نشط المرسلون الأميركيون في لبنان خاصة والمشرق العربي عامة، ورأوا الدخول في ميدان المنافسة مع بقية المبشرين الذين نشطوا في العهد العُثماني لا سيما في القرن التاسع عشر. وابتدأ الأميركيون بإنشاء مدرستين للبنات داخليّة وخارجيّة بين أعوام 1861-1866م، وتلقت البنات تعلّم اللغات العربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة والحساب والعلوم الطبيعيّة والتاريخ والرياضة البدنيّة، والأعمال المنزليّة، كما نشط البروتستانت الأميركيون بإنشاء مدرسة اللاهوت عام 1878م.

ومن الأهميّة بمكان القول، أن أهم ما قام به البروتستانت (الإنجيليون) الأميركيون هو إنشاء (الكليّة السوريّة الإنجيليّة) في بيروت عام 1866م، يتلقى فيها الطلاب الدراسة لمدة أربع سنوات في ميادين الطب والصيدلة والعلوم والقانون.

وكان الدكتور القس دانيال بلس D. Bliss قد سافر إلى الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا خصيصاً لجمع الأموال لإنجاز هذا المشروع، حيث قضى في الخارج بين أعوام 1862-1866م. وبعد جمع الأموال اللازمة، منحت حكومة ولاية نيويورك الكليّة السوريّة الإنجيليّة الترخيص اللازم بإنشاء الكليّة في 14 أيار عام 1866م. وفي الوقت نفسه أصدرت الدولة العُثمانيّة فرماناً تمّ بموجبه الترخيص للكليّة للعمل، وأعفتها من الضرائب على عقاراتها وأبنيتها والمواد التي تستورها من الخارج، باعتبار الكليّة وقفاً خيريّاً بروتستانتياً، وهي مؤسسة لا تتوخى الربح.

 القس الدكتور بلس

ومن الملاحظ أن الكليّة لم تمارس نشاطها التعليمي في سنواتها الأولى في رأس بيروت، بل استأجر بلس وفان ديك منزلاً في منطقة زقاق البلاط تعود ملكيته للحاج عبد الفتاح آغا حمادة (الإسكندراني الأصل)، متسلم بيروت في عهد إبراهيم باشا 1831-1840م، ومن بعده أيضاً. وقد تمّ إفتتاح الكليّة في الثالث من كانون الأول عام 1866م بخطبة دينيّة من رئيسها الأول بلس.

ومن أوائل المدّرسين في الكليّة:

·       الشيخ ناصيف اليازجي (اللغة العربيّة)

·       المعلم أسعد الشدودي (الرياضيات والعلوم)

·       الأستاذ لويس الصابونجي (اللغتين التركيّة واللاتينيّة)

·       الأستاذ جون فريزر (اللغة الإنجليزيّة)

·       الأستاذ موريس فرن (اللغة الفرنسيّة) 

وكانت الكليّة قد بدأت بتدريس الفلسفة والعلوم والفنون. ومن أهدافها العلميّة والدينيّة والسياسيّة نشر العلوم، ونشر المذهب البروتستانتي في لبنان وبلاد الشام ومصر، والعمل للسياسة الأميركيّة في المنطقة، فكانت مؤسسة علميّة وتبشيريّة في آن معاً، خاصة وأن المسؤولين فيها قد أقاموا بقربها بناية خصصت لتكون مدرسة للاهوت تهدف إلى تخريج مبشرين وقساوسة لنشر البروتستانتيّة حتى بين المسيحيين أنفسهم.

