الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأَوزاعي

الفصل السادس والأخير

 

كان الإمام الأَوزاعي (رضي الله عنه) مرابطاً وعالماً وفقيهاً وإماماً عُمل بمذهبه في بلاد الشام لأكثر من مئتي عام، وإمتد إلى بلاد المغرب والأندلس. وبالرغم من أن التغيرات السياسيّة والإجتماعيّة فضلاً عن دور تلاميذه، أثرت مباشرة في عدم إستمرار العمل بمذهبه، غير أن تعاليمه وفتاويه أثرت ـ وما تزال ـ في الشؤون والقضايا الإسلاميّة الخاصة والعامة، وفي الحريات الأساسيّة، وفي القضاء والمخاصمات، وفي العقوبات والأحوال الشخصيّة، وفي الأحوال الماليّة، وفي القانون الدولي ومبدأ السلام وفرض الجهاد والرباط، وفي معاملة الأعداء أثناء الحرب، وفي العديد من القضايا التي تناولها الإمام الأَوزاعي (رضي الله عنه).

 

وكانت سيرة الإمام الأَوزاعي حافلة بالأعمال المجيدة، والتعاليم الفاضلة، وقد دلت على علو منزلته العلميّة، وقوة شخصيته، التي أكسبته لدى العلماء والخلفاء والولاة والناس جميعاً هالة من الإحترام والوفاء، وصلت أحياناً إلى درجة المهابة والخشية. لذا حرص أهل غزة في فلسطين على بناء مسجد باسمه، كما حرص أهل دمشق على بناء مسجد آخر باسمه في محلة باب توما، فضلاً عن مسجده الجامع في بيروت المحروسة إزاء ضريحه في منطقة حنتوس (الأَوزاعي اليوم)، كما حوُل منزله في سوق الطويلة في باطن بيروت إلى زاوية يُصلى بها.

 

مقام الأوزاعي وإبن عراق الدمشقي

بعد تسيجها من قبل المديرية العامة للأوقاف الإسلاميّة في بيروت

 

وكان متواضعاً، تقيّاً، فاضلاً، زاهداً في السلطة والمال، وكان جريئاً لا يخاف في الله لومة لائم. وكان عدواً للنفاق والكذب. وكان ثقة في رواية الحديث، ومحاوراً ممتازاً، وكان صاحب مذهب فقهي ممتاز، لا يقل منزلة عن المذاهب الفقهيّة الأخرى، وهذا ما تؤكده المصادر الأساسيّة الفقهيّة والتاريخيّة. 

 

وكان مذهب الإمام الأَوزاعي أقرب إلى مذاهب أهل الحديث منه إلى مذاهب أهل الرأي. فكان يروي الحديث ويتمسك حتى بالمرسل منه، ويتحرى آثار الصحابة والسلف الصالح، ثم عند عدم وجوعها، يلجأ إلى الإجتهاد العلمي مع تطعيمه بإنسانية بارزة. وفي إطار (الأحكام السلطانيّة) الخاصة بقواعد القانون العام، وقف الإمام الأَوزاعي موقف المؤمن بمبادئ المساواة والحريات العامة، لا سيما الحريّة الشخصيّة وحرية العقيدة إنطلاقاً من القرآن الكريم والسُّنة النبويّة الشريفة. وكان يشير على الخلفاء والولاة بالتقرب من الرعيّة، وبلزوم معاملتهم بالعدل والمساواة، وعدم ظلمهم والعدوان عليهم سواء أكانوا من المسلمين أم من أهل الذمة.

مسجد الإمام الأَوزاعي ومدفن رئيس الوزراء الأسبق رياض بك الصلح

 

وأكّد الإمام الأَوزاعي على فضل الإحسان والصدقات والتبرعات والهبات. فأبرز فوائدها للتحابب والتوادد بين الناس، غير أنه قيدها بواجب العدل بين الأولاد، وبواجب العناية بترك ما يكفي لأفراد العائلة. وأجاز الوقف في العقار، كما أجازه في الطعام لمصلحة المعوزين.

