AUP

الجامعة والمقهى والمكتبة و«خلطة» الطوائف والأفكار...

«رأس بيروت» تتجرأ على البحر والتعددية

تقع منطقة رأس بيروت غربي بيروت القديمة قبالة الشاطئ وجزء منها يشبه الرأس ويدخل البحر، كانت منطقة مقفرة من السكان، يإستثناء بعض الجلول والمناطق الزراعيّة لا سيما التين والصبّار، وكانت تُعرف بإختصار باسم الرأس أو رأس المدينة، وقد وجدت فيها نتوءات من الصخور الرمليّة المسننة، وخلت من كل بناء إلا من أنقاض برج يعود بناؤه إلى العهد الصليبي، كما وجدت في المنطقة برج الحمرا، التي كانت النار تشعل في قمته.

لم تتطور منطقة رأس بيروت إلا بعد بناء الكلية السورية الإنجيليّة عام 1865م، الجامعة الأميركيّة فيما بعد، وبعد بناء عدد من المدارس والمعاهد الأجنبيّة، كما بني فيما بعد مستشفى الجامعة الأميركيّة.

إستقطبت المنطقة بعض الأسر البيروتيّة واللبنانيّة والأجنبيّة، التي قطنت فيها ومن ثم توطنت، أشهرها آل شاتيلا وآل اللبّان، وكان يوجد منطقة مشهورة تعرف باسم جلّ البحر، الكائنة في مزرعة رأس بيروت.

كثيرون فيها: مثقفون، مخضرمون، شباب، «كندرجية» المنطقة، وأصحاب متاجر ومكتبات وصيدليات... يصرّون على أنه لا مكان في لبنان مثل رأس بيروت. حتى عندما انقسمت المدينة إلى شطري الحرب، «كان هناك ما يسمى بالشرقية والغربية، وكانت هناك رأس بيروت»، على ما يكرر دوماً المفكر منح الصلح. فأي سر في هذه المساحة الممتدة من كلية الحقوق شرقاً إلى البحر غرباً، ومن شارع بلس إلى منطقة فردان صعوداً (أي بما يوازي في الإجمال ثلث مساحة بيروت الإدارية)؟ بل ليكن السؤال: كيف نشأت رأس بيروت لتصبح على ما هي عليه من صيت وإرث، وحاضر تنتجه متغيرات؟ .

كلّية بين الواوية؟!

رأس بيروت، أو الرأس، كما كان يعرف قبل اتصاله بالمدينة، كان مدّات من الرمال والبساتين المليئة بالأشجار المثمرة، توصل في ما بينها معابر ضيقة تحفّ بها نبتات الصبّار.

وغالباً ما كانت هذه المعابر تسمى بالخنادق والزواريب، كخندق ديبو وزاروب الحرامية، وكلاهما حيث هي الحمراء اليوم. وكانت هذه المعابر والممرات محفوفة بأخطار الأفاعي ومسكونة بالجن بحسب بعضهم... وكان أهالي رأس بيروت يعيشون من غلال بساتينهم، فخورين بما يستنتجونه منها... هكذا يصف مختار رأس بيروت، كمال جرجي ربيز، المشهد، قبل أكثر من مئة عام، في كتابه «رزق الله عهيديك الأيام يا راس بيروت». هكذا... إلى أن «حدثت» في المنطقة «الكلية السورية الإنجيلية» في العام ,1866 أو الجامعة الأميركية في بيروت التي نعرفها اليوم: «لما عرف سكان المدينة أن المبشرين الأميركيين سيبنون كلية في الرأس قالوا عنهم انهم يريدون أن يسكنوا بين الواوية في زمن كان يطلق فيه على أبناء الضواحي اسم أولاد البرية».

صعدت رأس بيروت مع الجامعة الأميركية. عمرت حول المؤسسة الجديدة «المصالح» أو الخدمات: مطاعم، غرف للإيجار، مكتبات...

في الثلاثينيات، بدأ الأساتذة يفدون إلى بيروت ويعمرون البيوت وكانت بيوت أهل المنطقة قبل ذلك بيوتاً أفقية لمزارعين، أما بيوت الأساتذة فصارت من طابقين وبشكل هندسي منمّق أكثر، تلك كانت بداية مظاهر الطبقة الوسطى المحترفة في المنطقة.

