سمير باسيلي ...
سمير وليم باسيلي ـ أول جاسوس يجند أباه للموساد

"عندما تخمد نبضات الحب صريعة الكبت .. والمعاناة .. والشجن، وتحترق الأعصاب فيرتجف الجسد رجفة الجوع... ينهار الجبان ويصير شبحاً بلا معالم.. فيسترخص الثمين بلا ندم ..

وعندها ... فهو لا يتورع أن يبيع الجذور بدريهمات . ويهون عليه بيع الأهل .. والأبناء .. والوطن ... !!"

السر العظيم

عندما ورط إبراهيم شاهين زوجته انشراح وأولاده الثلاثة... ودفعهم بحماس للتجسس لصالح الموساد.. لم يكن دافعه الانتقام منهم.

كذلك هبة سليم... التي جرجرت خطيبها المقدم فاروق الفقي للخيانة العظمى.. بالرغم من علمها أنه يحبها لدرجة الجنون.. لم يكن دافعها الانتقام منه.

أما جاسوس الإسكندرية... السيد محمود... الذي احتال على شقيقه أمين المجند بالقوات المسلحة... وأغرقه في أموال الموساد... فهو أيضاً لم يكن يقصد الانتقام منه.

لكن سمير وليم فريد باسيلي... كان يختلف كثيراً عن هؤلاء وغيرهم... إذ دفع بوالده – عن عمد – إلى وكر الجاسوسية ... للانتقام منه... وتشفياً به... وورطه في عمليات تجسس لحساب إسرائيل ... انتهت بمصير مهلك لكليهما.

كيف حدث ذلك... ؟

علماء النفس تحيروا... ووقفوا عاجزين أمام أحداث القصة المؤسفة.. وفشلوا تماماً في تحليل شخصية الابن المجرم... كما فشلوا من قبل مع إبراهيم وانشراح ...الذين قال عنهما أستاذ علم النفس النمساوي "فردريش يوجان":

"أعتقد أنهما مصابان بمرض "الجنون ذي الوجهين Folie a double forme ".. وهو مجموعة أعراض إكلينيكية قوامها خفض نغمة المزاج الوقتي LOWERING OF MOOD – TONE وصعوبة التفكير الذي يغلفه القلق وتسلط الأفكار ... وتهيج بعض الأحزان والهموم ...

ولأن حالة سمير باسيلي حالة فريدة من نوعها... خضعت للعديد من التحليلات النفسية ... وضعته في النهاية في مصاف المرضى .. وصنفه "يوجان" على أنه "الدوني السيكوباتي التكوين CONSTITUTIONAL PSYCHOPATHIC INFERIOR " ... والسيكوباتي هو دائماً في حالة توتر... لا يستفيد إلا قليلاً جداً بالخبرة أو العقاب... ولا يدين بأي ولاء حقيقي لأي مبدأ أو جماعة.

فلنقرأ معاً تفاصيل قصة سقوط سمير باسيلي... ولا نتعجب لتحورات النفس البشرية وتقلباتها... فتلك قضية شائكة معقدة .. ذلك لأن النفس البشرية سر لا يعلمه إلا خالقها سبحانه وتعإلى.

على مقهى برنسيس

حصل سمير على الثانوية العامة بصعوبة شديدة عام 1960 وتوقف عن إكمال دراسته بأحد المعاهد. فالأب ... كان بخيلاً شديد البخل... شرس الطباع في معاملته لأبنائه... لا يترك قط مساحة ضئيلة من التفاهم تقربهم منه، وكره سمير في أبيه سلوكه فأدمن الخروج من المنزل والسهر مع أصحابه... ولم تنطفئ برغم ذلك حرائق الصدام مع والده. لذلك فكر في السفر إلى ألمانيا بعدما ضاقت به الحياة وعضه الجوع.

وعندما عرض الأمر على أبيه لم يسلم من تهكمه وسخريته اللاذعة... وذكره بالفشل الذي أصبح سمة من سمات شخصيته.. رافضاً بشدة إمداده بنفقات السفر رغم توسط بعض أفراد الأسرة.

