من اقطاعية لآل ابي اللمع الى الهجرة الارمنية والنزوح الشيعي
برج حمود: أحياء كثيرة لا تصنع مدينة


تبدو المستديرات والمساحات الصغيرة المزروعة في برج حمود والنبعة كأنها لوحة جميلة معلقة على جدار متشقق، آيل للسقوط. الحال نفسه مع الطرقات التي اتسعت، انما بقيت على جوانبها المنازل الهرمة ذاتها. تبدلت هوية ساكنيها مرارا لكن لم تتبدل همومهم ومشاكلهم المشتركة.
لا يمكن فهم هذا الحي، الذي نما ليصبح احياء كثيرة من دون مدينة، الا بالعودة الى سبب نشوئه وكيفيته. فبرج حمود هي جزء من الضاحية الاولى التي نشأت حول العاصمة وضمت إليها الكرنتينا، والمسلخ وتل الزعتر.

من الكتب القديمة نستقي ان المنطقة «كانت كثيفة الاشجار والمستنقعات وبدأت تشهد اقبالا سكانيا منذ العام .1545 كانت ضمن قطاعات آل ابي اللمع حين قصدها الموارنة منذ بداية القرن السابع عشر وبنوا فيها كنيسة على اسم القديس ضومط ما زالت قائمة حتى اليوم واخضعت مرارا للترميم واعادة البناء. يومها كانت الزراعة هي مصدر العيش الوحيد.

والى مساحات الارض الزراعية الواسعة، قدم امير يدعى حمود ارسلان وبنى، قبل نحو مئتي سنة، منزلا مرتفعا اعتبر برجا بالنسبة الى المنازل التي حوله. ومنه اخذت المنطقة اسمها: برج حمود.

تبدل وجه المنطقة مع وصول اول اللاجئين الارمن اليها هربا من المجازر التي تعرضوا لها على ايدي العثمانيين منذ 1915 وحتى العام .1922 جاء هؤلاء يحملون مآسي تهجيرهم والفقر الذي خلفه. نصبوا الخيم اولا قبل ان يبدأوا ببناء منازلهم من الخشب والصفيح، وراحوا بعدها يحولونها تدريجا الى الحجر. نظموا انفسهم وتساعدوا. بنوا المدارس والكنائس واعطوا للشوارع الجديدة التي بنوها اسماء مدنهم الام. فكان مرعش، كيليكيا، سيس، سنجق، شرشبوك، اراكس وارمينيا وغيرها. عملوا بما كانوا يجيدونه من المهن والحرف. وبدأت هذه المنطقة تجتذب لبنانيين من الاطراف البعيدة، لاسيما من العائلات الشيعية الجنوبية والبقاعية بحثا عن حرف جديدة تُكتسب، وفرص عمل تمنوها افضل.

بدأت العائلات الوافدة تتملك في برج حمود والنبعة، وهي حي من احيائها، لاسيما بين العامين 1946 و,1948 حين لبى عدد من الارمن الدعوة بالعودة الى وطنهم الام. باعوا بعض ما اشتروه الى ابناء الاطراف من الشيعة الذين راحت اعدادهم تتزايد طلبا للعلم والعمل المفقود في قراهم. بدورهم بنوا مدارسهم والجامع والحسينية. ولم يأت العام 1975 الا وكانت النبعة وبرج حمود ،كما الكرنتينا وتل الزعتر وبعض اطراف الدكوانة ضاحية بكل تفاصيل ضواحي مدن دول العالم الثالث من شنغهاي الى مكسيكو مرورا بريو دو جنيرو وبومباي وغيرها. ضاحية اختارها سكانها لموقعها الوسطي بين المرفأ وبين اسواق الوسط التجاري وبين المعامل التي انتشرت في الدورة والمكلس وجسر الباشا.

مدوا المدينة النهمة الى يد عاملة رخيصة بعرقهم وتعبهم وابقتهم هي على اطرافها ينمون عشوائيا كالفطر في بيئة تفتقر الى الحد الادنى من الخدمات.

تحول كل شارع و«كمب»، كما كان الارمن يطلقون على بعض تجمعاتهم، الى مدينة ، بقيت النبعة اشهرها واكثرها كثافة سكانية. فهذا الحي الممتد على كيلومتر تقريبا بلغ عدد سكانه عشية الحرب اللبنانية نحو مئة وخمسين الف نسمة. وكانت الحرب. تهجر فقراء الشيعة وحل محلهم فقراء المسيحيين الذين تهجروا بدورهم من الدامور والجبل والقاع. لم تتغير ملامح البلدة. بقي الفقر، والاهمال والحرمان من سمات ما يعانيه سكانها. وبقيت منازلها مشرعة على أزقة تمتزج فيها الامطار بالمجارير بـ«النبعة» الخارجة من بطن الارض.