ثورات رأس بيروت

بهت لون لافتة «مطعم فيصل»، التي استمرت مثبتة لمدة طويلة بعد إقفاله منتصف الثمانينيات، قبل أن تختفي وتحل محلها لافتة «ماكدونالدز»، وتظهر على بعد أمتار منها لافتة «بيرغر كينغ». ...عناوين باتت تغزو رأس بيروت التي لم تكن يوماً بعيدة عن العالم، لكن المعالم التي تختفي لا تعود.

يقول منح الصلح إن صاحب «مطعم فيصل»، الذي افتتح في الثلاثينيات، كان اسمه توفيق فيصل، وأن المطعم أفاد من اسمه، إذ «كان الألق يتمحور حول فيصل الهاشمي واتصال اسمه بالثورة العربية الكبرى على الدولة العثمانية». كان الرواد الدائمون، بحسب د. كمال بخعازي، أساتذة وطلاباً في الجامعة وبعض المشتغلين بالسياسة، «مطعم فيصل» كان مخصصاً للأكل والحديث في السياسة، أما لقاء الفتيات فكان في «الأنكل سام»، و«تبعاً لأجواء التحرر والنقاش بالمسلّمات، قررنا يوماً أن ندخل الفتيات إلى مطعم فيصل، فكان الأمر أشبه بثورة».

يرد اسم الشارع ، ومقاهيه، في معظم المذكرات التي كتبها المثقفون اللبنانيون والعرب الذين عاشوا في بيروت القرن العشرين.

ربما تكون ثورة رأس بيروت اليوم أنها تقاوم اللون الواحد ـ في العولمة المهيمنة على المدن بالشكل والطعم نفسه («ستاربكس»، «ماكدونالدز»...)، كما اللون الواحد في الشأن المحلي.

تسير خروجاً من شارع بلس الذي أخذ اسمه عن الرئيس الأول للجامعة، دانيال بلس (دامت رئاسته من 1866 حتى 1902). هو الشارع الذي لا تسأل مثقفاً أو مؤرخاً أو معاصراً مباشراً لرأس بيروت إلا ويقول لك إنه شكّل، تدريجياً، شريان الحياة لسائر المنطقة، كما شكل مصنع أفكار ونقاشات ساهمت على امتداد فترة طويلة من الزمن في تكوين الحياة العامة ليس في بيروت فحسب، بل في سائر الدول العربية.

هو الشارع الذي اخترقه «خط الترين» (الترامواي) الآتي من محطة البرج، لينجز وقفته اليومية أمام المدخل الرئيسي للجامعة، قبل أن يتوقف نهائياً في شباط ,1965 ويستبدل بحافلات النقل العام الذي سمّاه ركّابه «جحش الدولة».

حتى هذا الشارع، الذي كان دوماً عنواناً للحياة المدينية الحقة كما يجب أن تكون في بيروت، طاله ما تعيشه سائر المدينة من هاجس أمني، فزرعت في أجزاء منه، لا سيما تلك المحيطة بمنزل رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، حواجز حديدية لتخفيف السرعة، وعناصر أمنية، بالمرقط وباللباس المدني.

الأعلام اللبنانية، وهي الآن إشارة مناصرة للرأي القائل بشرعية الحكومة، مغروسة في أعمدة إنارة بلس.

لا حرب فعلية في بيروت اليوم. لا ميليشيات ولا مسلحين كما يؤكد لنا الرسميون مراراً. لكن هناك وجه الأمن الذي لا تظهر ملامحه إلا عندما يُخشى على استتبابه.

قبل عقود، قبل الحرب، خلالها وبعدها، توالت الملصقات السياسية من الأنواع كافة. يقول مختار رأس بيروت، محي الدين شهاب، إن المد الناصري توسع هنا قبيل اندلاع الحرب، وقبله كان الولاء السياسي التقليدي، أي للنخبة المتوارثة، وفي طليعتها ـ انتخابياً ـ صائب بك سلام، ومن بعده كل من عثمان الدنا وعبد الله اليافي وغيرهما.

