الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأَوزاعي

الفصل الثالث

والحقيقة فقد بات الإمام الأوزاعي في مقره في بيروت موئلاً للمؤمنين ومرجعاً لهم يلقى فيهم الخطب والأحاديث والمواعظ والأقوال المأثورة، مما كان له أبعد الأثر في إيمانهم ونفوسهم. فقد حظوا بإمام من كبار الأئمة والعلماء، لذا ترك فيهم علماً وتواضعاً وخُلقاً وسيرة حسنة، فكان وما يزال (القدوة). ومن أقواله المأثورة: (إن المؤمن يقول قليلاً ويعمل كثيراً، وإن المنافق يقول كثيراً ويعمل قليلاً). ومن أقواله في تقدير العلم (من تعلّم باباً من العلم كان أفضل من عبادة حول يُصام نهاره ويُقام ليله) ومما قاله: (الناس عندنا أهل العلم). وفي تعريفه للعامل والعمل بقوله : (العمل: أن تعمل عملاً لا تريد أن يحمدك الناس عليه). ومما قاله:(كنا قبل اليوم نضحك ونلعب، فلما صرنا أئمة يقتدى بنا، فلا نرى أن يسعنا ذلك  وينبغي أن نتحفظ).

 

ويُروى عن الإمام الأَوزاعي رفضه باستمرار للهدايا سواء مقابل خدمة أداها أم يؤدها. ففي إحدى المرات شكا إليه رجل من أهل الذمة من القاع عدم مقدرته على دفع قيمة الخراج، فكتب له إلى عامل الخراج وهو إبن الأزرق وكان عاملاً لأبي جعفر على الخراج، واستطاع الإمام الأَوزاعي أن يقضي حاجة الذمي. فما كان من الذمي إلا أن أهدى الإمام قمقماً من العسل، فرفض الإمام الأَوزاعي إلا أن يدفع ثمنه وقال له: إن شئت قبلنا منك وقبلت منا، وإلا رددنا عليك كما رددت علينا فأخذ النصراني الدنانير وأخذ الإمام الأَوزاعي القمقم.

 

وفي رواية أخرى أن أحد المحدثين قدم إليه من مكة ليسمع منه، فأهداه طرائف من طرائف مكة، فقال له الإمام الأَوزاعي: (إن شئت قبلت هديتك ولم تسمع مني حرفاً، وإن شئت فاقبض هديتك وأسمع).

 

وكان الإمام الأَوزاعي يرفض الكذب والكذب غير المقصود والذي يُسمى (الكذب الأبيض) فقد حدث مرة أن خرج من باب المسجد في بيروت، فرأى رجلاً يبيع الناطق وآخر يبيع البصل وهو يقول: يا بصل يا أحلى من العسل، أو قال: أحلى من الناطف. فقال الأَوزاعي: سبحان الله، أيظن هذا شيئاً من الكذب يباح؟ فكأن هذا ما يرى في الكذب بأساً.

 

لقد كرَّم الله عزّ وجّل الإمام الأَوزاعي، وقد روى الحافظ الذهبي في (تاريخ الإسلام) عن عمرو بن أبي سلمة بأنه سمع الإمام الأَوزاعي يقول: (رأيت كأن ملكين نزلا فأخذ بضعي فعرّجاني إلى الله تعالى وأوقفاني بين يديه فقال: أنت عبدي عبد الرحمن الذي تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر. قال: قلت: بعزتك رب أنت أعلم، قال: فرداني إلى الأرض).

 

وفي رواية إبن عساكر في (تاريخ دمشق) بسنده عن محمد بن الأَوزاعي قال: قال أبي: (يا بني أريد أن أحدثك بشيء ولا أفعل حتى تعطيني موثقاً أنك لا تحدث به ما دمتُ حيّاً، قال: فقلت: أَفعلُ يا أبتِ، قال: إني رأيت فيما يرى النائم أني أدخلتُ الجنة فإذا برسول الله صلّى الله علية سلم ومعه أبو بكر وعمر وهم يعالجون مصراع باب الجنة، فإذا ردوه زال، ثم يعالجونه فإذا ردوه زال، قال: فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم : يا عبدَ الرحمن ألا تمسك معنا؟ قال: فجئت فأمسكت معهم فثبت).

وفي رواية أخرى قال الوليد بن مسلم (رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم في منامي فقلت يا رسول الله عن من أكتب العلم فقال: عن الأَوزاعي، فقلت له: عن عبد الله بن سمعان، قال: لا، عن الأَوزاعي). وأكد الكثير مثل هذه الروايات منهم: الحافظ الذهبي، وبشر بن بكر، وإبن كثير، والجوزي، ومحمد بن شعيب وغيرهم، وهناك أحاديث عن هؤلاء وسواهم (أن عبد الرحمن بن عمرو الأَوزاعي خير من يمشي على الأرض).

 

وعن عمير بن عفان والعباس بن الوليد البيروتي وعن أبناء بيروت المعاصرين للإمام الأَوزاعي أن بعضهم عندما كان يدخل إلى منزله في باطن بيروت، فيجد مكان مصلاه رطباً من كثرة دموعه أثناء الليل ووقت الصلاة. وقد أكدت زوجته أن هذه الرطوبة والبلل من أثر دموع الشيخ من بكائه في سجوده، وهكذا يصبح كل يوم.