور في مناطق أخرى، كان لا بد من أن يتخذ والي بيروت المحروسة قراراً بإقامة "منارة" على مرتفع بارز في منطقة رأس بيروت وذلك في عام 1820، وكانت منارة بيروت التاريخية (الفنار) قد أسهمت إسهاماً بارزاً في هداية السفن ليلاً، وتحذيرها لئلا تقترب من الشاطئ، لأن الاقتراب منه يمكن أن يهدد السفن عندما ترتطم بالرمال أو الصخور. كما حرصت شركة مرفأ بيروت عام 1862 إلى بناء منارة جديدة بعد أن تكاثرت الحركة التجارية البحرية، وذلك لتسهيل هداية السفن إلى مرفأ بيروت، وقد استعانت الدولة العثمانية آنذاك بمهندسين فرنسيين.

لقد قامت منارة بيروت بدور بارز منذ عام 1820 حتى عام 1976، تخللها بعض التوقف لأسباب أمنية كما حدث في الحرب العالمية الأولى 1914 1918 حيث أمرت الدولة العثمانية بوقف العمل بها، ثم جاءت السلطات الفرنسية فأمرت بإعادة تشغليها، حتى توقفت ثانية إبان الحرب العالمية الثانية 1939 1945 لفترات طويلة. ثم استمر العمل بها، وما أن نشبت الحرب الأهلية في حرب السنتين 1975 1976 حتى توقفت تماماً عن العمل، إلى أن تم ترميمها وإعادة تأهيلها بتوجيه من الرئيس رفيق الحريري وبإشراف وزير الأشغال آنذاك عمر مسقاوي، وابتدئ العمل بها عام 1994، إلى أن توقف العمل بها بعد أن بنيت منارة جديدة على الزاوية الشمالية من كورنيش المنارة التي تم افتتاحها عام 2002 برعاية دولة الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

2- الحركة التجارية والضرا