يقول إن المنطقة كانت في الأساس «على هوى» القوميين العرب. كما برز لاحقا الحزب السوري القومي الاجتماعي، «كون أنطون سعادة أمضى جزءاً طويلاً من عمره في رأس بيروت، فأثّر وتأثر بالمنطقة وأبنائها». يضيف شهاب: «كان يدخل في نقاشات مع والدي ويقول له: رح تنزعوني، ادخل في الحوار قومياً سورياً وأخشى أن أخرج منه قومياً عربياً. كان ذلك قبل إعدامه بقليل».

تقاطر المهجّرون، إثر الاجتياحين الإسرائيليين في 1978 و,1982 إلى المنطقة واستقروا فيها. نقلت تنظيمات وأحزاب «إضافية» أمتعتها إلى رأس بيروت: حركة أمل، الحزب التقدمي الاشتراكي، القومي السوري، البعث، حزب الله... «صار كل ديك يسيطر على زاروب أو بناية»، يقول شهاب الذي تهيمن على مكتبه صورتان كبيرتان: واحدة لرفيق الحريري وثانية لجمال عبد الناصر.

يعتبر شهاب أن وجود الحريري في قصر قريطم (الذي اشتراه من ورثة نجيب صالحة في الثمانينيات ثم أضاف إليه مبانيَ جديدة) حرّك عصباً «محليا»، لأن أهل المنطقة «تفاعلوا مع هذا الوجود، كان الحريري مثلاً يعزي في الخلية عند وفاة أحد الأعيان، وكانوا يقصدونه عندما يريدون خدمة».

ما تغيّر في رأس بيروت، برأي الصلح، هو «المال العربي ومتفرعاته وشخصياته، التي لم تستطع أن تصنع شيئاً مثل الجامعة الأميركية أو اليسوعية (في الأشرفية)، لا حجراً ولا بشراً، للأسف لم نعد نعطي أنفسنا حق الحسد من الآخر، الحسد الإيجابي البناء لا التزلّم».

يتحسر الصلح الذي ما زال يسكن في بيت بسقف عال وأمامه حديقة على «العمران الفلتان الذي أكل خضرة رأس بيروت». يذكّر بالدكتور خلف الذي يقول في فيلم حجيج انه كان يمشي من بيت أهله في جان دارك عبر شارع خالدي، ولا تفوته رائحة الياسمين.

تجلس مجموعة من الأشخاص، يبدو أنهم أجانب، في مقهى «ريستريتو» القريب من «زاوية أبو طالب». بعد حديث قصير يتبين أنهم أستراليون: عائلة من أب وأم وطفلين ومعهم صديق يعيش في لبنان بحكم عمله في السفارة. يقول إنه يقطن في الأشرفية. عندما فكّر في المكان المناسب لبداية جولة مع زواره، لم يجد سوى رأس بيروت: «أردتهم أن يتلمسوا الإحساس الحقيقي بالمدينة، فهنا الجامعات والمدارس والأجواء الشبابية المتنوعة التي لم تغيّرها الحرب كثيراً. أعيش في لبنان منذ سنوات، ولطالما شعرت أن بيروت الحقيقية هي هنا».

مقابل «ريستريتو» محل «ساعاتجيان الأرمني» لتصليح الساعات. خطوات تفصله عن «مجوهرات البوري» العائلة المسيحية من أصل فلسطيني. خلفه دكان آل نادر، العائلة الدرزية التي أتت قبل عقود من الجبل وعمل رجالها كشغيلة في دكاكين «كندرجية» في «البلد»، ثم قرروا الانتقال إلى رأس بيروت في أوائل الستينيات لفتح دكاكينهم الخاصة: «كنا نسكّر بالليل ويبلش النهار بالحمرا اللي ما كان فيها حدا ما صرنا نعرفه، إلا السياح، هلق ما عدنا نسلّم على حدا بيمرق من قدام المحل، تغيرت الأشياء لكن ما فينا نكون غير هون».

إلى هنا انتقل عصب بيروت... عندما اندلعت الأحداث في العام 1958 وضربت الأسواق، انتقلت المدينة إلى رأس بيروت: مصارف، مكتبات، وتجارة.. كما يقول المختار ربيز. بدأت دور السينما تنتشر، مع المقاهي، ومحلات «الماركات الثقيلة «شانزيليزيه الشرق الأوسط.

