نزع مظاهر الولاء السياسي لعدم تكرار الإشكالات الأمنية
برج أبي حيدر: الحروب حجبت صورة ماضيها الاصطيافي

أكثر ما نحفظه في ذاكرتنا حول منطقة «برج ابي حيدر» هو انها كانت مقصداً شبه يومي خلال الحرب لكثير من البيروتيين.. كنا نقصدها، كباراً وصغاراً، نصطف بالطوابير في باحة شركة المياه، لنملأ الغالونات. وكثيراً ما كنا نعجّل خطواتنا خلال العودة بالمياه الى المنازل، خوفاً من رصاصة هنا او شظية هناك.

اما قبل الحرب، فكانت المنطقة مصيفاً لكونها الأعلى بين المناطق المحيطة. من هنا استُهل اسمها بكلمة «برج»، واختيرت كمكان للخزان الذي يوزع المياه الى انحاء العاصمة. كانت مطلة على البحر و«مطار بيروت الدولي» القديم الذي كان قائماً في منطقة الجناح. لذلك كان الاهالي يصطافون فيها، كما كان يستأجر «ضيوفها» بعض قصورها ومنازلها القديمة في موسم الصيف.

اما اليوم، فقد فقدت «برج ابي حيدر» بعض ميزاتها. أصبحت تشبه غيرها من المناطق البيروتية الغارقة في نزاعات حزبية خفية. غير ان اللافت هنا هو غياب المظاهر المنغمسة فيها بقية المناطق، والدالة على طبيعة الصراع السياسي والطائفي المتنامي اليوم.

لا لافتات هنا تهتف باسم هذا الزعيم او ذاك، لا صور لقادة سياسيين او حزييين، ليس ثمة ما يُشهر دعماً لموالاة او معارضة. هل يعني ذلك ان المنطقة متمردة على بيروت وأجوائها، اما انها فقط خارج الاحتقان السياسي الحالي؟

الجواب لا هذا ولا ذاك. المظاهر اليوم هي غيرها في الامس القريب، وهي بالتالي لا تعكس الواقع المعيوش. كانت الصور واللافتات السياسية والحزبية، منتشرة في معظم الشوارع قبل حوالى شهر، غالبيتها يعلن الولاء لكل من «تيار المستقبل» وحركة «امل». غير ان إشكالين وقعا في المنطقة بين انصار الطرفين، على خلفية الحادث الامني الذي شهدته الطريق الجديدة انطلاقاً من الجامعة العربية، كان كفيلاً بأن يدفع انصار «امل» الى نزع اللافتات والصور العائدة لكل الاحزاب على السواء. هذا الكلام يجمع عليه بعض الاهالي والمخاتير، ممن يؤكدون ان المنطقة تختزن تنوعاً حزبياً، الا ان اللون الطاغي هو لون حركة «امل».

◄جغرافية المنطقة ومعالمها

تقع «برج ابي حيدر» التابعة للمزرعة عقارياً، بين سليم سلام شرقاً والبسطة غرباً، حوض الولاية شمالاً وكورنيش المزرعة ـ بربور جنوباً.

ويؤكد المختار محمود النخال أنها تتمتع بخصائص جغرافية نظراً لارتفاعها، ولكونها محوراً وسطياً تفضي منافده إلى وسط بيروت، واوتوستراد الجنوب والبحر. وتنطوي على كثافة سكانية يغلب عليها بالدرجة الاولى السنة والشيعة، فيما المسيحيون والدروز أقليات.

ويعتبر المؤرخ الدكتور حسان حلاق أن «برج ابي حيدر» هي من المناطق البيروتية التاريخية التي ترتفع عن غيرها من مناطق بيروت، باستثناء تلة الخياط. لذلك اختارت الدولة العثمانية لها برجاً يتم من خلاله مراقبة الاعداء من كل الاتجاهات. وقد نسب هذا البرج الى احد القاطنين بقربه ويدعى «ابو حيدر حمود». وكان البرج يقع بالقرب من مسجد «برج ابي حيدر» الذي ما زال قائماً، ومن منزل مفتي بيروت آنذاك الشيخ مصطفى نجا المتوفى العام .1932 علماً أن المنطقة سكنها ايضاً علماء آخرون كالشيخ حسين الحبال والشيخ احمد العجوز.

وكانت هذه المنطقة في العهد العثماني خالية تقريباً من السكان، يضيف، إلا قلة بدأت تبني البيوت القرميدية الاثرية، وما يزال بعضها قائماً.

وكانت الدولة العثمانية قد اقامت بالقرب من البرج مدرسة عسكرية، عرفت باسم «المدرسة الرشيدية العسكرية»، والتي اطلق عليها لاحقاً اسم «مدرسة حوض الولاية» التي نُسبت الى ولاية بيروت. وكان بالقرب من هذه المنطقة منزل رئيس الوزراء الاسبق سامي الصلح الذي استمر مقيماً فيها حتى أحداث العام .1958 ويشير حلاق الى ملمحين جغرافيين رئيسيين في المنطقة. الاول هو الطريق الذي يؤدي عبر منخفض شمالي (كان يُسمى وادي بيروت) الى منطقة السور، (ساحة رياض الصلح اليوم). والثاني طريق جنوبي يوصل الى منخفض عميق يؤدي الى منطقة المصيطبة. لذلك عرفت تلك المنطقة بالوطى، لأنها كانت واطئة اي منخفضة.

