مسجد موحد وتزاوج وفريق لعب وجامعة
المزرعــة: الاختـلاط الطائفـي يتقـدم علـى المتـاريـس

لا يتذكر أهالي منطقة المزرعة ـ بربور، وجود فترة زمنية تفصل بين قدوم كل من العائلات الأصلية التي سكنت المنطقة. بنيت أولى المساكن فيها خلال فترة الخمسينيات، بعدما كانت عبارة عن رمول متصلة بكل من الغبيري والأوزاعي.

يقصد بعض أهالي بيروت شاطئ الأوزاعي، من أجل التنزه.

ينحسر الشعور بالتوتر مع التقدم باتجاه أحياء المزرعة الداخلية الواقعة خلف الكورنيش وضمنها منطقة بربور. يبدي أهالي الأحياء هناك حرصاً ظاهراً على ابتعادهم عن المشاكل. يعيش كل من المختار فوزي الناطور والمعلم في مدارس المقاصد محمد أبو لبن والمسؤول السابق في الكلية العاملية عباس بلوط حياة يومية مشتركة منذ ما يقارب الثلاثين عاما.

شهدوا سوياً أحداث العام 1958 ونزوح عدد من العائلات المسيحية على اثرها، ثم شهدوا معركة «أمل والمرابطون» وكانوا «لجنة إطفائية» كما أسموا أنفسهم في حينها، لكن الأحداث الحالية تخترق في نظرهم النسيج الاجتماعي بطريقة أكثر حدة.

تشكل الاختلاط الطائفي والمذهبي في الأحياء الممتدة من الكورنيش حتى بربور، خلال فترة نزوح عدد من العائلات الشيعية من الجنوب، وانتقال عدد من ابناء عائلات بيروت اليها، بفعل التزايد السكاني والعمراني. ميز ذلك الاختلاط المنطقة عن غيرها من المناطق التي تعيش حالة «صفاء طائفي» تقريبا، مثل الضاحية أو الأشرفية.

تبدو كثافة التزاوج بين عائلاتها طبيعية، بوصف أبنائها وبناتها يعيشون في الحي نفسه وفي الشارع نفسه وتعلموا في المدارس نفسها. يسمون أنفسهم جميعا أهالي بيروت، سنة وشيعة وروم أرثوذكس، يعرفون بتلك العبارة عن انتمائهم الجغرافي والاجتماعي. لكن ذلك الطبيعي وضع تحت المجهر، وبرز سؤال ماذا ستفعل العائلات إذا تحول التوتر السياسي الى توتر عسكري؟

أين ستوضع المتاريس؟

يقول فوزي الناطور إن زوجته وثلاثة من أصهرته المتزوجين بناته من أبناء الطائفة الشيعية، ويوضح أن شقيقه متزوج أيضا سيدة شيعية وقد توفيا سوياً في حادث سير حصل في ابو ظبي، ودفنا سوياً في بلدة زوجته وهي بلدة ركاي في الجنوب، بناء لوصيته، فيما ما يزال أولادهم الثلاثة الذين كانوا معهم في السيارة جرحى في المستشفيات، هل يجوز أن يتم سؤالهم الآن مع من أنتم؟

يوضح محمد أبو لبن بدوره أن والدته مسيحية وشقيقه متزوج سيدة من آل الزين، بينما يقول بلوط الذي يملك حاليا محلا تجاريا إنه يسكن في مبنى يضم إحدى وعشرين شقة، بينها ست عشرة شقة تسكن فيها عائلات من زواج مختلط من المسلمين. زوجته من آل السباعي من عين المريسة وولداه تزوجا امرأتين واحدة من آل أبو عمو في الطريق الجديدة، والثانية من آل عبود من رأس النبع. يضيف ضاحكاً أن زوجته تذهب لزيارة أهلها في عين المريسة وتتوتر عندهم ثم تعود إلى منزلها: هنا عائلتها، زوجها وأولادها

يصف عدد من الأهالي الحديث عن إمكانية حصول حرب شيعية ـ سنية ، بالحديث الذي يراد منه فصل الظفر عن اللحم: أين ستوضع المتاريس، داخل الأحياء أم داخل المنازل أم داخل غرف النوم؟. يطرحون السؤال بسخرية، لكنهم يحملونه معنى جارحًا. يتبعه سؤال آخر أكثر قسوة:

هل سيجري تطليق الرجال والنساء من بعضهم للدخول في المعركة؟.

