"الحزن ما بقلهوش دلال يا جدع"

حين رحل حامل أختام الحزن الأبدي

المستقبل - الاحد 3 نيسان 2005 - العدد 1879 - نوافذ

أبانا الذي رحل.. هل تسمح لابن شرعي أن يكتب لك لأول مرة؟ من هنا حيث وقفت لأراك تطل علينا ممدداً ملفوفاً بالعلم ومحاطاً في حراسة آلاف من الجنود السود، يخافون عليك من حزننا، من لهفة الدموع، يستكثرون علينا الحزن بعد أن رحلت يا حامل أختام الحزن الأبدي. أبانا الشرعي في المخيلة.. حبيب نسائنا ومشاركنا أرق الليالي، يا صاحب الصورة التي ما باتت حلوة، بعد أن ختمت علينا باليتم. ها هنا نشير إليك لنقول: راح صاحبنا. نحن ورثتك الشرعيون، لم نملك أبوة خيال الحكايات كي نعشق ناصر أو سعد زغلول أو المليجي، لكننا بقروش طفولتنا البكر تحلقنا خلف بوستر "الباطنية"، وبايعناك أباً روحياً، أباً للصورة وليس الحكاية. كنت إذا ما فرغتْ طاقات الدمع بعد أن أودعك يا أبت، أذهب جارياً إلى مرآة غرفتي كالمجذوب، ألاحظ وجه التشابه: ربما درجة اللون أغمق، ربما إطلالة العين أكثر جاذبية، وأخيراً اتكاء المرفق. كنت إليك وبك استعيد الثقة في جلدي الأسمر، وشعري الكث، وشفاهي الغليظة، وميلي المراهق للنحافة، فمن كان على صورة أبيه فلا خوف عليه ولا حزن.

ما بال الحزن وقد علمتنا أن ننساه، لكنك تركت لنا في اطّراح المراهقة كل الحزن، يا "منتصر" أبانا الصعيدي في "الهروب"، ها هي أمك تناديك الآن لتعود هائماً في الأعلى كما الجوارح. ها هي "سعاد"، إذ ترق إلى جانبك بعد أن انتظرت في "موعد على العشاء" ولم تعد. تودعك الآن ألف "سعاد" في الحياة، لتعود كي تصفف شعرها وتطبع قبلة. يا بريء الطلة هل علموك في أبجدية القرية أن عزف الناي في برج حراستك كاف لقتل أعداء الوطن؟ أم أنهم منعوك عن حبها فوق هضبة الهرم وقتلوا فينا المحبة إلى الأبد.

 يا أبانا.. حين أعترف لك بأن قصة كابوريا لم تناسبني، لأن وجهي ليس في استطالتك، هل تغضب، فتخلع ساعتك وتضربني يا رجلنا المهم؟ عما كنت تبحث بأصابعك في المرآة وأنت تصفف شاربك، بينما "ميرفت" متروكة لحزن أحلامها في عبد الحليم وعلبة السجائر؟ هل تسمح لشبحك ألا يطاردني على الـ after 8، عندما جلست لتنتحر بعد أن منعوك "الكرنك"؟ هل كنت تحلم بتقبيل سعاد؟ لا تحزن فسنقبلها معك في ألف لقاء قادم وسترتعش يدنا عند اللقاء، ونخطئ في إشعال الثقاب كما علمتنا في "النمر". هل يسمح الحب بالمشاركة؟ إن كانت إجابتك يا متولي شفيقة بالنفي، فلماذا أحبّتك وأنت صديقي، كل نسائي بدءاً من رانيا ورنده وحتى زوجتي داليا؟ هل لأني صرت جزءاً منك؟ لا تغضب إذا ما شاركتك القلب والخيال.

