الرحالة عبد الغني النابلسي الدمشقي 

وصل إلى بيروت خلال تاريخها الطويل الكثير من الرحالة العرب والأجانب ، وقد وصفوا أوضاعها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة والعسكريّة . وكان وصفهم لأوضاعها بمثابة تأريخ حي لمعاصرين شهدوا وراقبوا ودونوا انطباعاتهم وملاحظاتهم . ومن هؤلاء الشيخ عبد الغني النابلسي من مواليد دمشق سنة 1050هـ وكانت وفاته فيها سنة 1143م. وله مؤلفات عديدة في الفقه والأدب والفلسفة والتجويد والتاريخ وفي الرحلات . ومن بين كتب الرحلات التي دوّن فيها رحلته إلى بيروت وبلاد الشام ومصر والحجاز بين عامي 1105-1106هـ كتابه الموسوم باسم (الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز).

 

فبعد زيارته لطرابلس وجبيل ونهر الكلب وما بينهم من مناطق، توجه الشيخ عبد الغني النابلسي باتجاه مقام سيدنا الخضر عليه السلام، ثم توجه غرباً باتجاه مقابر بيروت القديمة، فزار ضريح أم حرام بنت ملحان الأنصارية الصحابية خالة أنس بن مالك ويقال لها العميصاء. وقيل أيضاً بأنها دفنت في قبرص وليس في بيروت. ونزل النابلسي في بيروت عند الصديق الصادق والرفيق المصادق عين الأعيان في تلك البلاد وخلاصة أبناء الزمان الحاج مصطفى المشهور بابن القصّار، وهو رجل من أهل المرؤات والكمالات، فأكرمنا غاية الإكرام وعاملنا بألطف المعونات ، وبتنا عنده تلك الليلة في أتم حضور .. .

 وفي اليوم التالي في السادس من شهر صفر عام 1106هـ اجتمع النابلسي بصديقه السيد أحمد عز الدين ، حيث سبق لهما أن اجتمعا معاً في دمشق عام 1093هـ وكان هناك يحضر دروس النابلسي في الفقه والوعظ. ووصفه النابلسي بالقول: (هو رجل من الأفاضل الكرام ، ذوي الصلاح والكمال والخير التام).

 

كما اجتمع عبد الغني النابلسي في بيروت بالحسيب النسبي السيد حسين نقيب الأشراف في البلدة. واجتمع بالعالِم العامل الشيخ زين الدين مفتي الشافعيّة في بيروت. وقضى يوماً في دارة نقيب الأشراف معززاً مكرماً.

 

بعد ذلك توجه الرحالة النابلسي باتجاه ساحل البحر مع السيد أحمد عز الدين، فزارا المقبرة التي بإزاء البحر وفيها قبر الشيخ جبارة من أولاد الشيخ حسن الراعي صاحب الزاوية المشهورة (ورأينا مدرسة الشيخ عبد الرحمن الأوزاعي ... كان مقام السيد أحمد المذكور في تلك المدرسة، وأخبرنا أن عليها في الزمان السابق أوقافاً كثيرة، ولكنها ضبطت الآن لجهة السلطنة في جملة أموال الساحل الشامي. ورأينا هناك الحمام الذي مات فيه الأوزاعي رضي الله عنه .... وهو الآن خراب وقد تهدم بعضه ... ثم ذهبنا إلى دعوة السيد حسين النقيب سلّمه الله تعالى وهو نقيب الأشراف بالبلد المذكور فحصل لنا بذلك غاية السرور ... ).

 

ولما اجتمع الشيخ عبد الغني النابلسي بالسيد أحمد عز الدين، أطلعه السيد أحمد على إجازته من مشايخه في الطريقة القادرية وعليها تواقيع العلماء والصالحين وتسلسل نسبه الشريف من جهة الأم، كما اجتمع النابلسي بعمر بن محمد سعاده الذي طلب منه كتابة بعض النصائح الدينيّة والأخلاقيّة ، فكتب النابلسي له شعراً قال فيه :

كن على الصدق مقيماً والأدب  والزم العلم بفهم وطلـــب
واتق الله بقلب خاشـــــع  واجتنب ظلمه أنواع السبـب
وانظر النور الذي في طيــه حيث أدنى بالأقاصي واقترب
وتوكل في المهمات علـــى خالق الخلق تنل أعلى الرتب

                     

