ثمانون في المئة من قصوره تم هدمها
حيّ سرسق يعيش أمجاد الماضي ويخاف الحاضر

على كتف شارع الجميزة القديم ينام ثراء نبيل بثوب من الرخام الأبيض والحجر الأصفر. هنا شارع صغير بقيت من آثاره بضعة قصور تتمارى على زجاج الأبراج التي نبتت كالفطر إلى جانبها، وقد غافلت التاريخ متشحة بالأشجار والأسوار، فبقيت وحيدة بعد موت جاراتها بفعل الحرب أو الاستثمار. هنا شارع مرّ به العالم فمزج الشرق بالغرب، وكانت ذكريات مشتتة بين الكتب والمقالات. هنا قصة تاريخ لبنان كما عاشته سبع عائلات أرثوذكسية قبل أن تتشتت هي نفسها وتترك شارع سرسق وحيداً، يلملم بعضاً من حياة الترف القديم وذكريات العزّ.

STSOUK

بين قضبان السور الحديدي، يدفع منظر الرخام الأبيض المتظلل بالأشجار الى سماع قرقعة الأحصنة وهي تمرّ بالشارع، وتخيّل سيدة بيضاء بثوب أوروبي كبير، تتنزه في باحة القصر الخضراء وتقرأ كتاباً أو تنتظر سيدات رفيقات لجلسة شاي عند العصر. أو سيّد مستقيم التسريحة يودّع مبعوثاً أجنبياً وهو يقف ملوحاً على رأس الدرج الرخامي، بينما باب المدخل مفتوح على مساحة صغيرة من التحف واللوحات...

بتلك المشاهد توحي القصور المنثورة بين أبنية وأبراج شارع سرسق، لكنها فعلياً تروي أحداثاً واقعية مشابهة ما زالت تشهد عليها بعض الكتب والمذكرات.

في التالي قصة شارع أبصر النور حوالى العام 1840 وقصة عائلات جذبت دولاً ومثلتها في لبنان، من الدولة العثمانية ومصر الى فرنسا العظمى وروسيا ـ القياصرة... قصة مبعثرة على الورق كما في ذكريات أحفاد العائلات التي سكنته وقد تشتتوا في أصقاع العالم.

حمل الحي، الذي هو جزء من شارع الجميزة الشهير، إسم عائلة الرجل الأول الذي بنى فيه، وهو موسى سرسق. والعائلة من أصل بيزنطي تبلغ من الثراء ما جعلها تمتلك أراضي من تركيا، لا سيما مرسين حيث كان خان سرسق، وصولاً الى مصر ومروراً بفلسطين.

وقد أتى الى لبنان الرجل الأول من آل سرسق ويدعى جبور في 1740 وكان الجدّ لعائلة سكنت بلدة البربارة شمالي جبيل، وتفرّعت الى عائلتين أخريين هما جبيلي وبرباري.

لكن السراسقة، كما يطلق عليهم، توجهوا الى العاصمة وقد باتوا من عائلات رأس بيروت الأرثوذكسية الشهيرة.

ثم حين ضاقت رأس بيروت بأهلها، قرر بعضهم البناء على تلة تشرف على المدينة المسوّرة وتجاورها، فاختاروا الأشرفية، وقد سمح لهم ثراؤهم ببناء القصور مستفيدين من مساحات شاسعة محيطة حوّلوها الى حدائق، بلغت مساحة إحداها أربعين ألف متر مربع.

ويروى أنه بعد بناء القصور الأولى ، سكنت الحيّ سبع عائلات أرثوذكسية هي الى سرسق، بسترس وتويني وطراد وداغر وفياض وفرنيني. وكان عصر ذهبي لشارع لم يبق من قصوره الا عشرة في المئة منها. فبعضها تحوّل الى أبراج زجاجية وبعضها الآخر هدم أيام الحرب.