الاختلاط الطائفي سمة المزرعة

تعتبر منطقة المزرعة من أكبر مناطق بيروت جغرافياً، تشمل البسطة وخندق الغميق ورأس النبع، وكورنيش المزرعة والطريق الجديدة، وصولا الى قصقص والمدينة الرياضية. فيها خمسة عشر مختارا، كما ولد وعاش فيها العديد من الشخصيات البيروتية، بينهم رئيس الجمعية العاملية رشيد بيضون والنواب السابقون فريد جبران ونسيم مجدلاني ومحمد الكبي، ورئيس المحكمة الجعفرية السابق المرحوم عبد الحميد الحر.

يقول المختار الناطور إن أهله كانوا في الخمسينيات على صداقة مع عائلة من آل حرب في برج البراجنة. لم يعد يذكر اسم رب العائلة، لكنه يذكر أنه كان يزورهم مع أهله عندما كان في الثالثة عشرة من العمر، يشاهدون البحر من هناك لأن البرج كان عبارة عن أراضي رمول متواصلة حتى البحر، ثم يقصدون بعد الزيارة الأوزاعي للنزهة سيراً على الأقدام.

كانت بيروت تنحصر حينها في وسط البلد، حولها خندق الغميق والبسطة وزقاق البلاط، تتخللها زواريب ضيقة ومساكن لا تتعدى الطابقين، وقد سكنت العائلات الشيعية تلك الأحياء، بعد نزوحها من الجنوب في الخمسينيات.

ولد الناطور في خندق الغميق، ثم انفصل بعد زواجه عن أهله العام 1964 وسكن في المزرعة، كان الشيخ عبد الحميد الحر جاره وصديق طفولته الأقرب اليه في خندق الغميق، شهد على نزوح جزء من الروم الأرثوذكس والسريان من سكان الى الأشرفية بعد أحداث العام 1958 ثم شهد فترة نزوحهم الثانية بعد نشوب الحرب الأهلية عام ،1975 لكن مع ذلك لا يزال يعيش عدد كبير منهم في المنطقة.

أبرز عائلات الروم القاطنة في المزرعة، هي عائلات سركيس وسمعان وصليبا ومجدلاني، وحداد وهرموش والصيقلي وهناك عائلة ابو عراج وهي روم كاثوليك وعائلة حبيقة وهي من الموارنة، وآل ديب من السريان.

كان الروم يؤيدون الرئيس الراحل صائب سلام سياسيا، وقد مثلهم النائب نسيم مجدلاني من العام 1943 حتى العام ،1972 ثم خلفه النائب نجاح واكيم من العام 1972 حتى العام ،1996 وقد نجح في حينها بتأثير المد الناصري، بعده النائب عاطف مجدلاني الذي انضوى تحت لواء تيار المستقبل ونقل نفوسه من المزرعة الى الأشرفية.

بالمقابل كان السريان وهم من الأقليات يؤيدون الرئيس الراحل كميل شمعون.

يروي شقيق فوزي الناطور أن صائب سلام كان على وشك خسارة المعركة الانتخابية في وجه لائحة الرئيس الراحل عبد الله اليافي، خلال الانتخابات التي جرت في العام 1968 لكن الرئيس شمعون الذي تحالف انتخابياً مع سلام في تلك الدورة الانتخابية، طلب من سريان المزرعة انتخاب سلام بعد ظهر يوم الانتخابات وأدى ذلك الى فوزه، ويضيف أن طريقة السريان في خوض المعركة تشبه طريقة الأرمن، يصبون جميعاً في لائحة واحدة.

