أين اختفى حي البرجاوي وكيف قام «المندلون» محل جامع الحسنين؟

منطقة «أوتيل ديو»: «الجزيرة الفرنسية» تحفظ قصص الانتداب و«خط التماس»

أوتيل ديو مرجيةٌ رأفته بتعب الأجساد الفانية. والواسطة بين العناية الإلهية، وبين الطب الدنيوي، إرسالية الآباء اليسوعيين.

منطقة بأكملها، في الأشرفية، تُكنّى بمستشفى «أوتيل ديو» الذي افتتح عام ,1923 وسط الـ«لا مكان»، أي «خارج بيروت» آنذاك، بين أعشاب تعلو على سجيّتها، ومعها شتلات الخضار وبساتين الحمضيات وأشجار الزيتون.

محيط المستشفى، «جزيرة فرنسية»، اليوم كما بالأمس. توصيف يتفق عليه كثيرون في المنطقة. فهنا، إلى المستشفى، مدرسة «غران ليسيه»، وملعب «ستاد دو شايلا»، وأبنية كليّات مختلفة للجامعة اليسوعية، والسفارة الفرنسية، والمركز الثقافي الفرنسي... حتى المساحة التي تقع الآن خلف مركز العيادات الطبية، المقابلة للمدخل الرئيسي للمستشفى، لها تسمية بالفرنسية يردده بعض كبار السن: «شاكال دارا»، ومعناها «وادي الواوية».

على هذه «الجزيرة» نمت حكايات لبنانية، قبل الاستقلال من الانتداب الفرنسي وبعده، قبل وبعدما رُسمت المنطقة «خط تماس» للحرب الأهلية اللبنانية. فمن السكّان من رحل إلى كسروان «الآمنة» من القصف المتبادل بين «شرقية وغربية»، ومنهم من وفد إليها بعدما صارت المركز التجاري والطبي والتعليمي الحالي. حرب 1975 وسلامها، غيّرا النسيج الاجتماعي والوظائف اليومية للأحياء الصاعدة من حول «أوتيل ديو». تماماً كما كانت للحرب العالمية الأولى بصمة على قيام المشروع الاستشفائي للإرسالية الفرنسية. هكذا تبدأ القصة...

أول طبيبة لبنانية

يروي الكاتب والصحافي الشهيد سمير قصير، في كتابه «تاريخ بيروت»، أن استكمال المشروع الجامعي الفرنسي (الجامعة اليسوعية)، في أوائل القرن العشرين، كان لا بد أن يتوج بمستشفى جامعي. فاشترى مدير كلية الطب الفرنسية قطعة الأرض الواقعة على المنحنى الجنوبي لتلة الأشرفية، ثم اختير المهندسون المعماريون، ومن بينهم الشهير يوسف أفتيموس، وتولت أمر التنفيذ لجنة آسيا الفرنسية. وعندما اندلعت الحرب، كانت مواد البناء تصل لتوها إلى الموقع. ومع عودة السلم، لم يكن لدى كلية الطب الفرنسية الوسائل لإنجاز مشروع البناء كما يجب، فاستعانت بمستشفى القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس لإعداد طلابها، واستمر ذلك لمدة ثلاث سنوات. «لكن هذا الوضع لم يرض طموح القيمين على الشأن التربوي، كما لم يلق ارتياحاً لدى سلطات الانتداب»، بحسب قصير، فقرر (الجنرال) غورو تخصيص مبلغ مليوني فرنك من ميزانية لبنان الكبير من أجل إطلاق المشروع ووضع الحجر الأساس في 2 أيار1922 وبعد سنة دشّن خلفه، ويغان، المبنى الذي انتصب وسط مساحة بلغت ثلاثة هكتارات في منطقة قلّما كانت مأهولة بالسكان آنذاك، وبالتالي فهي ملائمة لراحة المرضى.
يخبر قصير أيضاً كيف أنه، كان لا بد لكلية الطب الفرنسية، بالإضافة إلى إعداد الأطباء، أن تستجيب إلى الحاجات الجديدة لمستشفى أوتيل ديو في ما يخص العاملين فيه والدفعة الأولى للقابلات القانونيات اللواتي تخرجن عام 1924 وهكذا، أضيف إلى المستشفى جناح آخر، مع إنشاء قسم التوليد الفرنسي الذي أنجز عام 1938 مقابل الحرم الجامعي، على طريق دمشق.