 
أعدك يا أبت حين أنجب بنتاً في جمال "منى"، أن أضرب من تحبه إذا هجرها وألتقط لها صورة حلوة، بينما احتضنها بكل ألم القديسين على العذراء، ولن أتركها يا أبا "أحلام هند وكاميليا" لأدخل السجن بضربة موسى في وجه خائن. هل تعلم أنه بعد أن تفرق أبناؤك تحت عصيان الأمن المركزي، وقفت ووحدي بين الحشد، فجئت أنت تمسح دمعي وتشعل لي سيجارة، ثم تركتني بعد أن ربت على كتفي، آخذاً عزاءك بيدك، ومشيت قبل أن
يخرج النفس الأول؟ هل تفعلها مثلما فعلتها من قبل، وتطل عليّ من زنزانة الاعتقال بتي شيرت أبيض وجينز أسود، فنجلس سوياً في ظلام الزنزانة "ونخمس" سيجارة شرك؟ لم استحضر ليلتها جيفارا ولينين بل استحضرتك، وجلست أسأل جندي الحراسة، شوفت "البرئ"، اللي زيك، فقال لي، يا بيه ده كلام سيما بس بنحبه.


يغمض عينيه فيكتب "ما مرت ساعة إلا وحزين"، وأي حزن يا أبا البراءة والغضب والإدانة، حين جئت تحمل عنا وزر هزائم الدولة الراعية، واستسلام الخيار الاستراتيجي، فاندفعت من بين الحشود سائق تاكسي أو فلاح أو مجند أو كوافير أو بواب أو طبال، لتعيد بعينك رسم القهر الذي فينا على الشاشة، بكل الإدانة الممكنة لمن منعوك ومنعونا عن "الخام المقدس"، حين تسربت يا حزين المقاهي والأزقة من خلفية المشهد لتعيد لنا البهاء وتنزعه عن ذوي الخدود المشربة بالحمرة والشعر المسبسب. أنت من هنا وهناك يا بطل المدينة التائهة التي لم يتسع صدرها لبساطتك، فدغدغت بوجهك النيلي مشاعر أولادها التائهين، يا سليل أحلامهم الفقيرة يا ابن موتهم المؤجل وضحكتهم النادرة ودمعتهم المتحجرة وصهدهم الطالع. يا أبا الوجوه المكسوة بحزن شفيف ذات يوم أحد، حين خلا
قلب عاصمتك من أبطالك الحرفيين، ولم يبق منهم غير كآبة وزمان راكدين، حين ركد الوقت المأزوم على فتاة فوق كوبري قصر النيل، تقف إلى جانب عمود الإنارة موجهة دموعها لبراح النيل، بينما تحمل صورتك وتقبلها في حجم الكف.. دون شهود وكأن العالم قد نزع منه الشغف بالحياة في الأيام القادمة، وكأنهم في هرولتهم عبر الباصات العمومية في ميدان الجنازة جاءوا ليودعوا فيك كل ما فاتهم من أحزان. هذه المصرية بلباسها البلدي الأسود، بنت حداد السنين، راحت تتسلق عربة فاخرة راكنة في أول الشارع لتولول وتلطم خدودها، كما لو أنها تودع ابنها وأبيها وزوجها في آن واحد. تلك المراهقة المتشحة بالسواد ذات النظارة السميكة، حين فاجأها الإغماء، اقتنصت منك قطعة لتحكي لأبنائها المستقبليين عن تلك الجنازة التي لا تصح إلا للشخص الوحيد الذي يستحق الخروج له تحت قيظ صيف مبكر. ما بال هؤلاء الشباب الذين حملوا أعلام الوطن، كما لو كانوا في استاد كرة القدم، وافترشوها فوق الخضرة اليابسة لحديقة الميدان، مصلّين فوقها خلف أحزمة الأمن المركزي، صلّوا على العلم وكأنك اختصار للوطن الذي كان فمات.
استحلفك يا أبتاه لِمَ يخافون أبناءك ليضربوهم بالهروات. لو كنت تمشي جنازتك كما وعدتنا، لرفعت يدك لتمنع ذلك الضابط عن ضرب الأمهات، وكسرتَ عنقه. ألم تفعلها حين سلمت نفسك في مقابل أمك المكللة بالسواد؟ ألم تفعلها حين قاومت من أعتقلوك فوق
هضبة الهرم؟ ألم ترفع صوتك خائراً "يا أولاد الكلاب"، وأنت ترفع رشاش الخدمة لتقتل زبانية التعذيب؟ أين أنت يا بريء لتحمي أهلك من الهراوات؟ كانوا في انتظارك مثلما انتظرتك مرتين أن تتحدث، مرة أمام باب غرفة (315) بفندق هيلتون رمسيس، حيث أقمت، وهالني غضبك، فاعتذرت لي، ومرة حين توقفت لتحدثني بدار الأوبرا، فنظرت في عينيّ ولم أقوَ، لنؤجل ميعاداً آخر بيننا. هل تسمح لي الآن أن أكلمك دون غضب؟ أعلم أن أحداً لن يفك شفرة هذا الخطاب غير أنت يا أبتي الذي "قطع بنا"، اسمح لي أن أسألك سؤالاً أخيراً "وإن سألوك الناس عن ضي جوا عينك ما بيلمعش، قول لهم العيب مش فيا، ده العيب في الحزن". ها هو لا يجيب، وليتألم الناس.

