الطربوش

TARBOUCH02

هناك مهن على وشك الانقراض لأن الزمن قد عفا عليها وأصبحت( موضة قديمة) وهناك مهن أخرى أصبحت في طي النسيان لأن التقدم التكنولوجي قضى عليها، وهناك أسباب أخرى منها قلة العائد المادي للمشرفين عليها إذا ما قيست بالوقت اللازم لإنجازها.
ففي بعض المدن من بلاد الشام تروج بعض الحرف الصغيرة حيث يعود الصناع إلى الطرق المستعملة في القرون الماضية، وصناعة الطربوش الذي كان إحدى مظاهر الرجولة والأبهة ما زالت قائمة حتى الآن على نطاق ضيق وهي إحدى الحرف المنقرضة والتي بدأ يسدل عليها ستائر النسيان بعد انتشار( البروكة) لدى شباب اليوم.

كلمة "طربوش" محرفة عن الفارسية (سربوش) وتعني: زينة رأس الأمير ثم حُرّفت إلى (شربوش) فأصبح شبه عمامة تلتف حول الطاقية حمراء من الجوخ سطحها يتراوح بين (10-14) سم وتعلق في وسطها شرابة غليظة زرقاء أو سوداء تتدلى حتى العنق وحل محل الطربوش الكبير الطربوش النمساوي تشبهاً بالأجانب وأطلق عليه اسم (فس FEZ) نسبة إلى مكان صناعته وهي (فيينا) عاصمة "النمسا" وكان شكله اسطوانياً ولونه أحمر أو أبيض ثم حوّل الاسم إلى (فاس) وزعموا أنه يدل على مدينة (فاس) المغربية كي يموّه عن المسلمين منشؤه الأصلي ويرضي مشاعرهم الدينية بأنهم لا يستعملون بضائع الأوربيين وعاش الطربوش فترة ازدهار وأصبح شعاراً قومياً بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى بل احتل مركز الصدارة بين أغطية الرأس وأصبح لبسه ردة فعل على بعض المحاولات بإدخال القبعة الأوربية باعتبارها لباس المستعمرين .

ومما يلفت النظر إلى تاريخ هذا الزي آن بعض الزعماء كانوا يفاخرون باعتماد الطربوش، وقد تضم خزائن بعض العائلات الكبيرة العدد الكبير منها.

وإذا ما عدنا إلى ماضي الزمان حيث كان الأتراك يحكمون بعض البلاد العربية نجد ان ارتداء الطربوش والعمامة انتشر بين أفراد الشعب وخاصة الوجهاء من كبار القوم.
ففي أيام الحكم العثماني كان الوجهاء يعتمرون العمامة الحريرية، وكانت تغرز فيها بعض الأحيان( الريشة) التي كانت تستعمل للكتابة او للتوقيع على الوثائق المهمة، ولكن في عهد السلطان عبد الحميد الثاني شاع استعمال الطربوش الذي يقال إنه من اصل نمساوي، والبعض الآخر من المؤرخين يقول ان الأصل يعود إلى العثمانيين أنفسهم، فهم أول من ارتدوه وذلك أواخر القرن التاسع عشر، وفي مطلع القرن العشرين اصبح ارتداء الطربوش موضحة دارجة يتفنن بها الصناع، ويتفاخر بها الشباب والفتيات إضافة إلى الشيوخ والعلماء، حيث يضع العلماء عمامة بيضاء ملفوفة على الطربوش، وما زال الكثير من الشيوخ والعلماء يرتدونه حتى يومنا هذا، ويعود لهم الفضل بعدم انقراضه نهائياً.


وقد يختلف شكل الطربوش ومقاسه من بلد الى آخر، ففي سوريا ولبنان وفلسطين كان طويلاً واشد احمراراً منه في تركيا، وقد شهد الثلث الأخير من القرن العشرين العديد من الطرابيش ذات الشهرة العظيمة، منها الأبيش، المهايني، العظمة، البكري، الحسيني، السبيعي، وغيرها.
أما في بيروت فقد اشتهر آل حيدر وآل ارسلان وآل الخازن وآل سلام وغيرهم من كبار العائلات ورجال الحكم بارتداء الطربوش والتفاخر به ، حتى قيل ان المسؤول في الوزارة او في مجلس النواب إذا كان لايرتدي الطربوش فلا يمكن ان يكون على مستوى المسؤولية والجدية في اتخاذ القرارات، حتى انه كان في بيروت مقهى لا يدخله الشباب إلا إذا كانت معتمراً الطربوش .