ثم... إنجازان للتاريخ: المرأة الأولى التي تتخصص في الطب في بيروت من جهة، والحضانة التي ستتسلم مسؤوليتها هذه الدكتورة، إيلين صافي ـ حدث عام 1943 ـ من جهة ثانية.

إمباير ستات الأشرفية

منطقة أوتيل ديو، شارع 16 مبنى يبدو غريباً بهيمنته على المشهد المتفرنس، تلتقطه عين السائر باتجاه مدرسة «الليسيه» التي انتقلت إلى موقعها الحالي، في الستينات، من حيث يرتفع «سوديكو سكوير» اليوم. صرح صغير بـ«غرابة» نيويوركية. خالَف فعُرف. مغايرة عمارته لـ«أرض الفرنكوفون»، ومشهور بنسبه إلى الشاعر شارل القرم (1894 ـ1963)، ابن الرسام داوود قرم صاحب اللوحات ذات الطابع الديني المسيحي. عاد شارل قرم، في الثلاثينيات من القرن الماضي، من مهجره الأميركي، وشيد بناءً يحاكي مبنى «إمباير ستايت» الذي كرّسته هوليوود، قبل برجي التجارة العالميين، اللذان سقطا في أحداث 11 سبتمبر، معلماً لولاية «التفاحة الكبيرة». تسلّقه «كينغ كونغ» ,1933 وتلاقى على سطحه الشاهق، بعد أربعين عاماً، الحبيبان ميغ رايان وتوم هانكس، في فيلم «أرق في سياتل». وللحداثة الأميركية المميزة موطئ عمارة منمنمة في أشرفية بيروت، لكن بلا غربة حقيقية عن بيئة أوتيل ديو. فهنا كانت المكتبة الخاصة بقرم، الذي تكرّس فرنكوفونياً، وكان أيضاً صاحب ثروة طائلة، أتته من طريق تجارة لم تصرفه عن الشعر اللبناني باللغة الفرنسية. فتصدّر تياراً أدبياً، كأحد دعائم «إحياء التراث الفينيقي». أما عن ثروته، فيُروى أن أحد أعيان المنطقة، من آل نعمة، جاء لقرم بمن يشترى هذا العقار في أوائل الستينيات، عارضاً عليه مبلغ 30 مليون ليرة، أي ثروة صغيرة في تلك الأيام. ولما أجاب قرم بأنه ليس بحاجة إلى المال، وافقه نعمة مضيفاً: بلا شك، لكنك بحاجة إلى عقل!.

 . جنى عمر وقراءة وهوس. وزعها على الطوابق المتعددة، وأمضى بينها معظم وقته، فأحاطت به مضيفاً لمرتادي صالونه الأدبي.

