الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأَوزاعي

الفصل الثاني

 

كان الإمام الأوزاعي (رضي الله عنه) من كبار الأئمة المدافعين عن الإسلام والسُّنة المطّهرة، لا سيما في فترة تزايد البدع والجدال والإنحراف عن القرآن الكريم والسُّنة. وقد روى الرازي بسنده عن موسى بن يسار قال: (ما رأيت أحداً أبصر ولا أنفع للغل عن الإسلام أو السُّنة من الأوزاعي). وروى الحافظ أبو نعيم بسنده عن أبي إسحق الغزاري عن الأوزاعي قال: (كان يقال : خمس كان عليها أصحاب محمد صلّى الله علية سلم والتابعون بإحسان. لزوم الجماعة، وأتباع السُّنة، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله). وحارب الإمام الأَوزاعي البدع والجدال وقال: (إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل).

 

ومن الأهميّة بمكان القول، أنه بالرغم من أن الخلفاء والأمراء والولاة والعلماء كانوا يتقربون منه، ويستفتونه، غير أنه لم يجامل ولم يخف من الله لومة لائم. بل كان حريصاً على الجهاد والرباط والدفاع عن الحق والمظلومين. ومن أشهر من إتصل بهم من الخلفاء الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك والخليفة العباسي أبو جعفر المنصور. ويُذكر أنه دخل مرة على أبي جعفر المنصور ورفض طلبه لبس السواد، فسأله لماذا رفض واستعفى لبس السواد، فقال الإمام الأَوزاعي: (يا إبن أخي لم يحرم فيه محرم قط، ولا يكفن فيه ميت قط، ولم تزين فيه عروس قط، فما أضع بلبسه).

 

وحدث أن أحد ولاة الشام أراد أمراً من الإمام الأَوزاعي، فلم يستجب له، فظن أن بإستطاعته إيذاء الإمام، غير أنه نُصح بعدم الإقدام على أي أمر في هذا المجال. لذا قال إبن كثير في (البداية والنهاية) (كان الأَوزاعي في الشام معظماً مكرماً، أمره أعز عندهم من أمر السلطان، وقد همّ بعض الولاة مرة فقال له أصحابه: دعه عنك والله لو أمر الأَوزاعي أهل الشام أن يقتلوك لقتلوك).

 

وأكد صالح بن يحيى في (تاريخ بيروت) بأن الإمام الأَوزاعي كان عظيم الشأن في الشام (وكان أمره فيهم أعز من أمر السلطان). وأضاف بأنه ألف كتاباً عن حياته، ولكن لم يعثر عليه حتى الآن.

 

ومن رسائل الإمام الأَوزاعي الهامة رسالته إلى أبي جعفر المنصور يلتمس الفداء لأهل (قاليقلا) معتمداً في رسالته على القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والقياس. وقد إستجاب المنصور لطلب الإمام وأمر بالفداء، ثم تبادل معه عددا من الرسائل، كما أرسل الإمام الأَوزاعي رسالة إلى أبي جعفر المنصور تضمنت طلبه زيادة أرزاق أهل الساحل ورفع الأعباء عنهم بسبب غلاء الأسعار، ونظراً لمواقفهم وجهادهم في الساحل. كما أرسل الأَوزاعي رسالة إلى المهدي إبن أمير المؤمنين طلب فيها دعم أوضاع أهل مكة نظراً للغلاء وزيادة الأسعار وهلاك المواشي وتفشي الجوع. لذا طلب منه التوسط لدى والده لإغاثة أهل مكة وضواحيها بحمل الطعام والزيت إليهم قبل هلاكهم. ولم يترك الإمام الأَوزاعي مظلمة إلا وتدخل لحلها سواء أكانت متعلقة بالجماعة أم بالأفراد، فبات مرجعاً أساسيّاً لحل القضايا الإجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة والدينيّة، وبمبادرة فرديّة منه أو بتوسط البعض لديه.

