أبو رياض نجيب الريّس

كتب المرحوم أبو رياض نجيب الريّس، صاحب صحيفة القبس الدمشقيّة في 16 أيار عام 1930م في صحيفته :

يعرف الذين قرأوا ألف ليلة وليلة تلك الحكاية العجيبة (حكاية مدينة النحاس) وما فيها من عجائب ومتناقضات : قاعات مملوءة بصفائح الذهب، وكيمان اللؤلؤ، إلى جانبها أقبية مظلمة تكدست فيها جثث الموتى وهناك على يمين المدخل وادٍ احتلته الأفاعي يقوم على مقربة منه قصر تنبعث من نوافذه الأنوار، وتسمع من فرجاته أصوات الضحك والمرح، فيه نساء راقصات، ورجال سكارى، يتمتعون بأجمل ما في الحياة من ملذات ولهو.

بينما يجاور هؤلاء القوم جماعة فقراء يأكلون قشور الفاكهة وفضلات الطعام ويبكون الليل بطوله، ولكنهم يضحكون النهار كأن لم يكن في نفوسهم من آلام الليل ما يذهب بمسرات النهار... .

 

إن الذين قرأوا هذه القصة أو الأسطورة لا يلبثون أن يتمثلوها أمامهم ويروا أنفسهم في (مدينة النحاس) عندما يقيمون في بيروت بضعة أيام، ويتعرفون إلى حياتها في الليل والنهار، فهناك فعلاً قاعات مملوءة بالذهب، إلى جانبها وديان مفعمة بجثث الموتى ... هذه هي بيروت في الليل بل هذه هي حياتها المرحة الهانئة تبدأ منذ الساعة السادسة بعد الظهر إلى الساعة الرابعة بعد منتصف الليل. أما في النهار فالويل لبيروت من النهار: سوق تجاريّة مخيفة ليس فيها غير حوادث الإفلاس المتتالية. أما المحاكم فقد غصت قاعاتها بالمتداعين : هذا بائع طرابيش يعلن إفلاسه على خمسة وعشرين ألف ليرة عُثمانيّة ذهباً يطل على دائنيه من نافذة غرفة التوقيف يساومهم ويساومونه على دفع الدين ثلاثين في المئة ثم يتدخل السنديك فيرفع النسبة إلى الخمسين. وهناك كتلة من المحامين بأروابهم السوداء الجميلة يتحدثون عن محلات تجاريّة كبرى أفلست أو طلبت التصفية القضائيّة وأن فلاناً عرض مايته ستيناً فرفض الدائنون وقدم أملاكه ضمانة على الدفع فوضعت القضيّة تحت البحث.

ثم تغادر قصر العدليّة إلى بنكو دي روما أو غيره من البنوك الأخرى فتجد المدير أو المفتش في خلوة مع رجال الإستخبارات، ولكن هؤلاء رجال الإستخبارات السياسيّة : إنهم جواسيس على السوق وعلى سيرة التجّار يقدمون له التقارير الشفويّة عن هذا المحل وعن ذاك، فلان تدل ظواهره على أنه يهيّىء طابقه وينظّم دفاتره استعداداً لطلب التصفية أو التوقف عن الدفع، والآخر تنطق أسارير وجهه على أنه مرتبك ولكن أملاكه تسد العجز هذا إذا لم يكن عليه استحقاق لمعمل أوروبا .... .

 

هكذا ينقضي النهار في بيروت : أحاديث كلها إفلاسات ونكبات ... ولكن عندما تطل الساعة السابعة تشهد أسراب السيارات تدفع مقدماتها مؤخراتها، وتشهد قاعات الرقص في الميرامار والرستوران كأنها بعض مشاهد مدينة النحاس، وإذا بهذا التاجر الذي أعلن إفلاسه في النهار لا يخجل أن ينحني في الليل ناحية من قاعة المرقص وأمامه مائدة صفت فوقها أقداح الشمبانيا وإلى يمينه بعض أصدقائه وندمائه وإلى يساره هذه (الأرتيست) المجريّة أو الرومانيّة فينسى في جمال عنقها وبريق عينيها عشرات الكمبيالات التي رفض دفعها بوقاحة.

هذه هي بعض مشاهد بيروت في الليل والنهار.