وفي فلسطين فإن العائلات الفلسطينية الكبيرة التي كانت منتشرة على مدن الساحل الفلسطيني، وفي المدن الداخلية مثل القدس ونابلس كانت ترتدي الطربوش رمزاً للجاه الاجتماعي، والمكانة الدينية والسياسية وما زال طربوش الحاج أمين الحسيني الزعيم الفلسطيني الذي قاد ثورة الفلسطينيين قبل عام  1948حاضراً في الأذهان.

TARBOUCH01

أما في مصر فقد استعمل الطربوش ، وبقي منتشراً حتى عام 1952، بعد ذلك انزوى نهائياً ولم يبق مه سوى الصور التذكارية، وقد اشتهر أفراد العائلات المصرية العريقة مثل عائلة سعد زغلول الزعيم الوطني المعروف، وحبيب باشا السعد، وفكري اباظة، رئيس تحرير المصور، وطه حسين ومصطفى لطفي.

وفي دمشق حالياً محلات معدودة لصناعة الطرابيش وترميمها بعد ان كان هناك حوالي  400محل.

يقول البعض ان الطربوش يوناني الأصل واتى به الأتراك إلينا، وقد استعملت القبعة الأجنبية بدلاً منه، ثم استبعدت لكونها دخيلة على تقاليدنا العربية، وليست من بيئتنا العربية.
يصنع الطربوش من الخام الخاص( الجوخ) ويوضع معه القش الذي يستعمل كعازل للرطوبة ويكسبه متانة اكثر، وقد يصنع بدون القش، ولكل رأس قالب خاص يتراوح مابين  25سم و 75سم،  ولصناعة الطربوش يأتي الصانع لتفصيل القماش اللازم على القالب، ثم يدخل إليه القش وتركب الشرابة السوداء ويكبس على الستارة، والعملية في مجملها تستغرق نصف ساعة.

أحد أصحاب محلات بيع الطرابيش يقول في الماضي كنا نبيع  6000طربوش، أما اليوم فقد اصبح الطربوش من التراث، وكان سعره ليرة ذهبية، أما اليوم فقد ارتفع كثيراً ويعود ذلك الى انقراض الطربوش وعدم وجود الصناع.

وقد نتساءل عن مصير العديد من مزاولي هذا النوع من الحرف اليدوية تجاه تطور المدينة والصناعة وغلاء المعيشة والمتطلبات الحياتية التي تتكاثر يوماً بعد يوم، وعن مصير المهنة نفسها؟
ونجد الإجابة على تساؤلنا: إنه الزمن الذي تتجاوز عجلته التي لا تتوقف امماً ورجالاً وصناعات وتقاليد، فهذه طبيعة الأشياء، وهذه هي الحياة.

وكانت مصر إلي عهد محمد على باشا تستورد الطربوش من الخارج، إلي أن أنشأ محمد على في إطار برنامجه لتصنيع البلاد واستقلالها مصنعا للطرابيش في فوة، استغنت مصر به عن الاستيراد. وعندما حطم الغرب دولة محمد علي باتفاقية 1840 كان حريصا على تفكيك مصانعه بما في ذلك مصنع الطرابيش.

وقد اشتعلت معركة الطربوش على خلفية معركة أخرى أعم وأشمل بحثا عن هوية مصر: هل هي فرعونية ؟ أم إسلامية ؟  أم أنها تنتسب للبحر الأبيض المتوسط ؟

واكتسب الطربوش في هذا المناخ دلالة خاصة " قومية " باعتباره رمزا في مواجهة قبعة الأوربيين الغزاة.  وانبرى سلامة موسى على صفحات المجلة الجديدة يذكر المصريين بأن الطربوش من بقايا تبعية مصر للحكم التركي، بينما انقض غيره في صحف أخرى يلعنون القبعة ومن يرتديها.   وأصبح الطربوش فجأة تيارا سياسيا له هيبة في الشارع المصري.

وفي هذه اللحظة ظهر سياسي شاب هو "أحمد حسين", أنشأ جماعة للشباب الحر، تحولت فيما بعد إلي " جمعية مصر الفتاة " وكان شعارها : " الله  الوطن الملك " ، وغايتها : " أن تصبح مصر فوق الجميع " ، ودعا إلي مقاطعة السلع الأجنبية واستقلال مصر الاقتصادي . وفيما بعد ألف تشكيلا عسكريا باسم " القمصان الخضر ".  لكن برامج أحمد حسين خلت من أية كلمة عن الدستور والحريات أو إنهاء الاحتلال البريطاني، مما أثار التساؤلات حول نشاط أحمد حسين.  

