الجاسوس محمد إبراهيم كامل الشهير بماريو

اصطادته زينب لحبل المشنقة في مصر
 الجاسوس محمد إبراهيم كامل الشهير بماريو
بداية لا بد منها

سؤال محير مازلنا نبحث عن إجابته .. وننقب بين الصفحات لعلنا نعثر على تعليل منطقي يحل هذا اللغز الشائك .. لماذا الاسكندرية؟

عشرات من الجواسيس الخونة أنجبتهم المدينة الجميلة فعاشوا تحت سمائها واستنشقوا نسائمها وتمددوا على شواطئها الباسمة وبذرت بداخلهم فجأة بذور الخيانة ... فمدت جذورها تقتلع الحب الخصيب وتغتال خلايا الانتماء؟؟..

لماذا..؟!!

عشرات الملفات من حولي عن جواسيس الإسكندرية .. كلما قرأت سطورها توجتني الدهشة ولا أجد إجابة شافية عما يدور بخلدي من تساؤلات. فالاسكندرية تختلف كثيراً عن كل مدن مصر ... وتتميز عنها بتنوع مصادر الرزق ووفرتها... سواء أكانت مشروعات إنمائية وصناعية مصرية .. أو شركات أجنبية متعددة كلها خلقت مهناً جديدة فتحت مجالات أوسع للاسترزاق والتعيش. ولا يمكننا بأي حال أن نقارن بينها وبين مدينة العريش مثلاً... التي برغم احتلالها عام 1967 ومعاناة أهلها من جراء تحكم المحتل وتضييق منابع الرزق .. إلا أن جواسيسها الذين عملوا لصالح العدو – اضطروا – بسبب الضغوط المادية والمعنوية إلى السقوط ... تدفعهم مشاكل لا قبل لهم بها.

هؤلاء الجواسيس يقل عددهم كثيراً عن جواسيس الإسكندرية... بل إن جواسيس العريش لم ينفذ حكم الإعدام إلا في قلة منهم أشهرهم على الإطلاق إبراهيم شاهين زوج انشراح موسى ... بينما نجد ملفات الجاسوسية في الإسكندرية تحف بعشرات القضايا التي انتهت غالبيتها بإعدام الخونة .. فتتفوق بذلك عن سائر مدن مصر بما فيها القاهرة. وهذا أمر يدعونا للبحث عن جذور الجاسوسية في الإسكندرية ... وعمقها داخل البنية الاجتماعية التي اختلت بعد النكسة عام 1967.. وأيضاً نتيجة لعدم مواكبة ركب حضارة أشرقت علاماته.. ودوت بيارقة لتهرب أحاجي التخلف وأسانيده.

وفي هذا الفصل نكتب عن جاسوس الإسكندرية "ماريو" أو "محمد إبراهيم فهمي كامل" الذي يعد من أشهر عملاء إسرائيل في مصر الذين يتم تجنيدهم بسهولة يكاد العقل لا يستوعبها أو يصدقها. وأيضاً كانت قصة سقوطه في قبضة مخابراتنا أكثر سهولة .. أما نهايته البشعة فلم يكن ليصدقها هو أو يتخيل خطوطها السوداء...

جذور متآكلة

منذ تفتحت عيناه على ضجيج الحياة في حي محرم بك المزدحم ذاب عشقاً في جرس الترام ... الذي كلما ملأ أذنية خرج إلى الشرفة يبتسم في انبهار وحيرة .. فنشأت بينه – منذ طفولته – وبين الترام قصة غرام دفعته للهرب من مدرسته ... والسعي وراءه راكباً لجميع خطوطه المختلفة ومحطاته.

ولم يدم هذا الحب كثيراً إذ اندفع فجأة نحو السيارات فالتصق حباً بها ... والتحم عقله وقلبه الصغير بموتور السيارة مستغرقاً وقته كله.. حتى أخفق في دراسته الابتدائية... وأسرعت به خطاه إلى أول ورشة لميكانيكا السيارات يمتلكها إيطالي يدعى الخواجة "روبرتو" الذي اكتشف هذا الحب الجارف بين الولد والموتور فعلمه كيف يتفاعل معه؟! ويفهمه ويستوعبه. ولم تكد تمضي عدة أشهر فقط إلا وكان محمد أشهر صبي ميكانيكي في ورشة الخواجة روبرتو.