وكانت المحكمتان السنية والجعفرية تتجاوران في السبعينيات في المنطقة، لجهة شارع المأمون. قبل أن تنتقل الاولى الى خارجها، والثانية الى شارع النويري الواقع في نطاق المنطقة ذاتهـا. غير ان ابرز ما تفتقده اليوم خلال جولة على المنطقة، هو مبنى المحكـمة الجعفرية التي استحالت ركاماً بعد هدمها مؤخراً لانتقالها الى منطقة الاونيسكو.

يقوم في المنطقة ثلاثة مساجد، «مسجد الخلية السعودية» في شارع المعري، مسجد «عباد الرحمن» لجهة بربور، و«مسجد برج ابي حيدر» في الشارع الرئيسي، وهو الذي كان أنشأه محمد باشا بيضون في العهد العثماني. ويتبع اليوم لدار الفتوى، في وقت يتحدث فيه بعض الاهالي عن مصادرته من قبل «جمعية المشاريع الخيرية الاسلامية» منذ سنوات.

بمحاذاة المسجد ثمة مكتب خاص بالجمعية. يجاوره مركزان حديثان للأكراد تابعان للجمعية، بحسب النخال، وهما «مجلس الاعيان الكردي اللبناني الاعلى» و«اتحاد الطلبة الاكراد في لبنان». وعلى بعد خطوات يقع مكتب «المؤتمر الشعبي الناصري» ومركز «هيئة الاسعاف الشعبي» التابع له. يقابلهما «برج شاتيلا» حيث يقطن رئيس المؤتمر كمال شاتيلا. والى جانب شركة المياه، يتواجد في المنطقة مكتب لمؤسسة كهرباء لبنان، ومستوصف صحي تابع لبلدية بيروت. كما تتعدد فيها المدارس: «ثانوية فخر الدين الرسمية للبنات»، «حوض الولاية»، «تكميلية الإرشاد»، «وثانوية بيروت الحرج».

◄مشهد الأربعينيات وما بعدها

لا تختلف «برج ابي حيدر» في الاربعينيات والخمسينيات كثيراً عن غيرها من المناطق البيروتية آنذاك. البناء فيها كان محدوداً لمصلحة الاشجار المثمرة. يقول المواطن محسن الغول إنها كانت شبيهة بالارض الصحراوية باستثناء بعض الاشجار والبيوت القديمة التي هُدم بعضها فيما البعض الآخر آيل للسقوط اليوم. وكانت تحاذي بعض البيوت الارضية حدائق تكسر من طغيان المشهد الرملي الواسع.

ويقول الرجل السبعيني «بابا عبدو»، وهو اللقب الذي يُعرف به محمود مصطفى تيمناً ببطل المسلسل المصري القديم، انه عندما قصد المنطقة في العام 1942 سكن واحدة من خمس بنايات فقط كانت مشيدة آنذاك (من طابقين او ثلاثة) في شارع عبد الغني العريسي. ويشير الى ان اشجار الصنوبر كانت منتشرة في الشارع لغاية البسطة الفوقا. وكانت الطريق رملية، حيث يتكور الاطفال داخل الدواليب الكبيرة، «فتكرج» بهم لغاية البرلمان في وسط بيروت.

وكانت الطنابر وعربات الخيل هي وسائل النقل المعتمدة.

ويستذكر أكرم الجعفراوي الذي يقطن الشارع نفسه، مشهد اشجار الفواكه التي كانت منصوبة فيه، ويلفت الى ان منزل الوزير الراحل عبد الله المشنوق كان في الخمسينيات في المكان الذي شيّدت فيه لاحقاً المحكمة الجعفرية في النويري.

ويستحضر المختار عبد العزيز هلال الفترة ذاتها، والتي كانت تطل فيها المنطقة على البحر والمطار، فكان يعتمدها اهلها مصيفاً، يقيمون «العرزال» في شارع ابو شهلا ويتناولون المرطبات. ويشير المواطن محمد شاتيلا الى ان بعض الاهالي من خارج المنطقة كانوا يستأجرون خلال الصيف البيوت القديمة والقصور، ومنها قصر السباعي الذي بُنيت مكانه «مدرسة المقاصد» في شارع السباعي، وقصر قرنفل الذي ما زال ماثلاً في شارع واصف بارودي.

ويتحدث عن فترة الستينيات «التي كنا ننزل خلالها الى «ساحة البرج» بعشرة قروش، ونعود منها الى منازلنا بخمسة عشر قرشاً. وهي الفترة التي بدأت تشهد فيها المنطقة حركة عمرانية خجولة لتشتد وتيرتها في السبعينيات.

