التبادل الحضاري بين المغرب والأندلس

من جهة وبين بلاد الشام من جهة ثانية

 يظن البعض بأن الهجرة المغربيّة والأندلسيّة إلى بلاد الشام ومن بينها بيروت قد ابتدأت بعد سقوط الأندلس عام 1792م. وإن كانت هذه الهجرة قد تزايدت بعد هذا الحدث إلى مصر وبلاد الشام، غير أن هجرة المغاربة مع إخوانهم المشارقة إنما كانت قديمة، وتعود بجذورها إلى القرن الأول الهجري ـ السابع الميلادي لا سيما بعد إستقرار المسلمين في المغرب والأندلس، فقد حدثت موجات من التفاعل والتبادل الحضاري والعلمي والإجتماعي والسياسي والديني بين المغرب والأندلس من جهة، وبين مصر والحجاز والعراق وبلاد الشام من جهة أخرى. ولا نغالي إذا قلنا أن المؤثرات المتبادلة بين الأندلسيين والمغاربة ابتدأت منذ أيام الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك (صقر قريش) مؤسس الدولة الأمويّة في الأندلس. ومما نظمه الأمير عبد الرحمن متشوقاً إلى بلاد الشام مبدياً حنينه إليها:

أيها الراكِبُ الميُممُ أرضـي      أقر من بعضي السلامُ لبعضي

إن جسمي كما علمتَ بأرضِ   وفؤادي ومالكيهِ بـــأرضِ

ولما نقل عبد الرحمن الداخل أشجار النخيل من الشام وزرعها في الأندلس، أثار منظر النخيل في نفسه الحنين للشام مجدداً فنظم شعراً بالمناسبة جاء فيه:

تبدت لنا وسطُ الرِصافةِ نخلــةٌ     تنائت بأرضِ الغربِ عن بلدِ النخلِ

فقلتُ: شبيهي في التغربِ والنوى  وطولُ إبتعادي عن بني وعن أهليِ

نشأتِ بأرضِ أنت فيها غريبــةٌ    فمثلكِ في الإقصاءِ والمنتأى مثـلي

ونظراً لأهمية المؤثرات الشاميّة في الأندلس والمغرب، باتت العديد من الملامح فيهما تتشابه مع الملامح الشاميّة. ومن هنا قول الجغرافيين العرب: بأن الأندلس شاميّة في هوائها وشاميّة في حياتها. وبهذا يقول المقري في (نفح الطيب) : (الأندلس شاميّة في طيبها وهوائها وشاميّة في حياتها، يمينيّة في اعتدالها وإستوائها).

ويذكر الأمير شكيب أرسلان في كتابه (الحلل السندسيّة في الأخبار والآثار الأندلسيّة) في الجزء الأول من هذا الكتاب نقلاً عن الشقندي:(غرناطة، دمشق بلاد الأندلس ومسرح الأبصار، ومطمع الأنفس ... وغرناطة من أحسن بلاد الأندلس وتُسمى بدمشق الأندلس، لأنها أشبه شيء بها ... ونزل بها أهل دمشق لما جاءوا إلى الأندلس لأجل الشبه المذكور).

ومن المؤثرات الشاميّة الواضحة الملامح في المغرب والأندلس المؤثرات الدينيّة، فقد رحل إليها العديد من العلماء في مقدمتهم فقيه أهل الشام صالح الخضر، وشيخ العرب القاضي مصعب بن عمران الحمداني، والقاضي معاوية بن طليح وسواهم الكثير. غير أن أهم أثر ديني إنتقل من بلاد الشام إلى المغرب والأندلس هو مذهب الإمام الأَوزاعي إمام أهل بيروت والشام المتوفى سنة 157هـ 774م وكان الأَوزاعي من المجاهدين المرابطين في بيروت المحروسة ضد البيزنطيين. ولهذا أهتم مذهبه بالتشريعات الجهاديّة وأحكام الحرب والجهاد. وهذه التشريعات، لا سيما في المراحل الأولى، كانت تناسب وضع المغاربة والأندلسيين.

ويذكر إبن حزم بأن أول من نقل مذهب الإمام الأَوزاعي إلى المغرب والأندلس هو الفقيه صعصعة بن سلام الشامي الأندلسي، وذلك سنة 150هـ، كما رحل من المغرب والأندلس في فترات لاحقة الكثير من طلاب العلم والفقهاء، قاصدين بلاد الشام منهم: الفقيه محمد بن وضّاح بن بزيبع المتوفى سنة 186هـ، والذي طاف في المغرب ودمشق والمدينة المنورة، ثم عاد إلى الأندلس وحدّث فيها.