مساحة خاصة بنكهة اغترابه. يقال إن المكان حوى، ذات يوم، 35 ألف مجلّد جمعها قرم لأنها كل ما كان قد كتب عن لبنان باللغات الأجنبية آنذاك. وهو الذي أصدر عام 1920 «المجلة الفينيقية»، وأتبعها بدار نشر بالاسم نفسه، وأنشأ «ندوة الصداقات اللبنانية» عام .1935 في هذا «الإمباير ستايت» خاصته، استقبل أسماء من قبيل سعيد عقل وهكتور خلاط وجورج شحادة.
يحضرك مرة أخرى «تاريخ بيروت»، حيث يكتب قصير أنه بعدما أصبحت فرنسا موجودة بقوتها العسكرية، ومنذ بدأت الدولة العثمانية تعاني سكراتها الأخيرة، لم تعد هناك قوة قادرة على لجم الهوية المسيحية اللبنانية التي تتبنى نموذج المدنية الفرنسية... «ولم تجر المطالبة بالخصوصية اللبنانية إلا لمواجهة المحيط العربي المسلم، سواء تعلق الأمر باستقلال الجبل، حيث تبلورت الهوية اللبنانية الوطنية، أو برفع شعار الهوية الفينيقية التي نادى بها جماعة من أهل الصحافة والأدب اللبنانيين الذين استجابوا لدعوة شارل قرم وميشال شيحا، متذرعين بالتاريخ لكي يجعلوا من المطالبة بالوحدة السياسية مع مدن الساحل أمراً مشروعاً. كانت النزعة الفينيقية تعبر عن نفسها باللغة الفرنسية وكانت الإيديولوجيا النابعة من الجبل تضرب جذورها تحديداً في علاقة مميزة مع فرنسا ـ الأم الحنونن....

مبنى القرم اليوم بحالة جيدة، بعدما رممه الورثة الذين ما زالوا مغتربين في الولايات المتحدة، ويأتون إلى لبنان في زيارات. لكنه مهجور، لا وظيفة له سوى شهادته على ذكرى الأجداد. وتشهد أملاك آل القرم، المنتشرة في المنطقة، على غناهم، حتى اللحظة، عن بيع أو استثمار... في ما خلا بعض المتفرقات، مثل بيعهم عقاراً للجامعة اليسوعية التي أطلقت ورشة بناء «فواييه» (سكن طلابي) جديد.

(الليسيه) وفرنسا الحلم

على الصف ذاته، «ستاد دو شايلا». الأرض التي وهبها الـ«كونت دو شايلا» للفرنسيين، على الأرجح، وبحسب المختار نعمة، لتخليد اسمه. هو «كونت»، لكنه لبناني. وهم الانتداب، وقد استخدموا الأرض كاصطبلات لخيولهم. ثم صار «الاستاد» ملعباً لكرة القدم. واليوم هو ملاعب رياضية وترفيهية برسم طلاب «غران ليسيه». الطابع الفرنسي مضاد للماء والهواء والزمن، على الأقل في ربوع هذه «الجزيرة» المخضوضرة بنَفَس أوروبي.

دائماً، في نظرك كولد، يبدو كل شيء كبيراً. كانت خضرة الليسيه تبدو لي كالغابة، والآن انتبه إلى شجرتين وربع! (تضحك) لكنها ما زالت جميلة. هذه منى الرز. كانت تلميذة في المرحلة الابتدائية في المدرسة الفرنسية، ولها اليوم بنت وصبي يرتادان المدرسة نفسها. تذكر منى رحلة الأوتوكار من وإلى بيتها في رأس النبع، حيث استقرت أيضاً بعد الزواج: أتذكر المشهد اليومي وأدرك الآن أنها كانت منطقة مجمّدة بفعل الحرب. اخضرار بلا زحمة سير. بيوت قديمة، صفراء ومهملة، حولها حدائق صغيرة، لا أحد يجرؤ على إصلاحها بسبب الأوضاع.

عندما انتهت الحرب، سررنا ببقاء هذا الطابع. لكن، للأسف، هدمت البيوت التي كنت أحب التفرج عليها من الشباك، وعلت بنايات جديدة مع مواقف للسيارات.

كانت منى صغيرة عندما تركت «الليسيه» وهربت مع عائلتها إلى فرنسا مع احتدام الحرب الأهلية. لذلك، ربما، لا تتذكر إن كانت الأجواء الطائفية حاضرة في مدرستها آنذاك. جلّ ما علق في رأسها كيف أن «بعض التلاميذ الكبار» كانوا يعلقون في رقابهم صلباناً كبيرة، فكانت والدتها(متخرجة من المدرسة نفسها) تحذرها من التعليق على الموضوع أمام أحد من رفاقها.