قطنت المنطقة شخصيات سياسية عديدة. يقول بابا عبدو: إن مدرسة فخر الدين الرسمية في النويري كانت في الاربعينيات قصراً يسكنه الجنرال شارل ديغول. ما زالت صورة الرجل الفرنسي عالقة في ذهنه، «كان طويل القامة»، يقول، يستقل سيارة «رينو» مصفحة، وهو النوع الذي كان «دارجاً» آنذاك، الى جانب «الفورد ابو دعسة»، وكان يدخل القصر بصحبة مرافقيْن بعد ان تُؤدى له التحية.

غير ان شخصيات لبنانية تسلم بعضها مناصب سياسية هامة «مرت» ايضاً من هنا: فالى جانب رئيس الوزراء الراحل سامي الصلح، سكن المنطقة الرئيس رشيد الصلح، رئيس الوزراء الاسبق الراحل شفيق الوزان (كان يقطن بين «ابي حيدر» والبسطة)، النائب السابق جميل الكبي، والنائب الراحل عدنان الحكيم.

ويشير المختار النخال الى ان رئيس حركة المرابطون ابراهيم قليلات كان يقصد منزل جده الكائن في «برج ابي حيدر». ويلفت الى ان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسرعرفات سكن المنطقة خلال الحرب الاهلية، وافتتح مكاتب لحركة «فتح» فيها. فيما يؤكد المختار هلال ان القائد الفلسطيني الشهيد «ابو جهاد» سكن ايضاً شارع عبد المنعم العريسي آنذاك.

عاشت «برج ابي حيدر» الحروب المتتالية، شأنها شأن المناطق اللبنانية الأخرى. من الحرب الاهلية الى الاجتياح الاسرائيلي وصولاً الى حربي «الالغاء» و«التحرير». ليس ثمة محطات متباينة او علامات فارقة في سجل هذه المنطقة في هذا المجال، بحسب شهادات بعض الاهالي. «لم تستخدم شوارعها كمتاريس للحرب، بل كانت تنال حصتها من القصف والدمار كبقية المناطق، يقول هلال، ولم يغادرها اهلها الا خلال الاجتياح الاسرائيلي».

ولكن ثمة آراء تؤكد أن المنطقة لم تكن «معصومة» حزبياً.

ويشير الدكتور حلاق الى أنه بين عامي 1975 و1981 كان النفوذ الفلسطيني مسيطراً على القسم الغربي لبيروت، وكان يجسد ذلك النفوذ بعض القوى المحلية، «وابي حيدر» لم تكن مستثناة في هذا المجال. واذا كان التواجد الفلسطيني، (وخصوصاً «ابو عمار») قد تمركز أساساً في الطريق الجديدة، لكنه عاد وانتقل مؤقتاً إلى «ابي حيدر»، ومنها الى «الصنائع» بسبب مطاردته من قبل الطائرات الاسرائيلية. وبعد الاجتياح ولغاية العام ,1990 يضيف، سيطرت القوى الحزبية المحلية في المناطق البيروتية، ومن ضمنها «ابي حيدر»، وان كان الحضور الحزبي فيها اقل منه في المناطق الاخرى.

◄صورة اليوم

اما اليوم، فقد تبدلت التصنيفات السياسية التي يشكل صورتها كل من حركة «امل» و«تيار المستقبل» و«الأحباش» و«المؤتمر الشعبي الناصري». وفيما يقول بعض الأهالي ان ثمة مكاتب لـ«حزب الله» في المنطقة، ينفي البعض الآخر هذه الفرضية، مع الاشارة الى ان للحزب حضوراً اساسياً في البسطة.

ويؤكد كبار السن من السكان على التعايش المذهبي في المنطقة. من هؤلاء اكرم الجعفراوي الذي يقول «إن البناية التي أسكن فيها يتقاسمها السنة والشيعة، ونعيش كالاخوة. وجيلنا لا يتدخل بالسياسة اليوم». وهذا ما يؤكده النخال الذي يعيد مشكلة تفاعل الاحتقان المذهبي الى الجيل الجديد، «ما حدا بيقدر يضبّوا.. لا قياداته ولا اهله»، يقول، غامزاً من قناة الإشكالين اللذين شهدتهما المنطقة منذ حوالى شهر. وهكذا فإن «برج ابي حيدر» التي تبدو معزولة عن محيطها اليوم، لجهة عدم إشهار اي ولاء سياسي، تعزز أكثر من اي منطقة اخرى بإجراءات أمنية مشددة. في اكثر من نقطة تلمح عناصر من الجيش وآلياتهم. في الشارع الرئيسي عند منعطف شارع واصف بارودي، وفي محاذاة مسجد «ابي حيدر». كما تسيج العناصر الامنية حدودها لجهة منطقة بربور، ولجهة البسطة، وتحديداً في شارع «سيدي حسن» امام مركز لحزب «النجادة» وحسينية لـ«حزب الله».

إنها كثافة البدلات المرقّطة التي تقي «برج ابي حيدر» من وقوع الإشكالات مجدداً.. الى حين إخماد الجمرات الكامنة تحت الرماد.