لا بد من هذه الخلفية لتكون مفتاحا يسمح لزائر منطقة برج حمود والنبعة اليوم من دخولها من باب العارف. ففي الشكل وضعت للمنطقة بعض المساحيق التجميلية على وجهها. وُسعت بعض الطرقات وزُينت بعض المستديرات بالورود والاشجار. وبحسب احد مخاتير المنطقة موسى محمد شري فان «البنى التحتية انجزت بشكل كامل». لكن كل ذلك لم يغيّر في «جوهر» المدينة ـ الضاحية. المنازل المتهالكة تطل نوافذها على حميميات الآخرين. هؤلاء الذين يبقون «آخرين» وليسوا جيرانا أواصدقاء. ويكتمل المشهد مع الجسر الذي يربط الاشرفية بمنطقة الدكوانة والذي يمر بمحاذاة المنازل فلا يجرؤ بعض سكانها على الخروج الى شرفاتهم اذ يتهيأ لهم ان السيارات ستجتاحهم.

كان المختار شري «يفضل لو انجز عوضا عن الجسر اوتوسترادا يشق النبعة وبالتالي يتم استملاك عدد من منازلها فتتنفس المنطقة وترتاح قليلا». لكن مصدرا في بلدية المنطقة «اعتبر ان انشاء مثل هذا الاوتوستراد كان ليقطع اوصال العيش المشترك في مدينة يميزها تعدد طوائف ابنائها حتى تكاد تكون صورة مصغرة عن لبنان تضم من كل طوائفه بالاضافة، حتى، الى الهندوس والبوذيين وغيرهم».

هذا التعايش يبدو نظريا اكثر منه عمليا. ففي برج حمود ، وحي النبعة تحديدا يمكن الكلام عن «تجاور» اكثر منه تعايش.

بحسب المختار شري «كان سكان النبعة من الشيعة بنسبة 95 في المئة. بقي منهم نحو عشرة في المئة في خلال الاحداث واليوم عاد ما نسبته خمسة وعشرين الى ثلاثين في المئة. الآخرون فضلوا الاستقرار حيث هم، على الغالب في ضواح اخرى لبيروت ومن تمكن منهم عاد الى قراه الاساسية.

يصعب على ام حسن زعيتر ان تتخيل نفسها تعيش في قريتها البقاعية مجددا لكن ذلك لا يعني ارتياحها الى مكان اقامتها. تقول «اتيت في العام 1957 الى النبعة مع زوجي. انجبنا وربينا وزّوجنا وبنينا صداقات هنا. لم نرحل يوم التهجير والقتل على الهوية، ولم يبق من العمر اكثر مما مضى ».

 تبتسم المرأة السبعينية عند الحديث عن العلاقات بين الناس في النبعة وتقول «كل عنزة معلقة بكرعوبها». تضيف «الجيران القدامى تغيروا كما الايام. اليوم نصّبح ونمسي بعضنا. مفهوم الجيرة تغيّر».

ام حسن التي تحدثت باسهاب عن سنوات الفقر والتعب الاولى والليالي التي قضتها تبكي فراق الاهل والبعد عنهم تشتكي من «وجود غرباء كثر من سوريين وعراقيين وغيرهم جعلوا العائلات اللبنانية يفضلون عدم السكن في النبعة».

يوافقها المختار شري القول متحدثا عن «عجقة يسببها هؤلاء لانهم يقيمون اكثر من شخص في غرفة واحدة. واصبحت العائلات تفضل ان تعيش في برج حمود اكثر من شارع النبعة».

برج حمود التي تمتد على نحو كيلومترين ونصف تضيق بأهلها ـ الذي يبلغ عددهم بحسب شري نحو 400 الف نسمة ـ وبأعبائهم الكثيرة.

بالاضافة الى همومهم المعيشية التي تزداد صعوبة، ومعظمهم من صغار الكسبة والمياومين او من اصحاب الدخل المحدود، تتلقف برج حمود التناقضات السياسية وتشكل ارضا خصبة لخلافاتها. ويروي كثيرون «حوادث» حصلت بين شبان مسيحيين وآخرين مسلمين. وعن حساسيات تشكلت بين «العائدين» وبعض الشبان الارمن.

لكن «القيادات» في المنطقة حرصت على تطويقها. وفي هذا الاطار يؤكد مصدر في البلدية «ان جميع المسؤولين المدنيين والروحيين يسعون الى ان تكون برج حمود مختبرا حقيقيا للتعايش».ويبقى السعي مقصرا عن المأمول

.