لقد أقنتع العديد من اللبنانيين بهذه المؤسسة التربويّة، بدليل عثور الدكتور حسّان حلاق في وثائق وسجلات المحكمة الشرعيّة في بيروت على وقفيّة للخواجه ميخائيل بن يونس الغرزوزي، هي بمثابة ثلاث قطع أرض سليخ في محلة الطنطاس في رأس بيروت قدّمها للكليّة السوريّة الإنجيليّة في عام 1286هـ 1869م وأشترط الواقف بناء مدرسة لتعليم مختلف أنواع العلوم والصناعات، وأن تضمّ طلاباً من مختلف الطوائف ودون تمييز، وعلى أن يكون الواقف عليها القس دانيال بلس ومن يأتي من بعده.

وفي عام 1870م تمّ تخريج الدفعة الأولى من الطلاب، وكان في مقدمتهم:

·       يعقوب صرّوف

·       إبراهيم خير الله 

·       قيصر غريّب

·       نعوم مغبغب

·       إبراهيم مصوِّر 

وفي 7 كانون الأول عام 1871م احتفلت الكليّة بوضع الحجر الأساسي لمبنى الكولدج هول (برج الساعة)، الذي إنتهى العمل ببنائه عام 1873م، وحينها إنتقلت الكليّة من زقاق البلاط إلى رأس بيروت.

وفي هذه الفترة أشرف على الكليّة مجلس أمناء مركزه نيويورك، أما في بيروت فقد تألف مجلس عمدة من مرسلين ومبشرين أميركيين وبريطانيين يقطنون بيروت وجبل لبنان وسوريا وفلسطين ومصر، من بينهم : دانيال بلس(الرئيس)، روبرتسون(نائب الرئيس)، وهاي(القنصل الأميركي في بيروت)، أما الأعضاء فمنهم: طومسون، فان دي ، جسب، دودج، بوست، بلاك، برغستوك، هيد، دنيس، كما وجد بعض الأعضاء من لبنان والخارج.

والحقيقة، فإن هذه الكليّة، لم تقصّر في أدائها التعليمي بالنسبة لمختلف الطلاب، كما أنها في الوقت ذاته لم تقصّر في رسالتها التبشيريّة والدينيّة، بدليل توجيه إنتقادات إلى نشاطها التبشيري سواء من المسلمين أم من المسيحيين (غير البروتستانت) كما وجهت بعض الصحف، ومن بينها (المقتطف) نقداً لاذعاً للكليّة عام 1885م لاستبدالها اللغة العربيّة باللغة الإنجليزيّة، ولتعصبها الأميركي، وللاهتمام بأبناء الأساتذة الأميركيين، دون بقيّة الطلاب.

وبالرغم من أنها أميركيّة، غير أن الدولة العُثمانيّة لم تقفل أبوابها أثناء الحرب العالميّ الأولى1914-1918م خاصة عندما أعلنت الولايات المتحدة الأميركيّة وقوفها ضد الدولة العُثمانيّة، إذ أستطاع رئيسها آنذاك هوارد بلس إقناع العُثمانيين بأن الكليّة هي مؤسسة تربويّة تعليميّة لا علاقة لها بالسياسة وبالنشاط العسكري، ثم تقرّب من القادة العُثمانيين وفي مقدمتهم القائد أنور باشا والقائد جمال باشا لتجنب إنتقامهما.

هذا وقد شهدت الكليّة السوريّة الإنجيليّة تطوراً بارزاً بعد الحرب العالميّة الأولى حيث أزداد عدد كلياتها وتطور عدد طلابها، والتحق بها طلاب من مختلف الطوائف اللبنانيّة، ومن مختلف المناطق العربيّة والأجنبيّة، فضلاً عن وجود المطبعة الأميركيّة، ومكتبة من أهم المكتبات في المنطقة العربيّة، كانت وما تزال تضمّ أهم وأنفس المخطوطات والمصادر والمراجع بمختلف العلوم واللغات، وكان للجامعة أيضاً الفضل في تأسيس مرصد الجامعة الشهير الذي ما يزال يؤدي دوره العلمي حتى اليوم بعد أن إنتقل من مكانه الرئيسي إلى حيث هو اليوم بمحاذاة البحر.