أما العائلات الشيعية التي انتقلت الى المنطقة فهي: قسم من إقليم التفاح، وتشمل عائلات كركي ونعمة وجزيني وفقيه وطالب وحديب، وقسم من باقي بلدات وقرى الجنوب وهي: حجيج من صور، مروة من الزرارية ومنهم الدكتور حسين مروة الذي جرى اغتياله خلال فترة الصراعات بين حركة أمل والحزب الشيوعي اللبناني في العام ،1987 بري من تبنين، عاصي من شحور، مهنا من كونين، شومان من كفردونين، حيدر من جبيل.

يقول بلوط الذي يعرف من خلال تسلمه أمانة السر في الجمعية العاملية معلومات عن تورايخ نزوح العائلات الشيعية إلى بيروت، إن تلك العائلات نزحت في فترة الخمسينيات بحثاً عن عمل وسكنت في أحياء رأس النبع وخندق الغميق والبسطة بينما سكن عدد منها في عين المريسة:

كانوا شديدي الفقر اشتغلوا ماسحي أحذية وحمالين ومستخدمين في محلات تجارية وبائعي صحف.

درس أوائل المتعلمين منهم في الكلية العاملية التي احتضنتهم وكانوا يدفعون أقساطاً زهيدة بدل تعليمهم. استلم بعضهم بعد حصولهم على الشهادت المتوسطة والثانوية، مراكز وظيفية في مؤسسات الدولة اللبنانية. كان ذلك في فترة الستينيات تقريباً، قبلها كما روى رئيس الكلية العاملية الراحل رشيد بيضون أرادت الحكومة توظيف شيعة في مؤسسات الدولة، لكن لم تجد شيعياً واحداً حاصلا على شهادة البكالوريا.

بعد فترة التعليم هذه أصبح لدى العديد من العائلات إمكانيات مادية، بينها عائلات المزرعة فبنت منازلها، ثم أصبح لديها محلات في السوق التجاري في بربور.

أما العائلات السنية وتعتبر الأكثر عدداً فهي أبو لبن والزاهد وفتح الله وفتحة وكبي ونحاس وغلاييني والتنير والفاخوري والناطور والخطاب والقيسي، هناك قسم من عائلة حداد من أهل السنة. بينما لا يقتصر سكن تلك العائلات على المزرعة إنما موزعة على معظم أحياء بيروت.

ولد محمد أبو لبن في شارع بربور، في مبنى من طابقين كانت تملكه جدته أم ابراهيم التي تزوجت خلال حياتها رجلين هما محمد أبو لبن وأنجبت منه ولدين وعمر فتح الله وأنجبت منه ثلاثة أبناء.

كان أمام منزلهم ما يسميه أهل بيروت «العودة» وهي عبارة عن قطعة أرض يلعب فيها الأولاد.

جيرانهم من الروم من آل قازان، بينهم المختار سعد قازان وقد أصبح ابنه وليم تاجر مجوهرات شهير عالميا. بدأ وليم حياته عاملا في أحد محلات بيع الأدوات الكهربائية، رافق صاحب المحل مع عائلته في إحدى زياراتهم الى الشام. في طريق العودة تعرضت العائلة لحادث سير أدى إلى وفاة جميع أفرادها ونجا وليم فورث المحل وبدأ صعوده المهني.

يوضح أبو لبن أن «ثكنة فتح الله» ليست لآل فتح الله، إنما كانوا يملكون قطعة الأرض التي بنيت عليها الثكنة وقد باعوها قبل بنائها لكنها سميت باسمهم.

كان جاره ايضا قائد شرطة بيروت في فترة تولي صائب سلام رئاسة الحكومة ويدعى صلاح اللبابيدي.