 

المصريّون شيعوه بلوعةٍ غير مسبوقة:

"أحمد زكي" يشخّص أكثر أدواره مأسوية

كان ثمة ثلاث كلمات فقط على ألسنة المصريين: "أحمد زكي.. مات". الأغلبية لم تكن بحاجة إلى الدخول على "الانترنت" ولا إلى مطالعة الصحف، أو حتى تشغيل التلفزيون، للتأكد من الخبر. قليلون عرفوا الخبر وتيقنوا منه، وتولوا نقله إلى الآخرين. فالمصريون لم يعنوا في الفترة الأخيرة بمتابعة رجل تسلط عليه الأضواء، مثلما عنوا بأحمد زكي. تبادلوا العبارة ذات الكلمات الثلاث في تمتمة حزينة. كان بعضهم يعزي بعضا، حتى في الباصات الحكومية التي تنقل المواطنين بأسعار زهيدة فيتكدس العشرات منهم في الباص. كان حديثهم عن أحمد زكي الذي رحل. بعضهم انخرط في قراءة الفاتحة له بصورة جماعية، وبعضهم استغرقته شخصية الطبيب فراح يحلل ويفسر رحيله وكأنه كان معه في جناحه بالمستشفى (دار الفؤاد) الذي دخله أحمد لأول مرة مصاباً بالسرطان قبل 14 شهراً.


شعور عميق بالفقد والحزن العميق مع رحيل أحمد زكي صباح الأحد. لم يكن مستغرباً أن يبكوه، ولا أن يتوافد على جنازته التي شقت قلب القاهرة صباح الاثنين الماضي آلاف من جمهوره العادي من كل ربوع مصر، من الاسكندرية إلى أسوان، ليشاركوا في جنازته ويحرصوا على مواراته ثرى مقبرته بالسادس من أكتوبر ـ في جنوب غرب الجيزة ـ ليشيعوه بالدموع والدعوات واستنزال الرحمات!