لكن، من جهة أخرى، كونها لا تتذكر، فلذلك في حد ذاته دلالة. يعيش ولدا منى اليوم (في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة) أجواءً مختلفة: «ألوان، وأورانج وأزرق، وأنت مع مين وأنت ضد مين... تخيلي أن إحدى الأمهات قالت لي، خلال دردشة قصيرة بعد اجتماع للأهالي، وعلى الأرجح بنية حسنة: بتعرفي مدام، مش مبين عليك مسلمة!. تقول منى إن التلاميذ المسلمين يشكلون اليوم حوالى 20 في المئة من صفّي ولديها، لكني لاحظت أمراً لا أعرف إن كان غريباً: صحيح أن الليسيه لطالما كانت مدرسة جاليات، وقد جايلنا أسماء من نوع بيكاسين ومارغريت، لكني أذكر أيضاً أنه كان في صفي فادي ومروان وناجي وعصام. اليوم قلما نسمع بغير آلان وكريستوف، أو محمد وعلي، ماذا حصل للأسماء العلمانية؟.

 تسمع منى من والدتها أن الأخيرة كانت تحيّي، مع رفاق الدراسة، العلم الفرنسي ونشيده كل صباح. وتسمع أيضاً عن أجواء الانفتاح في تلك الأيام: «كان ارتداء الفتيات للشورتات القصيرة، خلال حصص الرياضة، يعتبر خرقاً ثقافياً. لكن في الوقت نفسه كان هناك انضباط، ممنوع الفولار والشعر دائماً ملموم خلف الوجه. أيامي غير، وطبعاً جيل أولادي مختلف تماما». لكن الثابت، بحسب منى، يكمن في عنصرين: «المستوى العالي للتعليم، عبر تحفيز مخيلة التلاميذ ومواهبهم المختلفة من جهة، والإحساس بفرنسا كمثل أعلى من جهة أخرى...

يعني دايماً فرنسا هي الظابطة والأحلى، دائماً حلمنا نروح على فرنسا، الحصص بالفرنسية أكثر من العربية، تاريخ وجغرافيا وتربية مدنية فرنسية. أنا أهلي كانوا عروبيين، فتأثرت أقل.

لكني أشد حبالاً كثيرة مع أولادي لأربطهم ببلدهم ولغتهم الأم.

كان حي البرجاوي

تكمل سيْرَكك. «حاضرة نيويورك» على يسارك، وقد باتت خلفك. مفرق صغير على اليمين، وطريق تصعد صوب حرج «بري». لولا أن مختار الأشرفية السابق، جان نعمة، يقوم بدور الدليل، لما تنبّه زائر إلى أن الجهة المقابلة لذلك البيت الأبيض الجميل على الزاوية تحول إلى مطعم «مندلون» هي فعلياً مدخل لما كان يوماً «حي البرجاوي». لم يكن «شارع بيضون» الحي السنّي الوحيد في الأشرفية، وإن أصبح كذلك اليوم. يافطة كبيرة يغطي نصفها عشب طويل: «المديرية العامة للأوقاف الإسلامية، منطقة الأشرفية العقارية، عقار رقم ,913 بإذن الله تعالى سيعاد بناء جامع الحسنين». يقول نعمة إن البلدية هدمت، في أوائل التسعينات، ما تبقى من ركام بيوت الحي التي أنهكتها ضروب الحرب الأهلية، وكانت ترتفع على «خط التماس» المشؤوم... «وظللنا على مدى عامين نردي الكلاب المسعورة بالرصاص». رصاص السلم وجرافاته سعت بجدٍّ، هنا، إلى تنظيف الأرض من مخلفات الحرب، لكن الفوضى ما تزال...»، يستدرك نعمة، لافتاً إلى أنه في القانون اللبناني، لا تجوز إقامة مطعم، أو أي من «مراكز اللهو»، على مسافة خمسين متراً من أي دار للعبادة لأي طائفة. ومع ذلك، ها هو «المندلون»، قرب ما كان مسجداً. تماماً كما كان «النادي الدولي» القريب، لصاحبه الياس العيراني، يضج بالحركة قبل التماع أضواء «كازينو لبنان» في المعاملتين