فريق الأنصار والجامعة العربية

قضى محمد أبو لبن فترات اللعب في طفولته في تلة زريق وهي التلة القريبة من جامع عبد الناصر حاليا ويشكل جزء منها منطقة أبو شاكر. لعب مع رفاقه كرة القدم على أرض التلة وكانت الكرة عبارة عن شرائط من الأقمشة يلفونها فوق بعضها، ثم أسسوا بعد ذلك فريقا رياضيا في العام ،1943 شكل الفريق نواة فريق الأنصار.

يقول ابو لبن إن كابتن الفريق لدى منتخب لبنان في حينها عدنان الشرقي كان يجلب لهم كرة المنتخب للعب بها، وفي إحدى المرات جلب لهم ملابس الفريق الرياضية وارتدوها والتقطوا صورة لهم وهم يرتدونها، يضحك أبو لبن ويقول: مر وقت على ذلك الزمن ولن يحاسبنا أحد على استعارة تلك الملابس.

أمضى حياته المهنية مدرّساً في مدارس المقاصد، ويقول إن الهدف من تأسيس أول مدرسة للمقاصد في العام 1879 كان تعليم البنات في بيروت. حصل على إجازة في الحقوق من جامعة بيروت العربية ويروي كيف تحولت المدرسة الى جامعة: اشترت جمعية البر والاحسان من الوزير السابق هنري فرعون قطعة الأرض التي بنيت عليها جامعة بيروت العربية وأرادت بناء مدرسة عليها. قصد رئيسها في ذلك الوقت جميل الرواس مع مسؤولين في الجمعية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر حاملين معهم خرائط المشروع من أجل مساعدتهم مالياً في بنائها، لكنه عندما رأى الخرائط طلب منهم ان يكون هذا المبنى جامعة لا مدرسة، وقال لهم نحن سنساعدكم في بنائها. ويروي المؤرخ البيروتي حسان حلاق أن الجمعية أرادت تسمية الجامعة باسم عبد الناصر، لكنه رفض وقال لهم: إن اسمي زائل أما العروبة وبيروت فباقيتان، سموها جامعة بيروت العربية، وهكذا كان.

مسجد واحد للمسلمين

تشكل معالم المنطقة وصيغة الحياة فيها نموذجاً مريحاً للعيش بين الطوائف قبل أن تخربه الخلافات السياسية والطائفية والمذهبية. يقول جار عباس بلوط إنه كان في المنطقة مسجد واحد لجميع المسلمين يصلون فيه، ويروي الناطور أن الشيخ عبد الحميد الحر هو الذي عقد قرانه على زوجته، فيما يقول ابو لبن إن أمهات الروم كن يجلبن أبناءهن الى عند جدته لكي «ترقيهم» ويؤمن بالآيات القرآنية التي كانت تقولها. كانت النساء المسلمات يوفين بالمقابل نذورا عند مقام مار الياس، فيما كان المطهر اليهودي يجول على أحياء بيروت من أجل طهور الصبيان.

في مناخات تلك الفترة كانت المرجعيات المسلمة تنضوي تحت لواء المجلس الاسلامي الشرعي الأعلى وهو يضم مشايخ من السنة والشيعة والدروز.

يصلي المسلمون في مسجد واحد وقد لفت ذلك الانتباه للسؤال عن سبب زواله، فأوضح السيد علي فضل الله نجل السيد محمد حسين فضل الله أنه ليس هناك أي سبب شرعي للفصل بين مساجد السنة ومساجد الشيعة، إنما هناك فقط خصوصية دينية لدى المذهب الشيعي تشترط أن يكون من يؤم الصلاة شيعياً، بالاضافة الى طريقة أداء الصلاة، ما عدا ذلك باستطاعة أي مسلم الدخول الى مسجد للمسلمين من المذهبين والصلاة فيه.

أعلى الصفحة