جدد أحمد زكي الأحزان في قلوب المصريين، الذين يفتحون قلوبهم للحزن ـ مع كل رحيل جليل ـ وكأنهم يفتحونها لأول مرة. فتحوها قديما في جنازة غير مسبوقة ليشيعوا جمال عبد الناصر (1970)، وفتحوها في العام 2001 ليشيعوا سعاد حسني، وفتحوها على مصاريعها لتحضن أحمد زكي وتبقيه في الشرايين والأوردة، فهو واحد منهم جسد آلامهم وأحلامهم واكتست ملامحه بملامحهم في كل أشرطته السينمائية وأعماله المسرحية والتلفزيونية.
والحق أن هذه اللوعة الحارة والدموع التي انهمرت لا تنوي الانقطاع على أحمد زكي، وراءها أحمد ـ المشخصاتي ـ الذي اتحد وشخصيات كثيرة من المصريين، ونبذ الشخصية التقليدية للبطل ـ ابن الطبقة الوسطى ـ فلم يقترب منها إلا قليلاً (وبالطبع نجح في تشخيصها نجاحاً لافتاً)، منحازاً لشخصيات بسيطة أو فقيرة أو مهمشة. لم يكن أحمد زكي ممثلاً مجيداً لأدواره، لأنه لم يكن يمثل. كان يتلبس الأدوار، يناوشها، يعايشها، يدخل في إهابها، حتى يكونها تماماً. هذه ارقى مراتب الممثل، التي جعلت النقاد يطلقون على أحمد (المشخصاتي)، وجعلهم يضعونه في قائمة أهم ممثلي السينما العالمية في القرن العشرين.
نعم شخّص أحمد عشرات الشخصيات الدرامية، وترك للسينما المصرية والعربية قرابة 90 شريطاً سينمائياً، انفرد منها بالبطولة المطلقة في نحو 50 شريطاً من النصف الثاني للسبعينات، وصولاً إلى آخر هذه الأشرطة "حليم" الذي لم تشأ الأقدار أن يستكمله. فلم تكن لأحمد زكي حياة خاصة قدر ما كانت له حياة عامة، التشخيص فيها هو الأساس. لم يكن مضطرا إلى ذلك ولا يلزمه بذلك عمله السينمائي. هو ألزم نفسه بنفسه، وحملها على ذلك. حب التشخيص حول حياته كلها إلى شريط سينمائي امتد 55 عاماً بطول عمره القصير! فعاش حياة مئات البشر في تلك الأشرطة، فكأنه اكتفى بها.. فلم يشأ في تشخيصها في حياته الخاصة، ولم يكن يعبأ بذلك. كان يقول في حواراته الصحافية: "تلك حياتي اخترتها، أحبها، وأنا راض بها"! رضي أحمد ـ إذن ـ بأن يحبس كل مفردات حياته الخاصة في مفردات شخصيات أشرطته، ولم يكن يمل من ترداد مقولة "ستانسلافسكي" صاحب الكتب المسرحية الشهيرة عن إعداد الممثل والتي مفادها "ما
يخرج من القلب يصل إلى القلب"، كانت تلك تميمته الفنية، لا يبدّل فيها ولا يزيّف، فالممثل الفاشل عنده (هو الممثل الذي يمثل من خارج الشخصية ويجانب الصدق الفني فيعجبك أداؤه ولا تصدقه ثم تنساه كأن لم يكن..).


في كل حياته ـ بتفاصيلها، وحتى في شهور مرضه الأخيرة ـ كان (المشخصاتي) الذي رضي بنجاحه الخارق في الفن، ولم يكترث في قليل أو كثير بأن ينجح في هذه الأدوار ذاتها في حياته الخاصة بهامشها الضيق جداً!


النادل الأسمر

بدأ أحمد زكي حياته ممثلاً مسرحياً هاوياً، في مسقط رأسه بالزقازيق (حاضرة محافظة الشرقية، الواقعة شرق دلتا النيل)، وظل يبحث عن نقطة نور ينفذ منها إلى الجمهور المحترف في المسرح التجاري أو السينما، ليصبح بدوره ممثلاً محترفاً. نزح إلى القاهرة وظل يكافح إلى أن وصل لمحطته الأولى.. مسرحية كوميدية أخرجها وقام ببطولتها (عبد المنعم مدبولي) العام 1969 بعنوان "هاللو شلبي".


كان دور أحمد زكي صغيراً جداً، مجرد نادل ذي سترة بيضاء و(بابيون) أسود، يظهر
على خشبة المسرح لأربع دقائق. كان المطلوب منه أن يقلد صوت وانطباعات محمود المليجي ليقنع مدبولي ـ الذي كان يلعب دور مخرج مسرحي أيضا في هذا العرض ـ بموهبته. وبعد أن أدى أحمد "نمرة التقليد" فوجئ بتصفيق حار من الجمهور ومن مدبولي نفسه. كل مَنْ كانوا هناك وجدوا أمامهم شاباً أسمر لا يعرفون اسمه، يرونه لأول مرة.. ولم يكن ثمة فارق على الإطلاق بينه وبين المليجي، الصوت.. انطباعات الوجه.. الحركة على المسرح.