وبعضها أيضاً وهب إلى الدولة اللبنانية مثل متحف نقولا إبراهيم سرسق ومبنى وزارة الخارجية الذي يعرف بقصر بسترس. ولكن منها ما تحوّل الى أرض مبسطة تستخدم اليوم كمرأب للسيارات.

◄مزيج هندسي بين الشرق والغرب

الى جانب مطرانية الروم، التي وهب مبناها آل سرسق منذ زمن، وفي مواجهة متحف نقولا سرسق، ينتصب أكبر القصور في الحيّ. إنه قصر موسى سرسق.

بعد السور الحجري الذي تعلوه قضبان حديدية، تنبسط حديقة كبيرة مسيجة بالأشجار، على بعد أمتار منها، يتعانق درجان ويلتقيان عند باب ضخم، يشكل مدخل القصر الرئيسي.

زرّ الجرس الداخلي الموضوع على جدار السور، يبدو أنه الشيء الحديث الوحيد الذي يخرق صورة المكان. يرن الجرس فيجيب صوت مدبّر المنزل بعد فترة من الزمن، وكأنه اجتاز كيلومترات ركضاً قبل الإجابة: «نعم ومن تريدون؟ هل هناك موعد؟». أسئلة بديهية لعامل في قصر يثير فضول المارة به، كما اولئك الرجال ذوو البذلات الأنيقة الذين طلبوا الدخول واستكشاف المكان من الداخل.

وإذ يخال للضيف أنه سيدخل عبر البوابة الحديدية التي تتوسط السور، يطلب العامل التوجه شمالاً ودفع جزء من حجارة السور مع قضبانها الحديدة صوب الداخل. تنفتح قبل أن تعود جزءاً من السور الخارجي للقصر.

هكذا يدخل الضيف الى التاريخ. ودرجة درجة صوب الباب الرئيسي يبدأ الخيال بالتحرّك وتصور ما قد يخفي وراءه ذاك الباب العالي. غير ان ما تكشفه العين أوسع من أن يتصوّره خيال، فهناك خلف كتف مدبّر المنزل تتكامل ثلاث مساحات شاسعة تنتهي عند مساحة أصغر تفصلها شرفة زجاجية عن حديقة ثانية للقصر، لكل منها طابعها الخاص وكمية من المحتويات الثمينة التي تملأ المكان.

دقائق انتظار، لا يمكن خلالها للزائر أن يحصي ما قد جال عليه نظره من تحف وسجاد وأبواب ونوافذ مزخرفة وصور ولوحات ومنحوتات... ثم تطل سيدة ثمانينية بشعر أبيض يظلل بشرة بيضاء نضرة، تمشي بخفة تضمنها رشاقة جمسها المتناسق. إنها إيفون سرسق أو الليدي كوكرن.

تعتذر عن التأخير الخارج عن إرادتها، والتأخير لم يدم الا دقائق قليلة، لا تكفي أصلاً لتأمل المكان. ثم تبدأ بسرد قصة القصر الذي طبع حياتها منذ طفولتها.

عن تلك الأيام لا تريد الليدي كوكرن أن تروي شيئاً، فهي تردد باستمرار أن الحياة كانت عادية كما الحياة اليوم، ما يهمها هو فقط المحافظة على الإرث الهندسي، الذي يلقي بثقله على كاهلها، ولأجله أسست جمعية حماية وتشجيع المواقع الطبيعية والأبنية القديمة APSAD.

لكنها تروي أن البيوت كانت كلاسيكية بمعنى أنها كانت تتبع النمط الشامي في الهندسة، إذ كانت تتوسطها باحة داخلية ذات سقف مفتوح، هنا تبدلت الأمور، بقي التقسيم الداخلي هو نفسه، لكنهم وضعوا سقفاً للباحة الداخلية واستفادوا من طابق إضافي. في حين أقفلت الشرفة المطلة على الحديقة بالزجاج.