تسمع من جيل ما قبل الحرب كيف خرجت النهضة الفنية من«الهورس شو»، لكن جيل الحرب عاش الحمراء المرصوفة بأكياس الرمل، ويذكر كيف كان مشوار السينما، إلى «الإلدورادو» أو «الكوليزيه» أو «المارينيان»، شبه مجازفة بسبب كل ما كان يسمع عن القنابل التي تنفجر في الأماكن المغلقة. كانت الصالات ما زالت على طراز الستينيات والسبعينيات. مسرح جان دارك. مسرح «البيكاديللي» بمخمل كراسيه الأحمر وصورة فيروز العملاقة مقابل الدرج المؤدي إلى القاعة.

انتهت الحرب. وصار شباب رأس بيروت يتكبدون المشوار إلى الكسليك، وأحياناً الأشرفية، لمشاهدة فيلم في السينما أو مسرحية في «الأتينيه». كل شيء هناك كان جديداً، فيما لم يكن قد بقي من رأس بيروت سوى جمال الذاكرة التي ترفض أن تُغيّب. لكن الأمر لم يطل. فتحت «الكونكورد»، و«مسرح المدينة» و«مسرح بيروت» (أقفل قبل بضع سنوات)... انتعش شارع «المكحول»، مطعم «بلو نوت» يقدم الجاز الحي مع الأكل، فرق شبابية تغني في الحانات المتراصة مع كنيسة «السيدة» ومدرستها. ما زال هناك بعض اخضرار في «المكحول» الضيق الحميم

في رأس بيروت أكثر بقليل من 42 ألف ناخب وناخبة: 32 ألفا من السنّة، 10 آلاف من الأرثوذكس والموارنة، بالإضافة إلى أقليات ناخبة درزية وشيعية.

فيها سبعة مساجد وخمس كنائس.

فتح إميل دبغي سينما الحمرا في العام 1958 وافتتح منح دبغي صاحب «سيتي كافيه» أول مقهى رصيف بجانب سينما الحمرا «الهورس شو».

ابراهيم طقوش، صاحب «أزهار طقوش» (في محيط جان دارك) هو أول لبناني يذهب إلى مصر ليصبح ممثلاً.

ولدت ليلى شهيد، التي شغلت لسنوات منصب سفيرة فلسطين في باريس، في رأس بيروت ولم تترك المنطقة، التي تتردد إليها حتى اليوم، إلا في العام 1974.

بدأت أولى عائلات رأس بيروت بالوصول إليها مع بداية القرن العشرين واكتظاظ وسط المدينة، فوجدت في «البرية» متنفساً لها. اشتروا العقارات من العائلات الملاكة في المنطقة والتي كانت غالبيتها درزية، أبرزها حمادة وتلحوق. فمثلاً، وعلى عكس ما يعتقد البعض، لم يسمّ «شارع السادات» على اسم الرئيس المصري الراحل أنور السادات، بل نسبة إلى «السادة» من آل تلحوق الذين حفظتهم ذاكرة رأس بيروت كملاكين قدماء. بل إن منح الصلح يقول إن كل واحد من آل تلحوق كان يمكنه الدراسة في الجامعة الأميركية مجاناً (أو بقسط رمزي) لأن «المبشرين الأميركان» اشتروا أراضيَ من العائلة وأرادوا أن يحفظوا علاقة طيبة بالمالكين الأصليين وبأهل المنطقة عموماً. عائلتا علم الدين وعبد الملك كانتا أيضاً من ملاكة رأس بيروت. وقبل حوالى مئة عام كان الوقف الدرزي وحده يملك أكثر من ثلثي بيروت.

كان الدروز في رأس بيروت يدفنون موتاهم في المقبرة السنّية في الباشورة، ويقصدون المحكمة الشرعية السنّية لعقد النكاح والطلاق بحسب المذهب السنّي، حتى حصر الإرث والوصية كانت تنفذ وفقاً للمذهب السنّي. وذلك حتى أنشئت المحكمة المذهبية الدرزية في الستينيات.

استوطن البيارتة السنّة المناطق الشاسعة في رأس بيروت واشتغلوا في مهنتين أساسيتين: الزراعة، إذ كان الإنتاج يكفي بيروت كلها، من الخضار والصبّير والتين والجميز وبعض الحمضيات، إلى جانب الخضار «النادرة» مثل «القرص عنّة» و«الكما» والرشاد والروكا والزعتر، إلى جانب صيد الأسماك.