انطلق أحمد من هذه "اللعبة الصغيرة" على المسرح إلى لعبة أكبر. الكوميديا أيضاً، في
"مدرسة المشاغبين" مع عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي وهادي الجيار (امتد عرضها من 1972 إلى 1974) ثم مع سعيد ويونس في "العيال كبرت" (من 1976 إلى 1978). والحق أن أحمد زكي لم يكن يلعب في الحياة خلال هذه السنوات التسع سوى دور النادل الذي يسعى بكل الطرق إلى إقناع الناس بموهبته، حتى ولو بضحكات قليلة صافية. حتماً لم تكن الأدوار الكوميدية البسيطة التي لعبها أحمد في تلك المسرحيات تشكل حلمه كمشخصاتي، ولكنها شكلت مرحلة من الحلم، المثابرة والنحت بالأظافر في الصخر، وصولا إلى نافذة تقنع الجمهور والنقاد بأن ثمة ممثلاً فريداً في طرازه ينتظر فرصة أكبر!

 

النجم والوسامة

أثمرت المسرحيات ثمارها اليانعة، طلبت السينما أحمد، ليشكل فيها المعادلة الجديدة.. نجم ليس وسيما ولا أبيض البشرة ولا تعنيه السترات الفاخرة التي يحرص عليها زملاؤه في تلك المرحلة والذين سبقوه بفترة إلى البطولة المطلقة. محمود ياسين وحسين فهمي ونور الشريف، نجم بمواصفات لم تألفها السينما المصرية قط.. لأدوار لم تألفها هذه السينما أيضا، ليعبر أحمد زكي عن جيل السبعينات خير تعبير. هذا الجيل الذي نفض المظهر والشكلانية ليدخل إلى العمق. صحيح أن أحلام هذا الجيل السياسية والاجتماعية تحطمت على صخرة الواقع، لكنه كرَّس مفاهيم جديدة، وسامة الروح لا الوجه ولا الملبس، وإعلاء قيمة الثقافة على أية قيم أخرى، ليصبح أحمد زكي مندوب جيل السبعينات في السينما، ورمزاً لتحوّلات أساسية وقعت في المجتمع، وليتماهى مجدداً بداخل أحمد المشخصاتي والإنسان. فأحمد زكي نبذ الشكليات إلى آخر حياته، وأصر على ما يعجبه لا على ما يعجب الآخرين. حتى إنه لم يبال بالانتقادات التي لاحقته بسبب تلك النظارة السوداء التي كان يحجب بها عينيه. كانوا يقولون له ما حاجتك إليها في الليل؟ ولماذا تحرص على ارتدائها حتى في المناسبات العامة؟ وكان ـ فقط ـ يبتسم غير مبال بأية تبريرات!
في تلك المرحلة أخذت "كاريزما" أحمد زكي في التخلق شيئاً فشيئاً، وهي المرحلة التي أبدع فيها أشرطته "العمر لحظة" ـ عن حرب تشرين أول، أكتوبر 1973 ـ مع ماجدة الصباحي (1975) و"شفيقة ومتولي" عن قصة فولكلورية صعيدية مع سعاد حسني وإخراج علي بدرخان (1977) لتتوالى أشرطته يلعب في كل منها شخصية جديدة.

صحيح أنه لم يكن بطلا مطلقا في تلك المرحلة، لكنه صار علامة معروفة تبشر بانقلاب في مواصفات النجم. وفيما كانت الصحافة المصرية والعربية مغرقة في التعرض لتفاصيل الحياة الخاصة لهذا أو لذاك من النجوم، لم تجد في حياة أحمد زكي الشخصية سوى فنه أيضاً، وشخصيته العزلوية الريفية البسيطة المظهر والجوهر، فكفت عن ملاحقته!


