الإسهامات الجهاديّة والدينيّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة

    للمغاربة في بيروت وبلاد الشام  

 تؤكد المصادر التاريخيّة العربيّة والأجنبيّة على هجرة مغاربيّة مبكرة إلى بلاد الشام. وهذه الهجرة لم تكن لأسباب علميّة فحسب، وإنما لأسباب جهاديّة ولمشاركة المسلمين في الدفاع عن الثغور الإسلاميّة، وقد إشتهر عن المغاربة التدين وحب الجهاد وطلب العلم.

ومما يؤكد ذلك ما أشار إليه الرحالة الكناني الأندلسي البلنسي إبن جبير في كتابه (تذكرة الأخبار عن إتفاقات الأسفار) سنة 583هـ 1187م عندما زار بلاد الشام والمنطقة في فترة الحروب الصليبيّة، فقد أشار إلى مسألتين أساسيتين تتعلق بالمغاربة ودورهم في بلاد الشام:

    المسألة الأولى: إسهام المغاربة بشكل أساسي وبارز في الجهاد والدفاع عن بلاد الشام ومنها بيروت، لا سيما في فترة الحروب الصليبيّة (1098-1291م) فقد أكّد على وجود آلاف المغاربة في بلاد الشام للمشاركة في الجهاد ضد الإفرنج، لهذا وقع العديد منهم أسرى، وقد حرص السلاطين والأمراء والتجّار المسلمون على فك أسرهم نظراً لما يقدمونه من تضحيات، وقد قدموا من بلادهم خصيصاً لغاية نبيلة وشريفة. بل لم يتردد بعض المسلمين من أن يوصوا وصايا ماليّة تخصص لهؤلاء الأسرى المغاربة. ومما أشار إليه إبن جبير ما نصه:(ومن جميل صنع الله تعالى لأسرى المغاربة بهذه البلاد الشاميّة الأفرنجيّة، أن كل من يُخرج من ماله وصية من المسلمين بهذه الجهات الشاميّة وسواها، إنما يعينها في إفتكاك المغاربة خاصة لبعدهم عن بلادهم، وأنهم لا مخلّص لهم سوى ذلك بعد الله عزّ وجّل، فهم الغرباء المنقطعون عن بلادهم. فملوك المسلمين أهل هذه الجهات من المسلمين، والخواتين من النساء، وأهل اليسار والثراء إنما ينفقون أموالهم في هذه السبيل). وعن دور السلطان نور الدين زنكي في هذا المجال، قال إبن جبير (وقد كان نور الدين، رحمه الله، نذر في مرض أصابه، تفريق أثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة، فلما شفي من مرضه أرسل في فدائهم، فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة. وكانوا من جملة عمالته، فأمر بصرفهم وإخراج عوض منهم من المغاربة. وقال: هؤلاء يفكهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم، فأنظر إلى طيف صنع الله تعالى لهذا الصنف المغربي). وحول دور التجّار المسلمين في فك أسرى المغاربة، أشار إبن جبير إلى أنه (قيض الله لهم بدمشق رجلين من مياسر التجارة وكبرائهم وأغنيائهم المنغمسين في الثراء: أحدهم يعرف بنصر بن قوام، والثاني بأبي الدر ياقوت مولى العطافي، .... وقدرهما عند أمراء المسلمين والإفرنجيين خطير، وقد نصبهما الله عزّ وجّل لافتكاك الأسرى المغربيين بأموالهما وأموال ذوي الوصايا، لأنهما المقصودان بها، لما قد إشتهر من أمانتهما وثقتهما وبذلهما أموالهما في هذا السبيل. فلا يكاد مغربي يخلص من الأسر إلا على إيديهما ...).

   المسالة الثانية: رغبة المغاربة في طلب العلم، لهذا قدموا إلى بيروت وبلاد الشام ومصر. وقد دعا إبن جبير الشبان المغاربة القدوم إلى بلاد الشام طلباً للمعرفة والعلم. ومما جاء في دعوته: (فمن شاء الفلاح من نشأة مغربنا، فليرحل إلى هذه البلاد، ويتغرب في طلب العلم، فيجد الأمور العينات كثيرة: فأولها فراغ الباب من أمر المعيشة، وهو أكبر الأعوان وأهمها، فإذا كانت الهمة، فقد وجد السبيل إلى الإجتهاد، ولا عذر للمقصر إلا من يدين بالعجز والتسويف، فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه، وإنما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيشة بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي، فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فأدخل أيها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والإنفراد قبل علق الأهل والأولاد، ويقرع من الندم على زمن التصنييع ...).

ومن هنا ندرك لماذا يتباهى البيروتي بأنه من اصل مغاربيّة وذلك لسببين رئيسيين: إسهامه في الجهاد، وطلب العلم الشريف. هذا وقد إستمرت الهجرة المغاربيّة إلى بيروت وبلاد الشام في العهدين المملوكي والعُثماني، فضلاً عن موجات مغاربيّة واضحة المعالم في القرن العشرين لا سيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانيّة، خاصة مع الفرق الفرنسيّة القادمة إلى البلاد السوريّة.