خطوات إضافية، ومفرق آخر على اليمين. الشارع رقم ,83 حيث مركز نقابة خبراء المحاسبة. كان منطقة صناعية، أكشاكها مسقوفة بالتنك، وأعمالها الحدادة وصناديق الكميونات. انهار منها ما انهار، وترك منها ما ترك، خلال الحرب الأهلية، مما صبّ في مصلحة مالكي العقارات الذين كانوا يتقاضون إيجارات رخيصة. اليوم بيوت، وعلى رأس الشارع نفسه أملاك لآل قليلات ورسلان. تخرج باتجاه الأوتوستراد. تواجه «الجامعة اللبنانية ـ الإدارة المركزية». هذه كانت وزارة الدفاع. وقبل أكثر من أربعين عاماً، أفرغت رشاشات عناصر المخابرات حمولة متواضعة من الرصاص، عبر شباك المبنى، لكنها ـ على ما يقال ـ كانت كفيلة بإحباط انقلاب القوميين. يلوح في الأفق «بيت المحامي اللبناني». الجادة الآن على اسم الشهيد بيار الجميل ـ كورنيش النهر سابقاً. ورشة حفريات وبنى تحتية، وكاتدرائية سيدة البشارة للسريان الكاثوليك منذ عام .1970 أنت الآن على أرض ذاع لها يوماً صيت فخامة. إذ يحكى أنه، في الخمسينيات، كانت الشقق، التي اتسعت على مساحة 400 متر مربع، تؤجر بعشرة آلاف ليرة في الشهر. مبلغ محترم. لكن قبل ذلك، لا شيء تقريباً... سوى البساتين التي كانت العائلات القاطنة حول «أوتيل ديو» تقطعها في «سيْران» يوم العطلة باتجاه جسر الباشا.

هي سنّة المدينة التي تدخل أطواراً بعد أطوار. فيما يبقى «تطورها» نسبياً، بحسب الناظرين والعابرين في اتجاهات ومصالح مختلفة ـ والأهم، بحسب الباقين في المكان، مفتقدين «كل عرق خضار» وقد زال، وكل جار وقد رحل.

مراهقة... وبالكاد حب!

«كانت المنطقة أشبه بالضيعة منها بالمدينة»، يقولل روجيه خوري (32 عاماً) الذي ولد وعاش طيلة حياته في محيط «أوتيل ديو» الذي عمل فيه والده. ويرد إحساسه هذا بالمنطقة إلى كونها كانت خط تماس، «فقد كنا نمضي وقتاً طويلاً في الملجأ، وكان هناك تماسك أسري وحياة عائلية بين الجيران، على الأقل أولئك الذين لم يرحلوا بسبب الحرب، ولو أننا لم نعرف طفولة أو مراهقة مطمئنة. اليوم لا يعرف قاطنو البناية الواحدة بعضهم البعض». عالقة في رأس روجيه، متخرج من مدرسة «سيدة الرحمة» على المتحف، صورة المتاريس والسواتر الترابية: «كنا نعتبرها طبيعية، لكني اليوم أدرك كم كان شكل الحرب طاغياً وأنه لم يكن طبيعياً»، من الطبيعي، مثلاً، أن يولع روجيه ـ مراهقا ـ بفتاة من عمره، ويخرج معها. لكن، بسبب الظروف المعروفة، كان الأهل يصرون على خروج أولادهم كمجموعة، لينتبهوا إلى بعضهم البعض: قلما كنا نخرج. أحياناً إلى سينما أمبير ـ صوفيل، وأحياناً إلى ساسين حيث كان مطعم وينرز المقفل الآن. معظم مشاريعنا كانت بيتية، لعب ورق ومونوبولي، أصلاً كنا كلنا أبناء حي واحد. ومع مثل تلك الذكريات المستعادة من دفاتر الحرب، من الطبيعي أن يتذكر روجيه جاراً ستينياً كان رفيقه الدائم راديو «ترانزستور» ملتصقاً بأذنه ليلاً نهاراً: «كان يضل على موجات «إي إم» ويضل معيّشنا على الأمل، بعد حرب الجبل كان متأكداً من أن الحرب خلصت، يسمع الأخبار ويؤكد: الحرب خلصت».

