الرحالة الفرنسي فولنيْ   

في السنة 1784م أقدم أحد النبلاء الفرنسيين هو فولنيْ (François de Volney) على القيام برحلة دراسية إلى بلاد الشرق (فركب البحر من مرسيليا غير حامل معه سوى بعض الملابس القطنية وزنار من جلد جعل فيه الستة آلاف فرنك التي ورثها، فلما وصل إلى مصر، توجه إلى القاهرة فأقام فيها بضعة أيام مراقباً عادات السكان وأخلاقهم مجتهداً أن يرى بعينه كل شيء ويسمع بأذنه كل قول، ويطأ كل مكان. وإنما كان يعوزه الإلمام باللغة العربيّة، ولكي يتعلمها سافر إلى لبنان وانزوى ثمانية أشهر في دير مار يوحنا الشوير. وهناك كان يقضي الساعات الطوال في محادثة الرهبان عن حالة البلاد وعادات السكان ولم يبرح الدير إلا بعد أن توصل إلى التكلم بالعربيّة. فودّع الرهبان وبدأ رحلته التي استغرقت ثلاث سنين) .

 

ولقد ترك لنا فولنيْ مذكرات جذابة عن رحلته الممتعة في الشرق لا سيما فيما قاله عن بيروت وهي على أهبة الإنتقال من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر للميلاد. وفيما يلي شذؤات من مذكرات هذا النبيل الغربي المغامر في قلب بلاد الشرق الذي لبث فيه من سنة 1873م حتى سنة 1875م أي ثلاث سنوات بكامل أيامها ولياليها. قال فولنيْ :

... بيروت تقع على بقعة تبدأ عند سفح الجبل، داخله في البحر على شكل قرن طوله فرسخان والزاوية الجوفاء التي يحدثها هذا القرن يصب فيها نهر بيروت، او نهر (الصليب)، الذي يفيض في فصل الشتاء وعلى هذا النهر جسر كبير خرب يصعب عبوره .

... كانت بيروت في حوزة الدروز(يعني الشهابيين)، بيد أنها ظلت البندر الذي يترددون إليه لأنهم يشحنون قطنهم وحريرهم المعدّ معظمهما لمدينة القاهرة فيأتيهم بدلاً منها البن والأرزّ اللذان يقايضون عليهما بحنطة البقاع وحوران ... وفي بيروت من السكان ستة آلاف نسمة. ولمرفئها رصيف كما للمرافئ الأخرى في هذا الساحل، وقد تراكمت فيه الأنقاض والرمال، ويحيط بها سور بني بحجارة رمليّة رخوة تخترقها القنابل دون أن تحطمها مع أنه لا مناعة لسورها ولا لأبراجها القديمة. والتلال المشرفة عليها وافتقارها إلى الماء يجعلانها تعجز عن رد المغيرين عليها.

 

... والبساتين التي بجوارها أقوى وأحدث من التوت الذي في أراضي طرابلس لأن أصحاب تلك البساتين كانوا في أثناء حكم الدروز(يعني الشهابيين) يستطيعون نصب أشجار جديدة كلما دعت الضرورة، فلا يعارضهم أحد، لذلك يمتاز حرير بيروت بجودته! ...

... وبيروت حرها شديد، وماؤها ساخن، لكن هواءها طيب، ومما يزيد طيبته ويجعله جيداً ونقيّاً شجر الصنوبر البكثير الذي نصبه الأمير فخر الدين على مسافة فرسخ منها...

... والتجار المقيمون في سوريا يتخذون وكلاء من الوطنيين أصحاب الطقس اللاتيني، وقد توصلوا إلى إشراكهم في امتيازاتهم، لذلك ليس للحاكم وعماله سلطة عليهم ولا يستطيع أحد تغريمهم، وإن أُريد مقاضاتهم نظر بأمرهم القنصل . وهؤلاء كانوا يُعرفون في الشرق باسم (تراجمة أصحاب براءة) والبراءة يمنحها السلطان للسفراء المقيمين في الآستانة، فكانوا يهدونها إلى هؤلاء الوكلاء الوطنيين لكنهم بدأوا الآن ( في أيام فولنيْ) يبيعونها فيجنون منها أرباحاً لا بأس بها، فثمن الواحدة ألفا قرش أو ألفان وأربعمائة. وكل سفير يعطي خمسين براءة، وإذا مات صاحبها أخذ السفير براءة جديدة بدلاً منها.