وقام أحمد حسين وهو طالب في السنة الثانية بكلية الحقوق بطرح مشروع القرش.  وكانت الفكرة أن يتبرع كل مواطن بقرش صاغ واحد ليبنى بالحصيلة مصنع للطرابيش. واعتمد في دعوته للمشروع على أنه عار على المصريين أن يستوردوا لباس رأسهم القومي من الخارج.  ووجد المشروع إهمالا من الصحف إلي أن تبناه صدقي باشا، وأصدر تعليماته بأن تقدم الحكومة للمشروع كل التسهيلات.  

لكن حزب الوفد المصري اتخذ موقفا معاديا للمشروع وأعلن النحاس باشا أن هدف المشروع هو: " حرف جهود الشباب عن قضية مصر الحقيقية " يقصد جلاء الاحتلال. 

وقال طه حسين إنه يخشى أن يكون هذا النشاط الشبابي " هروبا من ثورة الفكر ".

هذه الصورة للوجيه البيروتي حسن سليم آغا فرشوخ  الذي لعب دوراً اجتماعياُ وسياسياً بارزاً ويعتبر من أهم رجالات بيروت في القرن التاسع عشر ميلادي. الصورة له في قصره الكائن في بسطة بيروت العليا سنة 1894م

وظهرت في تلك الفترة تقاليع متعمدة ردا على مشروع القرش، فابتكر البعض طربوشا مختلفا بألوان العلم المصري حينذاك، أي أخضر اللون بزر أبيض. فكان لابسه على حد قول الدكتور لويس: " يبدو وكأنه يلبس فحل فجل ".   وبالرغم من كل ذلك اتخذت الحملة من أجل الطربوش صورة قومية، اشترك فيها آلاف المتطوعين في القاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات وباركتها الأحزاب السياسية وسخرت لها الحكومة فرق الموسيقى العسكرية والحفلات وشارك فيها المطربون ولاعبو السيرك.   وكان الدكتور لويس عوض أحد المتطوعين وحمل معه دفترين من تلك الكوبونات ليبيعها في مدينة المنيا بالصعيد.  وبلغت حصيلة مشروع القرش في العام الأول نحو 17 ألف جنيه، وفي العام التالي نحو 13 ألف جنيه وهي مبالغ خرافية بمقاييس الثلاثينات.

وبلغت ثقة أحمد حسين في عدالة ووطنية مشروعه أن الدعوة التي وجهها إلي الشعب للتبرع من أجل استقلال مصر الاقتصادي في فبراير 1932 تضمنت نبرة التهديد حين جاء فيها قوله: " لا يفكر شخص في الامتناع عن شراء طوابع القرش، فالمتطوعون مكلفون بالتعرض لكل شخص لا يحمل طابع القرش، والمتطوعون ألوف وألوف، وإذن فخير لك أن تدفع ".

وأسفر مشروع الطربوش بالفعل عن إنشاء مصنع في العباسية بالتعاقد مع شركة هاريتمان الألمانية، وافتتح المصنع في 15 فبراير 1933.  

ويوضح برنامج جمعية مصر الفتاة، ثم " المبادئ العشرة " المعلنة لاحقا, حالة من الفزع المضطرب بسبب حاضر مصر المحتلة حينذاك ومستقبلها.  فلابد لكل مصري أن يؤمن بأن مصر فوق الجميع، وأن يشعل القومية المصرية، وأن تصبح كلمة المصرية هي العليا وما عداها لغوا.  أضف إلي ذلك: "لا تتحدث إلا بالعربية.  لا تشتر إلا من مصري ولا تلبس إلا ما صنع في مصر.   احفظ نشيد اسلمي يا مصر, ورتله في كل حفل.   ابعث مجد مصر".    ثم وأخيرا: " احتقر كل ما هو أجنبي وتعصب لقوميتك إلي حد الجنون ".      

لم يعد أحد الآن يدعو إلي الطربوش.   إلا أن رائحة المعركة القديمة مازالت تسري في مناخ حاضرنا.   وما زال البحث جاريا في ظروف جديدة عن هوية مصر، وما إن كان الطربوش أليق بها أم القبعة؟   وهل ينبغي أن نبحث عن صورة مصر في الماضي الإسلامي أم في ثقافة البحر الأبيض المتوسط، أم في الماضي الفرعوني، أم بالارتباط الوثيق بالقبعة الأوروبية؟  لكن صورة مصر لن تتضح إلا باشتباك مصر – ليس مع قبعات وطرابيش الماضي – ولكن مع مشكلات حاضرها ومستقبلها. وبهذا الاشتباك وحده قد تجد مصر نفسها.. وتعرف.. من تكون؟   وحينئذ ستصبح قادرة على حب أبنائها والعطف عليهم ، لأنها ستكون قد عثرت على نفسها .