هي صداقات الحي الواحد. والشكل الطائفي كان، طبعاً، مسيحياً واحداً: «سريان وروم كاثوليك وموارنة، مخلوطة»، يخبر روجيه، «لكن وجود الليسيه كان يضفي لمسة علمانية ما، أو هكذا كنا نشعر». و«الزعامة» أيضاً لها وجه: كان نفوذ للقوات اللبنانية، ويبقى، «مع حالة محدودة لعون في وقت من الأوقات». يضيف روجيه: «كان لنا جار سنّي من بيروت، عاد بعد انتهاء الحرب إلى بيته الذي كان مستأجراً، وكان قد صودر وأعطي لمهجرين من الشوف، على عادة ما كانت الأحزاب تفعل في كل مكان. لا أستطيع أن أصف لك المحبة التي استقبله بها الجيران. أنا أعتبر نفسي محايداً، وأحاول أن أقنع الشباب المتحمسين بعدم تعليق الصور على مدخل البناية، أفلح أحياناً، وأحياناً لا.

فما الذي تغير في المنطقة اليوم؟ الزحمة، والسير، وغلاء الإيجارات بسبب القرب من الجامعة اليسوعية وجامعة «إي يو إس تي» (التي افتتحت عام 1994) والمتحف، يعني الشقة المتوسطة لا تؤجر بأقل من أربعمئة إلى ستمئة دولار في الشهر... كما أن معظم العاملين في السلك الدبلوماسي يفضلون مدرسة الليسيه لأولادهم... ربما لا يرى ابن عشر سنوات، يلعب مع أولاد الحي ما أراه، لكن المنطقة اختلفت علي.

لفة صغيرة، وعودة إلى المستشفى ـ المركز. تمر على حي السريان، شارع جالينوس، مركز البحوث والدراسات السريانية، «نادي النصر الرياضي»، بطريركية السريان الكاثوليك. للحي تاريخ المساكن العشوائية التي وفد إليها اللاجئون من بلاد ما بين النهرين، في الفترة ما بين الحربين العالميتين.

وعودة في الزمن، مع سمير قصير: «مهما تكن قاسية الظروف التي واجهها اللاجئون الأرمن، الذين أقاموا في مخيم مؤقت في الكرنتينا، حول المحجر الصحي القديم، ثم نجح عدد منهم في الخروج إلى المدينة حيث أنشئت «أرمينيا صغرى» في برج حمود، فقد ظلوا أوفر حظاً من السريان والآشوريين الآتين من بلاد ما بين النهرين. إذ لم يحظ الأخيرون بالدعم المشابه لسلطات الانتداب، بل وجب عليهم الاحتشاد غالباً في أماكن ضيقة لا تتسع لهم. ولم تسمح لهم ظروفهم المادية أن يسكنوا المنازل او أن يستضيفهم أحد، فتجمعوا في أماكن غير ملائمة للسكن، فوق تلة الأشرفية. بنوا أكواخهم في الأدغال المنتشرة هنا وهناك، وتفرقوا على المنحدر الشرقي للتلة حتى بلغوا منطقة كرم الزيتون، وعلى المنحدر الغربي حيث أقاموا في منطقة خالية عرفت لاحقاً باسم حي السريان الذي ظلت بيوته مبعثرة بطريقة عشوائية حتى نهاية القرن.

أعلى الصفحة