بنى «المنزل»، كما تسميه الليدي كوكرن، موسى سرسق في العام 1850 وورثه عنه والدها ألفرد أصغر أولاده. بدورها ورثته عن أبيها وما زالت تحتفظ به كما بني، بعد إجراء عدد من عمليات الترميم لا سيما بعد الحرب.

يفتح باب القصر الرئيسي على منضدتين ضخمتين من الرخام الأبيض الإيطالي، تشكل مدخلاً الى أربعة صالونات يعلو سقفها حوالى التسعة أمتار، وهي مثلثة على شكل قناطر. وقد تمت زخرفة الأسقف الأربعة بنقوش غربية باستثناء سقف جزء واحد منها حمل النقوش والزخرفات الشرقية. الى جانب الصالونات الأربعة، صالون جانبي تواجهه غرفة طعام أيضاً جانبية، تصطف على الجدار المؤدي اليها أي على جدار الصالونات الأربعة مغاسل رخامية، تلفت سيدة القصر الى أنها كانت معدة لغسل اليدين قبل الدخول مباشرة لتناول الطعام، أو قبل تناول المازة اللبنانية التي كانت بعض العائلات تقدمها في الصالون، وكانت مؤلفة من ثلاثة أطباق فقط، يتم تذوقها بكمية قليلة قبل الانتقال الى طاولة الطعام لتناول الأطباق الرئيسية.

كل الامكنة تلك، تملأها التحف واللوحات والمنحوتات، ومنها ما رسمه والد كوكرن ألفرد. ولعلّ أبرز ما يميز القصر، هو باب نحاسي منقوش، صنعه اللبناني متري طرزي، ودرج ذات جسور فولاذية استقدمت من اسكتلندا، تعلوه قبة زجاجية تعكس النور على الدرج كحبيبات بلّورية.

خلف القصر تختبئ فيللا سرسق التي عاش وترعرع فيها أولاد الجدّ موسى سرسق. بنيت العام ,1830 وتتضمن الفيللا صالونات مختلفة لكل منها إسم مثل «صالون الصيد» و«الصالون العربي» و«صالون الزجاجيات»... وقد سكنها الجنرال كاترو أيام الانتداب الفرنسي. سرسق تصرّ على ذكر ان من بنى البيت هم «معلمون لبنانيون وليس مهندسون، وقد استقدم الجدّ فنانين إيطاليين للرسم على أسقف الصالونات... ».

◄سرطان الاستثمار

حافظت الليدي كوكرن، وهي تعرف بذاك الإسم كونها تزوجت من إيرلندي، على ما ورثته بكل ما أوتيت به من قوة. فهو إرث يلقي بثقله على مالكه نظراً لما يتطلبه من متابعة لصيانة التحف واللوحات ومتطلبات إعادة تأهيله. وهي تحاول مع ذلك المحافظة على كل ما بقي من بيوت أثرية في المنطقة خصوصاً ولبنان عموماً.

أحاول المحافظة على روح القرية في لبنان. في رأس بيروت كانت العلاقة بين الأبناء وهم من طائفتين مخلفتين (سنة وأرثوذكس) وكأنها علاقة قربى. وكان الأغنياء مجبرين على مساعدة الفقراء وإلا نبذوا. من هنا وهب آل سرسق مبنى الى المطرانية وأقاموا كنيسة مار نقولا وشيدوا مستشفى الروم كما أنشأوا مدرسة زهرة الإحسان ، وهي تأسف من سياسة حكومية قررت أن تحول شارع سرسق السكني الى شارع تجاري. وتضيف :رفضت أمي أن يقتطعوا من المنزل لتوسيع الطريق وعاندت كل القرارات المتخذة بهذا الشأن. بينما ذهبت بيوت أخرى ضحية ذاك الطريق أو مشاريع استثمارية أخرى. كما الحال في منزل ليندا سرسق الذي بترت واجهته الأمامية بفعل الطريق بينما يحاول أحدهم بناء برج في حديقته، عارضناه بشدة وأوقفنا المشروع.