 

وأكّد الإمام الأَوزاعي على الجهاد والرباط كواجب إسلامي ووطني، وفي باب أحكام السلم والحرب وسائر مبادئ القانون الدولي، كان الأَوزاعي من الرواد البارزين بين الفقهاء سواء بوفرة فتاويه الدقيقة، أو بروحه الإنسانيّة في دراستها، فدّل بذلك على عمق فقهه وتفكيره، وعلى تفهمه التام لفكرة السلام القائم على العدل والوفاء بالتعهدات والمواثيق. وفي الأعمال الحربيّة حرّم الأَوزاعي تخريب أو هدم أي معلم من معالم الأعداء مثل الأبنية والمعابد والكنائس. كما حرّم قطع الأشجار وعقر الحيوانات وقال: (إنه لا يحب للمسلمين أن يفعلوا شيئاً مما يرجح إلى التخريب في دار الحرب، لأن ذلك فساد، والله لا يحب الفساد).

من هنا ندرك لماذا وقف الإفرنج ـ أثناء سيطرتهم على بيروت وبلاد الشام ـ من زاويته في باطن بيروت، ومن ضريحه في منطقة حنتوس موقفاً مسالماً، فلم يخربوا آثارهما أو يحولوهما إلى كنائس، وكان موقفه ـ رحمه الله ـ من النصارى إبان الأزمة قد ساعد أيضاً على اتخاذ ذلك الموقف.

 

ومن مبادئه السامية ضرورة الإستقامة في العلاقات الدوليّة، وتغليب الروح الإنسانيّة في تطبيقها، فأوجب مراعاة العهود والمعاهدات والمواثيق، والمحافظة على رهائن العدو، وعدم قتلهم حتى ولو غدر العدو برهائن المواطنين. فكان من واضعي أسمى مبدأ في القانون الدولي وهو (وفاء بغدر خير من غدر بغدر).

مدفن قرب زاوية الإمام الأوزاعي

 

كانت سماحة الإمام الأَوزاعي تتمثل بدفاعه عن الأبرياء والضعفاء من مختلف الإتجاهات والأديان. وقد أشار المؤرخ فيليب حتيّ إلى نبل أخلاق الإمام الأَوزاعي وعدالته بقوله: (إن النظرة اللبنانيّة الشاملة والروح اللبنانيّة السمحة تتحدان في سماحة روح الأَوزاعي وفي نبل أخلاقه. فإنه كان يشدد على فكرة العدل والرفق والعطف عندما كان الأمر يتعلق بالرعايا غير المسلمين .... إننا لا نعرف فقيهاً من فقهاء المسلمين أظهر من نُبل العاطفة ما أظهره الأوزاعي في دعوته إلى الأخوة الإنسانيّة... ولا شك أن روح التحرر والتساهل التي تظهر في مذهب الأَوزاعي، كانت من العوامل التي ساعدت على إنتشار الإسلام في الأندلس المسيحيّة).

 

وأخيراً لا يسعنا إلا أن أختم هذه الدراسة بشعر العلامة الرحالة الشيخ عبد الغني العريسي، المتوفى عام 1143هـ ، الذي زار بيروت في عام 1700 وعام 1711م ومنها زيارته لمقام الإمام الأَوزاعي حيث قال :

 

أتحفتنا زيارة الأَوزاعـي عند بيروت بالضيا والشـعاع
إذ قصدنا لها عشيّة يـوم كان فيه بمن أحب إجتماعـيِ
حضرة نورها يزيد فيهدي في الدياجي بسرعة الألمـاعِ
شط بحر عليه للعلم بـحر طافح بالكمال والإنتفـــاعِ
 كان لله عابداً باجتهــاد تابعاً للكتاب والإجمــــاعِ
يا أبا عمرو الذي عمرتنا زورة منه عند خير البقــاعِ
يا أبا عمرو العظيم المزايا عند رب الورى الكريم المساعيِ

 

 وقال :

كنا ببيروت الأنيسة في الهنا بالأكرمين ومد دعانا الداعيِ
نلنا المقاصد والمنى وتوزعت عنّا الهموم بزورة الأوزاعيِ