هنري ماندرل 

في سنة 1696م 1108هـ وصل إلى بيروت رحالة إنكليزي يُدعى هنري ماندرل Henry Mandrell لقد كان هذا الرحالة قاصداً البلاد الفلسطينيّة ليحضر فيها معالم عيد الفصح. وكانت مدينة بيروت على طريقه إلى غايته، فانتهز الفرصة وكتب ما شاهده في هذه المدينة من حالة عمرانها وأوضاع سكانها وألوان حياتها الإجتماعيّة وكانت بيروت في عهده تنقل من يد واليها السابق مصطفى باشا إلى والٍ جديد وهو أرسلان باشا المطرجي.

قال ماندرل: ( ... وصلنا إلى نهر بيروت، وقطعناه على جسر فيه ست قناطر، ورأينا كنيسة مار جرجس، وكانت قد جعلت جامعاً... ودخلنا بالمركب إلى بيروت مبتين ثم نزلنا في خان قرب البحر ... إن مدينة بيروت لقّبت بيوليا السعيدة في عهد أغسطس قيصر، ولكن لم يبق من سعادتها غير موقعها، فإنها قائمة على شاطئ البحر في بقعة طيبة والبلاد حولها كثيرة الخصب وماؤها زلال، يأتيها من التلال المجاورة لها، وله فيها عيون جميلة البناء... ولا شيء تفخر به الآن).

ويتابع ماندرل : (... وفي بيروت قصر الأمير فخر الدين أمير لبنان وهو من الدروز الذين يظن أنهم من بقايا الصليبيين ...ولم يشأ هذا الأمير أن تكون ولايته مقصورة على لبنان، فأضاف إليه كل بلاد الساحل إلى عكا)، فأوجس منه الباب العالي خشية ورده إلى جباله.

(... ذهبنا إلى مشاهدة هذا القصر، وهو في الساحة إلى الشمال الشرقي من المدينة فوجدنا أمام بابه فسقية (حوض) ونوفرة من الرخام لم نَر أجمل منها في بلاد الترك، والقصر دور مختلفة، أمسى أكثرها خراباً ولعلها لم تكتمل أصلاً. وهناك إصطبلات للخيل وبيوت للأسود ونحوها من الوحوش مما لا مثيل له إلا في قصور الملوك. وأجمل ما رأينا هناك بستان كبير مربع مقسوم إلى ست عشرة حديقة من شجر البرتقال. والأشجار كلها كبيرة ناضرة لم ترَ العين أجمل منها، تكاد أغصانها تتكسر من كثرة حملها. وحول هذه الحدائق مماشٍ من الحجر فيها مجارٍ للمياه يُروى بها البستان كله. ولو كان فيه بستاني لإنكليزي ما نظمه بأحسن من تنظيمه، لكن ، واأسفاه، فإننا لما رأيناه كان قد صار كله حظيرة للغنم والمعزى، وزبلها فيه يعلو عن الأرض أكثر من ذراع ! . وفي الجانب الشرقي من هذا البستان ممشيان عاليان، الواحد منها فوق الآخر، يوصل إلى كل منهما باثني عشرة درجة وفوقها أشجار البرتقال تظللهما، وهما يوصلان إلى مصيف بهيج في الجهة الشمالية، كان فخر الدين يجلس فيه في ساعات أنسه).

وقد لاحظ ماندرل أن الأمير فخر الدين أراد أن ينقل الحضارة الغربيّة إلى إمارته الشرقيّة فقال:

(فإنه – أي الأمير – أراد أن يقلد مولوك إيطاليا الذين زار بلادهم. وقد رأينا في بستان آخر نُصباً للتماثيل وفي إحدى زواياه برج عالٍ إرتفاعه 60 قدماً بناه مرقباً وأحكم بنيانه، فإن سمك جدرانه 12 قدماً).

ثم يصف ماندرل سور المدينة وما فيها من آثار فيقول : (ولم يزل سور المدينة قائماً إلى الجنوب منها، وهو مبني من أنقاض مبانيها القديمة، فترى فيه قطعاً من أعمدتها الرخاميّة. وأينا خارج السور كثيراً من أعمدة الغرانيت والأرض المرصوفة بالفسيفساء وقطعاً من الرخام الصقيل والتماثيل القديمة ونحو ذلك من الآثار التي تدل على ما كانن لهذه المدينة من العظمة. وعلى شاطئ المدينة عند البحر قلعة قديمة متخربة وآثار مرفأ قديم ...).

 

ثم يتحدث ماندرل عن غابة الصنوبر فينسبها إلى فخر الدين : (... وخرجنا من بيروت في التاسع عشر من شهر مارس ودخلنا سهلاً فسيحاً يمتد من البحر إلى الجبل في أوله غابة الصنوبر التي زرعها الأمير فخر الدين ... ).