لا تطلب إيفون سرسق إلا حماية تلك المعالم الهندسية وهي لذلك حصلت (كجمعية أبساد) من الاتحاد الأوروبي على مبلغ 400 ألف دولار لإعادة تأهيل بعض المنازل ،قالوا لنا اننا سنحصل على المبلغ عبر مجلس الإنماء والإعمار ، لكن المجلس ردّ بأنه غير موجود بحوزته! .

◄قصور صامتة تخاف الحاضر

لعلّ أشهر قصور الحيّ اليوم، هي الى قصر كوكرن قصر ليندا وإبراهيم سرسق، وقصر نقولا سرسق الذي تمّ تحويله الى متحف بناء على طلب مالكه، وقصر بسترس الذي تحول الى مبنى لوزارة الخارجية. أما الأخرى فقد تضيع أسماؤها وهي تختبئ خلف الأبنية الجديدة خوفاً من الحاضر أو المستقبل الذي قد يجلب لها من يحولها الى ذاكرة، على عكس ما قامت به بعض المؤسسات التي اشترت بعض القصور وأبقتها كما كانت عليه، منها بنك عودة ومدرسة البيجية التي تركت المقر الذي استثمرته ويبدو ان السفارة الروسية ستقوم باستثماره كمركز ثقافي لها.

◄شارع البرجوازية وموطئ قدم الشرق والغرب

ما لا تريد ان ترويه سرسق احتفظت به بعض الكتب للتاريخ، وأبرزها كتاب الصحافي الراحل سمير قصير «تاريخ بيروت». فيه يروي قصير عن والد الليدي كوكرن ألفرد سرسق الذي كان من أبرز الوجوه في ذاك الزمن. فكان أول من تزوج بأجنبية، بعد لقاء أول مع والدها الإيطالي خلال حفل كبير أقيم في أحد قصور الحي للدوك ديميتري من روسيا. كما كان ألفرد اول من استقدم سيارة الى لبنان، إذ كانت السائدة في تلك الحقبة عربات الخيل. وهكذا قدمّ لزوجته الإيطالية دونا ـ ماريا سيارة هدية من طراز Panhard et levassor كان يقودها لسيدة القصر سائق إيطالي.

كذلك يذكر قصير أن أول ملهى ليلي أنشأته بنات موسى سرسق في العام 1896 علماً أن حفلات كبيرة وضخمة كانت غالباً ما تقام في باحات القصور وحدائقها، لا سيما حين يزور الحيّ ضيف من أمراء أو ملوك أو أعيان الشرق أو الغرب. كما كانت سائدة الحفلات التنكرية.

أما ما كان روتينياً، فهي جلسات الشاي التي قدمتها سيدات القصور، كل في يومها المحددّ. فيها التقت النسوة للتحدث عن آخر الأخبار من الموضة الى الضيوف المرتقبين، وقد ارتدين أزياء أنيقة استقدمنها من باريس مع القبعات المزدانة بالزهور والعصافير والفراشات...

أما يوم الأحد، فكان يوم العطلة والتنزه وأبرز المحطات كان ميدان سباق الخيل، حيث كانت تلتقي برجوازية بيروت. كما كانت المنارة نقطة التقاء عامة، يأتي اليها الرجال على الأحصنة بينما تستقل النسوة عربات الخيل. هناك يتحدث الرجال الى النساء بينما تلتزمن العربة، وكان يحرص كل منهم أن لا يطول حديث بينه وبين إحدى السيدات، خوفاً من إثارة الشبهات لعلاقة غرامية محتملة.

◄نيكولا دو بسترس يتذكر

في فترة من الفترات، دخل أهل سرسق الى حقبة ترجمة الأسماء من العربية الى الأجنبية، فتحوّل جريس الى جورج وبطرس الى بيار ومريم الى ماري... والشارع الصاخب لم يكن ليهدأ لا سيما حين يأتيه زائر ذو ثقل سياسي. يذكر قصير أن آل سرسق كانوا مرتبطين بالعائلة المالكة في مصر.