تحوّلات
لأن أحمد زكي ثابر طويلاً لكي يصل إلى البطولة المطلقة؛ فإن شخصيته الأولى الهادئة ذهبت ولم تعد، وعرف بأنه الأكثر عصبية بين نجوم السينما. وصل أحمد إلى البطولة المطلقة في شريط "العولمة 70" مع تيسير فهمي وأحمد بدير والمخرج خيري بشارة (1981)، وكان صبره قد قارب النفاد بعد 13 عاماً من الأدوار المساعدة. في تلك المرحلة أنجز سلسلة أشرطة مع نجوم السبعينات والثمانينات ونجماتها، بدءاً من سعاد حسني التي شاركته بطولة "موعد على العشاء" (1982)، و"الدرجة الثالثة" (1987) وصولاً إلى آخر أشرطتها "الراعي والنساء" (1991)، وصارت تؤكد للصحافة أنها مقتنعة بأن أحمد هو أكبر نجم وقفت أمامه في أشرطتها السينمائية. وبشراكته لسعاد ـ نجمة النجمات ـ صار نجم النجوم، بخاصة بعد مسلسلهما الشهير "هو وهي" (1984)، والذي جعل منهما ثنائياً فنياً شعبياً غير مسبوق!


ومع البطولة المطلقة مع سعاد حسني، جاءته سلسلة من الأشرطة التي سجلت كعلامات فارقة في السينما المصرية مع كل النجمات، فقدم "البريء" مع إلهام شاهين ومحمود عبد العزيز (1985) و"النمر الأسود" مع السورية وفاء سالم في السنة نفسها، و"الراقصة والطبال" مع نبيلة عبيد (1984) و"البداية" مع يسرا (1987) و"الحب فوق هضبة الهرم" (1983) و"أنا لا أكذب ولكني أتجمل" (1981) مع آثار الحكيم، و"ولاد الإيه" مع ميرفت أمين وهالة صدقي (1985).


تغيّر أحمد كثيراً في تلك المرحلة، وبقدر التعقيد الذي صار يحكمه في اختيار أدواره، تكوّنت لديه تركيبة جديدة ليست سهلة. بات على المتعاملين معه في البلاتوه أن يتعاطوا معها، صار مدخنا شرها (يدخن قرابة 80 سيجارة في اليوم)، وعصبيا جدا بإزاء كل ما يظنه خطأ ـ ولو بسيطاً ـ في العمل. كما كان من الصعب جدا مجاراته أمام الكاميرا
بحضوره الطاغي وتقمصه الكامل للشخصية، كان يقول "أواجه العمل بأعصاب عارية، كيف أتحمل حدوث خطأ في عملي بينما هذا العمل هو كل حياتي الباقية؟". هكذا كرس أحمد لنفسه المزيد من الخصوصية في شخصيته كمشخصاتي وكإنسان.


أشرطة للتاريخ

في منتصف التسعينيات ظهر شريط جديد لأحمد زكي بعنوان "ناصر 56" جسد فيه دور الزعيم الراحل جمال عبد الناصر خلال تأميمه قناة السويس ووقوع العدوان الثلاثي على مصر (تدور أحداثه كلها بين تموز، وتشرين أول، 1956).

وبرغم أن مؤلف الشريط (محفوظ عبد الرحمن) كان محققاً أميناً لمادة الشريط، إلا أن أحمد لم يكتف بذلك.. ولعب دوره المفضل، المشخصاتي الذي تلبسته كاريزما ناصر، فالتهم 12 مرجعاً عن تاريخه وعددا لا يحصى من القصاصات الصحافية، وجالس ابنه الدكتور خالد عبد الناصر وابنته هدى ليعرف منهما أدق التفاصيل، فضلاً عن نحو 300 صورة فوتوغرافية للزعيم الراحل عكف أحمد على تأملها، ليعرف منها تفاصيل ملابسه وشعره وربطة العنق وانطباعات وجهه، بل انطباعات يديه ! يذكر أحمد زكي عن هذه المرحلة من الإعداد للشريط "اكتشفت أن ناصر كان يضع يديه في جيبي سترته وإذا غضب أو توتر يخرجهما"، هكذا وصل أحمد زكي إلى أدق التفاصيل، وقضى 17 شهراً من حياته الخاصة، في التحضير لعمله الكبير.