وقضى الشيخ عبد الغني النابلسي في بيروت عدة أيام إلى أن كان التاسع من صفر، فعزم (على المسير إلى زيارة الوالي الكبير والعالِم الشهير الشيخ أبي عمرو عبد الرحمن الأوزاعي رحمه الله تعالى، فسرنا ومررنا في الطريق على قبة صغيرة يقال لها مقام المجذوب، فقرأنا الفاتحة ودعونا الله تعالى ولم نزل سائرين إلى أن مررنا على قبة في رأس جبل عال يقال لها شيخ الظهره دفن فيها رجل من أهل النوبة أرباب الكمال والأوبة، فقرأنا الفاتحة، ثم سرنا إلى أن وصلنا إلى مزار الشيخ الأوزاعي فدخلنا إليه، فإذا هو على شكل الصور، وقد عمرته امرأة من بيت سيفا، وفي داخل المزار مكان عليه قبة وفيه محراب وعليه الهيبة والوقار والجلال، وعلى الجانب الأيسر من المحراب طاقة صغيرة تدل على قبر الشيخ وهو مدفون تحت الحائط القبلي وقبره ظاهر إلى الخارج يشبه قبة كعب الأحبار الذي زرناه في حمص المحروسة، فقرأنا له الفاتحة . وقد وقفنا في بيروت على كتاب مستقبل في ترجمته مسمى بكتاب (محاسن المساعي) وأضاف الشيخ عبد الغني النابلسي في رحلته الموسومة باسم (الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز) بأن سبب موت الإمام الأوزاعي أنه دخل الحمام وفيه كانون نار وفحم، فأغلقته امرأته فلما هاج الفحم صغرت نفسه وعالج الباب ليفتحه فامتنع عليه فوجد مثبتاً موسداً واضعاً يده اليمنى تحت خده ، وهو مستقبل القبلة) .وروى النابلسي حادثة كانت شائعة في تلك الفترة عن الإمام الأوزاعي، حيث أشار أنه لما فتح الناس باب الحمام أرادوا غسله وتكفينه، فوجدوه مغسلاً مكفناً غسلته الملائكة وكفنته ، ثم أن الناس حملوه إلى الخارج ووضعوه في النعش لدفنه، فإذا النعش فارغاً وقد دفن والتراب مردود عليه وقد دفنته الملائكة الكرام والله أعلم، ولقد دفن الإمام الأوزاعي بعد أن نقل من منزله في باطن بيروت (سوق الطويلة سابقاً) في منطقة حنتوس خارج بيروت إزاء البحر في منطقة مليئة بالصنوبر.

 

وأورد النابلسي أنه أسلم يوم وفاة الأوزاعي من اليهود والنصارى نحو ثلاثين ألفاً لما وجدوه من كرامات إمام بيروت وأهل الشام، هذا ونظم النابلسي أثناء زيارته لمقام الإمام الأوزاعي، شيخ المسلمين، كما سماه قصيدته بمدحه قال فيها:

اتحفتنا زيارة الأوزاعــي عند بيروت بالضيا والشـعاع
إذ قصدنا لها عشية يــوم كان فيه بمن أحب اجتماعـي
حضرة تملأ القلوب سروراً وابتهاجاً بأمر رب مطـــاع
حضرة نورها يزيد فيهدي في الدياجي بسرعة الالتمـاع
شط بحر عليه للعلم بحـر طافح بالكمال والانتفــــاع
يا أبا عمرو الذي عمرتنا  زورة منه عند خير البقــاع

                              

هذا وقد بات الشيخ عبد الغني النابلسي ليلته في مقام الأوزاعي تبركاً، وبعد أن صلى الفجر من يوم الأحد في العشر من صفر، توجّه النابلسي قبلة باتجاه صيدا، وكان النابلسي قد نظم خلال إقامته في بيروت الكثير من القصائد والمدائح النبويّة والموشحات الأندلسيّة. وقد مدح بيروت نظماً فقال:

 

بيروت قد حرست بعين عناية من ربها في حسنها المعروف
بلد أمين لا يشان بريبـــة ركن العفاف وملجأ الملهـوف
وبها البساتين التي اشجارها ركعت مع النسمات ذات صفوف
بالطيب تنفح كلما هب الصبا حسن لأبصار وطيب أنــوف

         

وقال في بيروت أيضاً :

كأنما بيروت في حسنـها وقد بدت كاملة في النعوت
منظومة قد شاقني بحرها المديد والأبيات منها البيوت

                                   

هذا ولا بد من الإشارة إلى أن الشيخ عبد الغني النابلسي قد وصف مشاهداته عن بيروت في كتاب آخر مشهور تحت عنوان (التحفة النابلسيّة في الرحلة الطرابلسيّة) ضمنه وصفاً لقناطر زبيدة ومقام الخضر، ووصف زاوية القصّار في باطن بيروت وزاوية محمد بن الشويخ وصفاً دقيقاً، كما أشار إلى سراي الأمير عسّاف، وزار جبانة الباشورة وزاوية المجذوب.

كما أشار إلى حمامات بيروت الأربعة المشهورة: حمام الأمير فخر الدين بن معن، وحمام القيشاني، وحمام الأوزاعي، وحمام رابع لم يذكر اسمه يُرجح أنه حمام السرايا.

 

لقد استطاع النابلسي من خلال مشاهداته عن بيروت أن يمدنا بمعلومات هامة عن بعض ملامح وشخصيات بيروت العُثمانيّة.