في المقابل يشير موقع «يا بيروت» أن «سعيد باشا خديوي مصر الذي وصل بيروت بحراً في حزيران من العام 1859 حلّ في دار آل بسترس، وكان أثناء مروره في الطرقات يرش خزنداره نقودا ذهبية للفقراء. وقدمت له قصائد عدة من شعراء بيروت، أجاز عن كل منها من ألف الى ألف وخمسمئة قرش. وقد قال فيه الشيخ ناصيف اليازجي:

يسير والذهب المنثور يتبعه           مثل السماء ترش الأرض بالبرد

فظنت الناس أن السحب قد فتحت   بقدرة الله دار الضرب من الجلد.

وقد أقام الخديوي سعيد ثلاثة أيام اشترى خلالها بعض الخيول وأقام آل بسترس وكلاء له في بيروت.

كانت موضة إقامة وكلاء لبعض ملوك وامراء وحكام الدول، أمراً سائداً في ذاك الوقت. وقد أعطت هذه المسألة نوعاً من الحماية لمن يسمى وكيلاً لدولة من الدول، حسب ما يذكر نيكولا دو بسترس، الذي يعتبر من أبرز وجوه حيّ سرسق، في كتابه «أتذكر». فالوكيل لا يمكن محاكمته الا بحضور ممثل عن الدولة التي أسمته وكيلاً لها في لبنان، حتى حين كانت تأتي المحاكمة من قبل السلطة العثمانية.

هكذا كان خال بسترس، ميشال تويني وكيلاً لفرنسا، وكان يقيم لزوار لبنان الفرنسيين، حفلات باذخة في باحة قصره التي تبلغ أربعين ألف متر، حيث كان يلتقي المجتمع المخملي، وحيث كانت النسوة تتباهى بأثوابها الطويلة المذيلة والمزدانة. وهكذا أيضاً، كانت كل عائلة برجوازية تتمنى مثل هذا المنصب لأحد أفرادها. فحلّ جورج سرسق وكيلاً لروسيا، وموسى دو فريج وكيلاً للنمسا وميشال سرسق وكيلاً لبريطانيا وإيلي سرسق وكيلاً لبلاد الفرس المعروفة اليوم بإيران...

فكانت تقام الحفلات كلما زار دوك روسي لبنان في قصر جورج سرسق حيث نظمت السيدة إميلي «الكبيرة»، كما كانت تدعى، ليالي ساهرة لأكثر من أربعمئة شخص، تختمها بهدايا تذكارية للضيوف. بينما يفتح ميشال سرسق قصره كلما رست باخرة خاصة بالملكة البريطانية فيكتوريا.

خلال العهد العثماني، تردّد جمال باشا، الذي عرف بالسفاح لاحقاً، على قصر إبراهيم سرسق (أي قصر ليندا سرسق اليوم) وقد حلّ ضيفاً عنده لأيام. على بعد امتار من القصر، كان الثوار اللبنانيون يشنون عمليات عسكرية ضد العثمانيين، إذ كانوا يختبئون في شجر الجميز بينما كان العثمانيون يخيلون صعوداً ونزولاً على ما يعرف اليوم بدرج الجميزة قبل بناء درجاته، فسمّي بـ«زحطة القباضايات» حينها. ويروى أن إبراهيم سرسق كان يطلب من زوجته أن تصلي لتطول الحرب «لأصنع لك سكربينة من ذهب».

ويروي بسترس أنه خلال زيارة الأمير فيصل الى قصر عمر الداعوق، أقام له نوري باشا السعيد حفل عشاء على شرفه. فقرر بسترس أن يرافق خاله جان تويني وحبيب طراد لتلبية دعوة العشاء. «شربنا نخب الأمير وتمنينا له الإزدهار والسعادة»، يقول بسترس، «وعند العودة الى القصر ليلاً، عبّر له نخلة تويني عن استياءه من تلبية دعوة العشاء. فالفرنسيون كانوا قد طلبوا من أصدقائهم اللبنانيين عدم التعاون مع الأمير فيصل».