سار باحث أو مراقب أو سائح في شوارع العاصمة الأردنية عمان هذه الأيام بحثاً عن شخص يلبس الطربوش فربما لن يعثر على ضالته.

وإذا كان من بد لمشاهدة الطربوش فإن على الراغب في ذلك الذهاب إلى أحد الأعراس يشاهده على رأس نفر قليل من الطبالين الذين يؤدون الزفة للعرسان قبيل دخولهم إلى قاعة الاحتفالات.

فلباس الرأس الشهير الاسطواني الشكل والأحمر اللون في الغالب انقرض من عمان ولم يعد أحد يرتديه كزي رسمي كما كان عليه الحال في العقود الأولى من القرن الماضي.

وهذا الحال في عمان يكاد ينطبق على بقية المدن الأردنية وعلى العواصم والمدن العربية في فلسطين ومصر وبلاد الشام كافة التي اعتاد أبناؤها من أجيال مضت وممن لا يزال بعضهم على قيد الحياة على لبس الطربوش وتفضيله على غيره من أزياء غطاء الرأس الأخرى مثل "الكوفية" والغترة والعقال أو الطاقية وغيرها.

وحول هذا الموضوع يقول الأستاذ عمر عبد الفتاح حناشي إن الطرابيش في البلاد العربية ظهرت مع بدايات عهد محمد علي باشا الكبير وإلى مصر واستمر لبسه في مصر ثم انتشر في بلاد الشام مع استمرار سلالة محمد علي من الخديوية إلى آخر ملوك مصر الملك فاروق كما انتقل إلى المغرب وتونس وليبيا والسنغال ونيجيريا.

وأضاف حناشي قائلاً: إن الطربوش موروث تركي جاء من تركيا ومن دول البلقان واقتصر استخدامه في البلاد العربية المشار إليها على أهل المدن دون الفلاحين وسكان القرى والأرياف وأكثر من كان يستخدمه كلباس رسمي للرأس الزعماء والسياسيون والوجهاء وكبار الموظفين الرسميين ورؤساء البلديات إلى جانب أصحاب الثروة والجاه.

وانتشر الطربوش في بلاد الشام مع تعيين إبراهيم باشا والياً على المنطقة.

وأضاف أن حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين كانت تتجنب اعتقال لابسي الطرابيش خلال مطاردتها لرجال الثورة في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي اعتقاداً منها أن رجال الثورة جميعهم من لابسي الكوفية والعقال.

ثم كان ان طلب رجال الثورة في فلسطين من سكان المدن استبدال الطربوش بالكوفية (الغترة والعقال) ليتمكن الثوار من التخفي والانتشار بين الناس إلا أن القائد جمال الحسيني ورفاقه سمحوا بعد العودة من منفاهم إلى جزيرة سيشل للمواطنين باستخدام الطرابيش.
وكان غالبية لابسي الطرابيش يحملون القابا تتراوح بين الأفندي والبيك والباشا كل حسب موقعه وثروته ومكانته الاجتماعية.

أما نقولا فيليب عقروق نجل أول صاحب محل للطرابيش في عمان فله رأي آخر يختلف عن رأي حناشي.

وقال عقروق "إن المؤرخ المصري حبيب جاماتي اعتبر في أحد مقالاته التي نشرتها مجلة المصور المصرية ان الطربوش زي عربي قومي وان ألوانه ترمز إلى الدم والنار قاصداً من رأيه هذا إلى حسم خلافات وسجالات دارت لفترة طويلة بين العرب والأتراك حول أصل الطربوش وهويته التراثية.

وأضاف عقروق الذي قارب عمره الثمانين أن عائلته باشرت بصنع الطرابيش في عشرينات القرن الماضي وقبل ولادته وتخصصت في بيعها في عمان.
وشرح عقروق الذي يعيش في بيته في أحد أحياء عمان القديمة بأن المادة الام التي تصنع منها الدرابيش كانت تستورد من النمسا في حين كانت الخيوط الحريرية السوداء التي تستخدم في صنع الشرابكانت تستورد من نيوزيلندا ودول أخرى.

ويعتبر تجهيز قوالب القش الخطوة العملية الأولى في صناعة الطربيش حيث يتم وضعها حول قالب نحاسي ثم توضع فوقها خامة الجوخ ويتم تثبيتها تحت مكبس خاص وكويها.
وأكد عقروق أن مبيعات المحل الوحيد الذي يديره ابن شقيقه والذي تحتل الطرابيش زواية صغيرة منه تقتصر على وزارة الأوقاف التي تزود بها المشايخ ورجال الدين الذين يغطونها باللفة البيضاء الطويلة لتشكل غطاء الرأس المميز لهم.