موضي بنت أبي وطبان

ألف ومائة عام مضت على إشراقة نور الإسلام في جزيرة العرب حملت معها تعاليم خير أضاءت على البشرية جمعاء تنثر دفء وهجها على ملايين من البشر الموحدين لبارئهم والمصلين على نبيهم الهادي الأمين.. لكن هذه الشمس فقدت مع الأيام أرضاً أنجبتها فاعتلت الظلماء البطاح وبات الجهل معولاً يهدم أركان الدين وبدأت براثن الأصنام المؤودة ترفع رؤوسها الشيطانية في سماء جزيرة العرب.. واشرأبت أعناق الشرك حين زين الشيطان للإنسان سوء عمله.. فحلت البدعة مكان السنة ، والجهل مكان العلم ، وسادت الخرافات والمعتقدات الفاسدة أرضاً طالما استقبلت وحي السماء.. فتهافتت جموع الجهلاء سجداً للقبور تيمناً بقدرها.. ودانت الأعناق خضوعاً لشهوات النفوس الأمارة بالسوء لا تعبأ بدين ولا خلق.. فانتشر الفساد في أرجاء البلاد وعمت الفوضى نفوس العباد.. وبات حكام ذاك الزمان يتنافسون على وثائر السيادة لا يبالون بما حل على أرضهم الطاهرة.. ولا يقيمون وزناً لصلاح الدين بقدر ما يتحمسون دفاعاً عن عنجهية السيادة طمعاً في استعباد جموع الجهلاء.. فغدت المدارس ودور العلم عملة نادرة في عصر الجهل وفقر العقول.. فكان لا بد للحال من إصلاح يقوّم هذا الاعوجاج الذي تطاول على أصول العقيدة لتعود الأمة من جديد إلى نور الإسلام فكانت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

 

وقف الشيخ المصلح رافضاً لمظاهر الجهل راغباً في تجديد دماء الإسلام في نفوس المسلمين.. هادفاً إلى استبدال عتمة القلوب بصلاح النفوس.. لكن الحمقى من الجهلاء الذين خافوا على أنفسهم مغبة انقطاع سيادتهم عملوا على محاربة الدعوة بالتحريض تارة والتهديد بقتل الشيخ تارة أخرى.. مما اضطر الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الانتقال من بلدة إلى أخرى أملاً في أن يهيئ الله لهذه الدعوة المباركة من يساندها من حكام المنطقة.. حتى وصلت به الطريق إلى الدرعية فنزل فيها متخفياً في دار أحد مناصريه ويدعى عبد الله بن سويلم.. الذي كتم أمره خوفاً من بطش أمير الدرعية محمد بن سعود ظناً منه أن الأمير سيقف حجراً عاثرة في وجه الدعوة كما فعل غيره من أمراء نجد.. لكن الشيخ استطاع إسكان هذا الخوف حين قال له : سيجعل الله لنا فرجاً ومخرجاً..


استمر تخفي الشيخ في دار ابن سويلم إلى ما شاء الله حتى بدأ نور هذه الدعوة ينتشر بين أرجاء الدرعية.. فأضحت دار ابن سويلم موئلاً لطلاب الحق يبحثون عنه من كل رمضاء نجد حتى وصلت الدعوة إلى مسامع قصر الأمير واعتنقها اثنان من إخوته هما مشاري وثنيان ، بل إنها وصلت إلى مخدع الأمير حين اقتنعت بها زوجته موضي بنت أبي وطبان تلك السيدة التي كانت صاحبة دين وعقل ومعرفة.. إذ تنتمي إلى أسرة كريمة من آل كثير وهم فرع من آل فضل الذين كانوا يحكمون أجزاء من الجزيرة العربية في فترة القرن الثامن إلى القرن الحادي عشر الهجري.


تفتح قلب موضي لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. واستشعرت بفكرها الثاقب الخير الذي ستأتي به للجزيرة العربية.. فأخذت في نفسها قراراً أن تكلم زوجها الأمير في أمر الشيخ ليسانده في وقت هاب فيه الرجال من محاكاة الأمير بهذا الأمر...


حين أقبل الأمير محمد بن سعود على زوجته موضي وقفت أمامه تحدثه عن الشيخ بمنظور المرأة المحبة لله.. الواعية لظلماء الحاضر.. الراغبة في تجديد فجر المستقبل.. التي رأت الحق فثبتت عليه تبذل في سبيله الغالي والنفيس.. حين قالت لزوجها : هذا الرجل ساقه الله إليك وهو غنيمة فاغتنم ما خصك الله به.. فانفرجت أسارير الزوج وغربت رياح الهموم من جوانب تفكيره.. وأسرع يقابل الشيخ في دار ابن سويلم سنة 1157هـ ليغير هذا اللقاء مجرى تاريخ جزيرة العرب ويقلب صفحة العتمة من حياتها ببدء دعوة إصلاحية يحمل أبناء الإمام محمد بن سعود لواء نشرها حتى يومنا هذا.


هذه هي موضي بنت أبي وطبان التي لم تكتب عنها صفحات التاريخ غير هذا الموقف.. رغم بساطته وصغره إلا أنه ساهم في صنع دولة قامت على إرساء التوحيد على أرض الجزيرة بعد سنوات طوال من الضباب.. هكذا تكون النساء حين يعانق القلب أعالي السماء.. يرجو ثواب الدنيا ونعيم الآخرة.. رحم الله موضي التي كانت يوماً واسطة العقد بين شيخ مجدد وأمير حمل راية نشر الدعوة على عاتقه وعاتق أسلافه.