بعد انتهاء الحكم العثماني وبدء عهد الانتداب الفرنسي، حلّ ضيوف فرنسيون على حيّ سرسق، ومن أشهرهم قائد الجيش الفرنسي وحاكم لبنان وسوريا الجنرال هنري غورو الذي سكن قصر إيلي سرسق. تلاه مفوضون سامون مثل الجنرال كاترو وسرّاي وهنري دوجوفنيل، الذي يروي عنه بسترس حبّه للحفلات والسهرات. وقد كتب «بعد وضع الدستور اللبناني، دعوت الى منزلي هنري دوجوفنيل وأقمت على شرفه حفل عشاء كبيراً. حينها كان حديث واحد يشغل ضيوفي اللبنانيين ويدور حول اسم رئيس الجمهورية اللبنانية. وقد أفرح فضول اللبنانيين دوجوفنيل، وقرر أن يستثمر الموضوع بطريقة تزيده مرحاً وتسلية، فاقترب مني وهمس في أذني بطريقة تجعل من يحيط بنا على المائدة يسمع الحديث. نيكولا هل تعرف أن رئيس الجمهورية اللبناني المستقبلي هو واحد من ضيوفكم اليوم؟ وكان أن بدأ المدعوون بالإشارة الى إميل إده تارة وشارل دباس طوراً، بينما حسم البعض الامر لمصلحة حبيب باشا السعد والبعض الآخر لمصلحة ميشال تويني... ».

في عهد المفوض السامي جورج ترابو، سمي نيكولا بسترس سكرتيراً له ثم رفع الى منصب عضو في مجلسه. وقد دخل بسترس السياسة من بابها العريض بعد أن رفضت عائلته أن يتوجه الى التمثيل، فلعب دوراً هاماً أيام الانتداب الفرنسي، إذ وعلى الرغم من صداقاته الفرنسية، قام بتمويل حكومة بشامون وثوارها. ولجأ الى تلك القرية بعد طلب توقيفه من قبل الفرنسيين، بناء على نصيحة الجنرال الانكليزي سبيرز، حيث كانت الدبابات البريطانية تحيط بالقرية وحيث كان دخول الفرنسيين متعذراً لوجودها.

◄سرسق اليوم

تغلق السيدة ليلي سحناوي زيادة كتبها، وهي تنظر من نافذتها الى البناء المقابل لمسكنها، «لم أكن لأتصور أنه يمكن بناء مبنى هنا، فقد كانت البساتين تملأ المكان، وكانت القصور سيّدة الحيّ. ففي غضون ثلاثين سنة تمّ هدم ثمانين في المئة من منازل سرسق التي كانت في غالبيتها قصوراً». وتشير بيدها اليمنى، بينما تحمل كتاب نيكولا دو بسترس بيدها اليسرى «كان قصره بجوارنا ولم يرممه أحد بعد الحرب، فتمّ هدمه ليتحول الى مرأب للسيارات. كذلك يقوم سنتر صوفيل على أنقاض قصر قديم». وتضيف سحناوي أن «سكان سرسق الأصليين ليسوا بطبقة برجوازية فقط بل نبيلة أيضاً»، وتذكر أن معظم أهل الحيّ لم يتركوه خلال الحرب «بل منهم من أصيب ومنهم من مات».

اليوم لا يعيش من بقي من تلك القصور الا على إيقاع القرارات الحكومية التي توقف بيعها أو استثمارها وأرضها، وهي إذ تبدو في حالة انتظار. أعادت الليدي كوكرن، كما القيّمات على قصر ليندا سرسق بعضاً من الحياة الى قصريهن، عبر تحويل حدائقهما الى أماكن خاصة بالحفلات والمناسبات.