 

ومن أهم مميزات الإمام الأَوزاعي وهو مقيم في بيروت دفاعه عن المظلومين من المسلمين والنصارى على السواء. وقد برز بشكل واضح في مسألة دفاعه عن نصارى جبل لبنان إبان ثورة المنيطرة في عام 142هـ 759م قريباً من أَفقا. وقد امتدت الثورة إلى البقاع، وإقتربت نحو بعلبك مركز الوالي العباسي، وكان الوالي صالح بن علي قد وجه إلى جبل لبنان جنوداً لإخماد الثورة، فعمد هؤلاء إلى إخمادها ومقاتلة الثوار وقتلهم، ثم أمر الوالي العباسي بإجلاء قوم منهم من جبل لبنان إلى مناطق أخرى وقُتل في هذه الأحداث بعض الأبرياء من أهل الذمة النصارى، لذا أرسل الإمام الأَوزاعي رسالة مطولة إلى الوالي الصالح بن علي أشار إلى بعض منها البلاذري في (فتوح البلدان) وإبن سلام في (الأموال) ومما جاء في هذه الرسالة:

(... وقد جاء إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئاً لمن خرج على خروجه ممن قتلت بعضهم ورددت باقيهم إلى قراهم ما قد علمت. فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم وأموالهم، وحكم الله تعالى (ألا تزر وازرةٌ وزر أخرى) وهو أحق ما وُقِفَ عنده واقتُديَ به، وأحق الوصايا أن تحفظ وترعى وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنه قال: (من ظلم معاهداً وكلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه). ومن كانت له حرمة من دمه فله في ماله والعدل عليها مثلها، فإنهم ليسوا عبيد فتكونوا من تحويلهم من بلد إلى بلد في سعة، ولكنهم أحرارٌ أهل ذمة، يرجم محصنهم على الفاحشة ويحاص نساؤهم نساءنا، من تزوجهن منا القَسم والطلاق والعدة سواء ... ).

 

وكان لهذه الرسالة الأثر الإيجابي بالنسبة للنصارى في جبل لبنان، حيث أذعن الوالي لمطالب الإمام الأَوزاعي، أوعز إلى عماله بمعاملة النصارى معاملة حسنة، لا سيما الأبرياء منهم وإعادة المهجرين إلى قرارهم.

 

ويبدو أن الإمام الأَوزاعي بات الملجأ والملاذ ليس للمسلمين وحسب، وإنما المدافع أيضاً عن أهل الذمة استناداً إلى القرآن الكريم والسُّنة النبويّة. لذا كتب مرة إلى الوالي أبي بلج حضَّه على معاملة أهل الذمة والرعيّة كافة معاملة حسنة ومما جاء في رسالته:

(أما بعد، صرف الله عنا وعنك الميل عن الحق بعد المعرفة، والجهل عما نفع، واتباع الهوى بغير هدى منه .... وقد رأيت كتباً ظهرت فيما عندكم ومقالة سوء بعقوبة فرط، وصحبة غليظة للمسلمين، قد أوصى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بخفض الجناح لهم، وبالرأفة بهم، والمعدلة بينهم، يعُفى عن مسيئهم فيما يجمل العفو فيه، ويُعاقب المذنب على قدر ذنبه، لا يقتحم بالعقوبة وجهه ... ثم إنكم جعلتم أمانتكم من أهل ذمتكم مأكلاً وبين أهوائكم مشرباً حتى هُلكت الأموال، وعُلِّقت الرجال مع المثلة في الِلحى وتقطيع الأبشار، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول فيما بلغنا (من ظلم معاهداً أو كلَّفه فوق طاقته فأنا حجيجه) فأعظم بندامة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قليل حجيجه.

لقد أحدثت تلك الأعمال، فيما بلغني من المسلمين ضغائن، ولبعض ذوي النهى في جهاده معكم رياء بما تأتينا بذلك كتبهم يسألون عنه. أسأل الله أن يثني بنا وبكم إلى أمره، ويتغمد ما سلف منا ومنكم بعفوه. وذكرت أن أكتب إلى صاحبك فإنه يتجمل بالكتاب إليه، ويستمع مني، ولعل الله عزّ وجّل أن ينفع، وقد كتبت إليه بما لم آله نصحاً... ).