استدان سمير من أصدقائه ووجد نفسه فجأة على مقعده بالطائرة في طريقه إلى ألمانيا، يتنفس الصعداء ويلعن الفقر... ويسب والده الذي حطم كل الآمال لديه فأشعره باحتقاره لنفسه.. ودونيته.. وبث بأعماقه شعوراً مخجلاً بالضعف والحقارة.

لقد كان يبخل عليه بأبسط بوادر الحنان والأبوة... وحرمه الحب... فعاش معه مزوياً بلا هدف أو كيان. وأخذ سمير يجتر ذكرياته المرة مع والده البخيل .. الذي دأب على تسميم بدنه ليل نهار بالسباب والحط من شأنه... وتحريض أمه على طرده من المنزل كلما عاد متأخراً وحرمانه من العشاء والهدوء... مما أثار شجن الشاب الممزق.. وكثيراً ما كان يسأل نفسه أهو ابن شرعي لهذا الرجل أم لقيط وجدوه على الرصيف.

تحركت به الطائرة على الممر.. وقبل أن ترتفع مقدمتها عن أرض المطار... أخرج سمير منديله وبصق على معاناته وآلامه وحظه، وكأنه يبصق على كل ما يذكره بأيامه الكئيبة. وظل يسرح طوال رحلته في خيال جميل أفاق منه على صراخ عجلات الطائرة وهي تنزلق على أرض مطار ميونيخ. وشرع من فوره في محاولة تحقيق الحلم... فاتصل بمعارفه هناك لمساعدته.. وسريعاً حصل على وظيفة معقولة بشركة سيمونز الشهيرة فعاش حياة رائعة لم يكن خياله يقوى على وصفها أو يتخيلها.

مرت الأسابيع والشهور وفتانا منهمك في عمله لا يبغي سوى جمع المال... وبدأ رويداً رويداً في استطلاع الحياة الجديدة... التحرر الصاخب الذي يغش المجتمع من حوله... وساعده المال الذي ادخره على المغامرة... فانغمس في عالم آخر بعدما ضعف أمام إغراء المدينة الساحرة.. بحر هائج من اللذات لا ينتهي مد موجه أو يخمد.. أفرغ بين ضفتيه حياته السابقة لا يكاد يفيق من نشوته وسكرته إلا ويعود أكثر شراهة وطلباً.

ضمن له مرتبه الكبير التكيف مع حياته الجديدة... ولأنه فقد هويته – أراد أن يرسم لنفسه هوية جديدة ابتدعها هو ... وهيأت له الظروف خطوطها لخدمة أحلامه وطموحاته. وتبلورت شخصيته الجديدة على مقهى برنسيس حيث الخمر والرقص والنساء.

وذات مساء وكان الزحام على أشده جلس بجواره رجل أنيق ودار حديث بينهما وفهم سمير أن نديمه ينتظر صديقته التي جاءت تخطر كظبي رشيق نفر الجمود والوخم .. وصاح "هاتز مولار" ينادي على صديقته "جينفيف يارد" في ترحاب زائد .. وعرفها على سمير باسيلي الذي غاص في الذهول والمفاجأة.

كانت أنوثتها الطاغية تقتل، وصدرها العاري ترتج لمرآة الخلايا، وسيقانها المرمرية المثيرة تُطيّر العقل.

وعندما قامت للرقص معه .. حرقته نيران الجسد... وألهبته أنفاسها وهي ترسل تنهداً تسلل إلى عقله فأوقفه ودمر مقاومته.. وكانت يداها كالقيد تطوقان رقبته تماماً كالقيد الذي كبل به مصيره ومشواره المقبل. وعندما صحبها هانز وخرجا لم يستطع سمير صبراً.. فلاحقهما بسيل من الاتصالات التليفونية تعمدا ألا يردا عليها لبعض الوقت... إلى أن أوشك الشاب العاشق على الجنون... فدعاه "هانز" إلى شقته وجاءت "جين" كفتنة تتحرك فتتحرك معها الرغبات وتثور معلنة عن نفسها.

ترك هانز الشقة إثر مكالمة تليفونية وتمنى سمير لحظتئذ لو منحها كل غال لديه للفوز بقطرة واحدة من شهد أنوثتها.. ولكن عندما أفاضت عليه بكئوس من النشوة خارت إرادته... وود لو لم يفق من سكرته إلى الأبد.