وفي العام 2001 خرج أحمد زكي على جمهوره بشريط "أيام السادات" الذي أنفق فيه كل مدخراته، واضطر أيضاً إلى إدخال التليفزيون المصري شريكا له في إنتاجه.. أعد أحمد للشريط نحو عامين، جلس جلسات مطولة مع السيدة جيهان السادات أرملة الرئيس الراحل، ومع أبنائه وبناته، بل استعان بمزينه الخاص محمود لبيب ليصفف له شعره خلال تصوير الشريط، على الطريقة التي كان يصفف بها شعر السادات. ولم يفوت أحمد فرصة وجود محمود لبيب إلى جواره، فأفاد من معلوماته الخاصة حول السادات، بل علم منه كيف تأهب السادات نفسياً لرحلته المفاجئة إلى القدس 1977 وكيف كان السادات في لحظات الفضفضة داخل بيته!


لم يكن أحمد سياسياً؛ ولا كان يحب الحديث المعلن في السياسة، ونفر من ادعاء دور سياسي للفنان إلا عبر أعماله الفنية، وترك لعبة الزعامة السياسية الفنية لآخرين أجادوها. إذا سألته في السياسة كان يقول لك : "أقدمها في أشرطتي نعم، لا شيء ينفصل عن
السياسة في حياتنا، حتى الحب سياسة، الفقر والغنى سياسة، رغيف الخبز سياسة.. هذا شيء وأن أنظر في السياسة شيء آخر، الشريط السينمائي وجمهوره أكبر من أي حزب سياسي وأنصاره"! لذلك لم يهتم أحمد إلا بـ"تشخيص" السياسة، رافضاً أن يحترفها في السينما من طريق الخطب والعظات، ورافضا أن يحولها إلى عبارات صحافية رنانة في حواراته ومقابلاته الإعلامية.


الثري والصعلوك

كان أجر أحمد زكي في أشرطته السينمائية مصنفاً ضمن أجور الصف الأول، وصل أجره إلى مليون جنيه (190 ألف دولار) في آخر أشرطته المكتملة "معالي الوزير" (2002) ووصل بصورة استثنائية إلى 5 ملايين جنيه عن شريطه الذي لم يكتمل (حليم).. لكن في السنوات الأخيرة وصل أجر أحمد إلى حد أقل من أجور نجوم الجيل الجديد مثل محمد سعد ـ المعروف بشخصية "اللمبي" ـ (3 ملايين جنيه) أو محمد هنيدي (2 مليون و10 في المئة من الإيرادات). لم يكن ذلك يغضب أحمد زكي.


شخّص أحمد شخصية الثري بل والملياردير في أشرطة كثيرة، لعل أبرزها على الإطلاق "الإمبراطور" (1990) أمام رغدة، والذي لعب فيه دور تاجر مخدرات احتكر جلبها إلى مصر، وقفز في حقبة الانفتاح إلى قمة الثراء مرة واحدة، لكن حلم الثراء لم يغلب أحمد في يوم من الأيام، وفضل عليه أن ينفق من ماله الخاص على الفن، فضلاً عن إنفاقه جزءاً معتبراً من مداخيله على رعاية أهله بالشرقية، ودفع إيجار جناح الفندق الذي أقام فيه 18 عاماً (الجناح رقم 2007 بفندق شيراتون الجزيرة بقلب القاهرة)، مع أنه كان يملك شقة خاصة. قال ذات مرة في حوار للتليفزيون المصري 1993: "أفضل الصعلكة ليس حباً فيها وإنما اضطراراً لها، فأنا أسكن جناحا بفندق لكي لا أشعر بالوحدة، يؤنسني ضجيج البشر في الفندق.. كل ما خرجت به من الفن هذه الشقة التي أتركها لابني الوحيد "هيثم"...".
نجح أحمد في أداء دور الملياردير وأخفق في الاحتفاظ بمليون واحد من أجره في حياته الفنية العريضة، انحاز للفقراء والمهمشين في أشرطته وعاش مثلهم في حياته الخاصة..
كان في نشأته ريفياً فقيراً ويتيماً ومهمشاً، فأفاده ذلك فائدة كبرى في تشخيص هذه النشأة عبر سلسلة طويلة من الأشرطة، مثل "كابوريا" مع رغدة (1991) و"مستر كارتيه" (1992)، و"حسن اللول" مع شيرين رضا (1994) و"البطل"، مع مصطفى قمر ومحمد هنيدي (1995)، و"اضحك.. الصورة تطلع حلوة" مع منى زكي وكريم عبد العزيز (1998). وكان بدأ هذه السلسلة بشريطه "أحلام هند وكاميليا" مع نجلاء فتحي وعايدة رياض (1987)..


