مارون النقاش

كانت البداية شبيهة بالاسكندرية من ناحية كونها ثغرة ، تفد من خلالها الثقافة الأوروبية إلى سوريا ، وذلك ما أهلها لأن تكون أول بلدة تقام فيها عروض مسرحية حديثة .

ولعل الفضل في اقتناص البذور المسرحية من الغرب وزرعها في التربة العربية إلى ابن صيدا في لبنان ... ذلك التاجر المغامر المثقف مارون النقاش (1817-1855) الذي كان مشعلا متوهجا في مجالات الإدارة والتجارة إلى جانب ثقافته العربية والتركية والإيطالية والفرنسية .

قضى مارون النقاش سنوات في إيطاليا شاهد خلالها بعض العروض المسرحية وقد مكنته معرفته بالإيطالية والفرنسية إلى جانب العربية والتركية من متابعة قيادات المسرح الأوروبي وكان أول ما فعله تعريب مسرحية (البخيل) لموليير شعرا وقد عرضها لأول مرة في منزله لعام (1848) وحضرها نخبة ممتازة من المشاهدين من بينهم قناصل الدولة الأجنبية و بعض الشخصيات المهمة في البلاد و قد تميز العرض ببعض الظواهر التي قيدت المسرح العربي لفترة طويلة من الزمن نوجزها فيما يلي :

(1)    لم يدخل النقاش أي تغيير على عقدة المسرحية و لكنه تصرف في تطويل بعض المشاهد و تقصير بعضها بما يلائم ذوق الرواد و ثقافتهم . كذلك قام بتعريب الأسماء و تغير المواقع التي دارت فيها الأحداث .

(2)    أدخل مارون بعض الألحان التركية على النص المسرح و لم يكن متقيدا بملاءمة ذلك مع أحداث المسرحية ، و لأجل ذلك أصبحت المسرحية وسطا بين الملهاة و الأوبريت و قد استمرت هذه الظاهرة الموسيقية في المسرح حتى هذه الأيام .

(3)   لم يكن يسمح بظهور نساء على خشبة المسرح و لم يكن الجمهور يوافق على ذلك . و قد قام الذكور بدور الإناث ، و مع أن هذه الظاهرة من مخلفات المسرحين الأفريقي والأزبيثي فإن للعرب في الشرق الأوسط أسبابهم الخاصة لذلك.

(4)   كان معظم الممثلين من أسرة النقاش نفسه ، رغم أن انتخاب الممثلين من الوسط الأسرى ليس قاعدة فإن الأخرين ضلوا ينتخبون ممثليهم من بين أفراد أسرهم .

 
وهكذا فان النجاح الذي حققه النقاش في عرضه هذه المسرحية شجعه على بناء صالة كبيرة للعرض إلى جانب منزله وقد حصل على فرمان يخوله العرض في تلك الصالة . وفي تلك الظروف كتب النقاش مسرحيته الثانية (أبو الحسن المغفل) سنة (1850) وهي المسرحية التي اعتبرها النقاد تعريبا لإحدى مسرحيات موليير، ولم يكن الأمر كذلك ، فعلى الرغم من أن أبا الحسن كان ساذجا ومخيلا ومدلها بالحب كبطل موليير فان عناصر الشبه بينهما تنتهي عند هذا الحد ...
كذلك أن النقاش استخدم في مسرحيته مادة من (ألف ليلة وليلة) أو هو صاغها على غرارها وتقوم فكرتها على أن أبا الحسن المغفل قد خول أن يصبح خليفة ليوم واحد بأمر من الخليفة هارون الرشيد إلا أنه لم يستطع أن يتأقلم مع وضعه الجديد فدخل في كثير من المفارقات .

وأما المسرحية الثالثة والأخيرة التي كتبها النقاش فهي تعريب لمسرحية موليير وقد عرضها النقاش تحت اسم (الحسود السليط) عام (1853) وقد اختلفت في بعض مواضعها عن النص الأصلي لمسرحية موليير .

كان موت النقاش وهو في سن والثامنة والثلاثين خلال رحلة تجارية إلى طرطوس ضربة قوية للحركة المسرحية العربية الحديثة وهي ما تزال في بدايتها ، وقد تأثرت الحركة المسرحية بذلك في أكثر من وجه فإلى جانب أن الحركة تأثرت بموت رائدها وحماسه وموهبته فإنها خسرت أيضا القاعة التي أنشأها لممارسة عروضه المسرحية والتي حولت من بعده إلى كنيسة تمارس فيها الطقوس الدينية وفي تلك الظروف بدأت تطل من جديد تلك المعارضة التقليدية لفن المسرح وكان المعارضون يتهمون الفنانين بضعف الوازع الديني .

بهذه الجهود الرائدة أرسى مارون النقاش أسس الفن المسرحي على قواعد متينة من فهم صحيح للعملية المسرحية ولكل ما يحيط بها من أبعاد على وجهها الصحيح ! ولا يعني هذا أن مسرحياته قد بلغت ذروة الإجادة ...بل يعني أن ما وراءها من تفهم فني كان صحيحا ...أما التطبيق فأمر صعب في هذه المرحلة .