في جميع هذه الأشرطة قدم أبطالا يشبهونه في نشأته البعيدة، أناساً يعيشون على الهامش، فقراء، مظلومين، موهوبين.. لم يقدمهم ملائكة، كانوا يخطئون ويصيبون، يقترفون الشرور ويمحونها بالخير.. والحق أن أحمد زكي في جميع أشرطته لم يكن يميل للشخصيات البيضاء، كان يؤدي الأدوار الرمادية وأحياناً السوداء، حيث الثراء الدرامي..

وربما كان تبنيه لهذه الأدوار السبب الأساسي في هذه اللوعة التي شعر بها جمهوره لدى فقده صباح الأحد الماضي.


حليم.. آخر الأحلام

عزم أحمد زكي على أداء شخصية المطرب الراحل عبد الحليم حافظ مبكراً، أي قبل 4 سنوات، وأصر على تشخيصه وهو الذي عايشه منذ سنين بعيدة يحلم بتشخيصه لحليم، مع أنه لم يلتق عبد الحليم سوى مرة واحدة.


كان ذلك في إحدى الليالي الشتوية من عام 1974، كان نجاح مسرحية "مدرسة المشاغبين" يملأ الأسماع، وذهب عبد الحليم إلى المسرح لكي يشاهد هذا العرض منقطع النظير.. بعد العرض صعد إلى المسرح وصافح نجوم المسرحية واحداً واحداً إلا أحمد زكي، تركه ولم يصافحه أو يبادله عبارة واحدة.


بكى أحمد في تلك الليلة بكاء حاراً، وفي اليوم التالي كان حليم يتصل به هاتفيا ليقول له: أنت رائع وعبقري وستكون شيئاً كبيراً في التمثيل، وآسف لأني لم أنتبه جيداً في تلك اللحظة. لولا هذا الاتصال ربما كان أحمد كره حليم طوال العمر، بحساسيته المفرطة.


وفي ليلة تدشين أول يوم للتصوير لفيلم "حليم"، أقامت الشركة التي يملكها عماد الدين أديب حفلاً كبيراً لأحمد حضره كل نجوم الفن في مصر والعالم العربي، وقف أحمد زكي على المسرح ليقول: أنا وحليم واحد، كلانا من الشرقية، كلانا نشأ يتيماً، فقيراً، وحيداً، كلانا حلم بالنجومية، وأصيب بالبلهارسيا "ونزل الترعة"، غير أن القدر جعل حظي أفضل فعولجت وشفيت على عكس حليم.


وعلى الرغم من آلام السرطان الذي كان يأكل صدر أحمد زكي ويتفشّى منه إلى معدته والبنكرياس والكبد، ورغم تداعي مناعته.. إلا أن أحمد تماهى تماما وحليم، وناضل ليصوره شريطا سينمائيا.. بكل طاقته أنجز منه جزءاً (لا يزال محل خلاف إلى الآن، البعض يقول 12 مشهداً و3 أغنيات؛ والشركة المنتجة تقول إنه صور 90 في المئة من دوره..)، وهكذا لازم أحمد زكي ابن بلدته حليم إلى الساعة الحادية عشرة من صبيحة يوم الأحد الماضي حين غيّبه الموت، وليصبح مشهد جنازة أحمد زكي التي انطلقت بعد صلاة ظهر الاثنين من مسجد مصطفى محمود، بالمهندسين، إلى مدفنه الخاص في "السادس من أكتوبر" آخر مشاهد شريط حليم، كما أعلن ذلك منتج الشريط ـ أديب ـ عقب وفاة أحمد بساعتين فقط.. فيما كان "المشخصاتي" يرقد في "ثلاجة المستشفى"!

 

الناقد السينمائي محمد سويد يكتب من القاهرة عن الفنان أحمد ذكي

ضمن الملحق الثقافي لجريدة النهار البيروتية

 

 

عودة إلى الصفحة الرئيسيّة للشخصيات العربيّة