كانت السيارات تقف موازية للرصيف بجوار الورشة بأعداد كبيرة... تنتظر أنامل محمد الذهبية وهي تداعب الآلة المعدنية الصماء... وتمر بين أجزائها في تناغم عجيب فتعمل بكفاءة ويتحسن صوت "نبض" الموتور .. ويزداد الصبي شهرة كل يوم. ورغم محاولات البعض استدراجه واستثمار خبرته وشهرته في عمل ورشة "مناصفة" بعيداً عن روبرتو، أجبروا على أن يتعاملوا معه كرجل لا كصبي في الخامسة عشرة من عمره. وكثيراً ما كان ينزعج عندما كان يخرج إلى الكورنيش مع أقرانه بسبب توقف السياراة ودعوة أصحابها له ليركب حتى منزله، فكبرت لدى الصبي روح الرجولة وارتسمت خطوطها المبكرة حيث كان مبعثها حبه الشديد للعمل والجدية والتفكير الطويل.

وبعد عدة سنوات كانت الأحوال والصور قد تغيرت.

صار الصبي شاباً يافعاً خبيراً بميكانيكا السيارات. تعلم اللغة الإيطالية من خلال الخواجة روبرتو والإيطاليين المترددين على الورشة وأصبح يجيد التعبير بها كأهلها.. فأطلق عليه اسم "ماريو".

وعندما لسعته نظرات الإعجاب من "وجيدة".. دق قلبه بعنف وانتبه لموعد مرورها أمام الورشة حين عودتها من المدرسة. فواعدها والتقى بها ولم يطل به الأمر كثيراً... إذ تقدم لأسرتها وتزوجها بعدما اقنعتهم رجولته وسمعته الحميدة وشقته الجميلة في محرم بك.

ثمانية أعوام من زواجه وكانت النقود التي يكسبها تستثمر في ورشة جديدة أقامها بمفرده. ومنذ استقل في عمله أخذ منه العمل معظم وقته وفكره حتى تعرف على فتاة قاهرية كانت تصطاف مع أهلها بالإسكندرية وأقنعها بالزواج.. ولأنها كانت ابنة أسرة ثرية فقد اشترى لها شقة في الدقي بالقاهرة وأثثها.. وأقام مع عروسه "تغريد" لبعض الوقت ثم عاد إلى الاسكندرية مستغرقاً في عمله متنقلاً ما بين وجيدة وتغريد ينفق هنا وهناك. وعندما توقف ذات يوم على الطريق الصحراوي بالقرب من الرست هاوس بجوار سيارة معطلة... أعجبته صاحبة السيارة ودار بينهما حوار قصير... على أثره ركبت معه السيارة الرائعة إلى القاهرة .. وفي الطريق عرف أنها راقصة مشهورة في شارع الهرم .. لسهر معها في الكباريهات وتنقل معها هنا وهناك... ثم جرجرته معها إلى شقتها...واعترف ماريو أن هذه الراقصة كانت أول من دفعه والخطوة الأولى نحو حبل المشنقة... ويقول في اعترافاته التفصيلية... (يتبع)

الجسد ينادي

في تلك الليلة شربت كثيراً وكلما رأيت جسد الراقصة المثير يرتعش أمام الزبائن ترتعش في جسدي خلجات الرغبة، وبعدما انتهت من فقراتها الراقصة في أربعة كباريهات ... عدنا إلى شقتها في المهندسين وبدلاً من أن أنام أو أذهب لشقتي حيث تنتظرني تغريد ... وجدتني أطوق خصرها بشدة وأطلب منها أن ترقص لي وحدي، فأبدلت ملابسها وعادت لي بلباس الرقص الشفاف الذي سلب عقلي وأفقدني الصواب.

وذهبت إلى تغريد التي وجدتها تشتاق إلى جيوبي قبلما تشتاق إلي .. فافتعلت مشاجرة معها وعدت ثانية إلى الراقصة التي استقبلتني فرحة .. ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أكاد أفارقها أو أبتعد عنها لأواصل عملي في الوشة.

لقد استعنت ببعض الصبية الذين دربتهم على القيام بالعمل بدلاً مني .. فكنت أتغيب لعدة أيام في القاهرة وأعود لأجمع ما ينتظرني من مال لديهم ... وسرعان ما أرجع لأنفقه على الداعرات والراقصات ... ونساء يبعن بناتهن ورجال يبيعون لحم زوجاتهم من أجل جنيهات قليلة.

ولأن للفلوس مفعول السحر فقد كنت أعامل كملك ... لأنني أصرف ببذخ على من يحطن بي من فتيات ونساء أشبعنني تدللاً ... وصورنني كأنني الرجل الأول لديهن، فأطلقت يدي ومددتها إلى مدخراتي في البنك شيئاً فشيئاً حتى أصبح رصيدي صفراً وتحولت الورشة إلى خرابة بعدما سرق الصبيان أدواتها وهرب منها الزبائن.

حاولت أن أثوب إلى رشدي وكان الوقت قد فات، وخسرت سمتي بعدما خسرت نفسي... وأصبحت مصاريف وجيدة وتغريد تمثل عبئاً قاسياً على نفسي وأنا الذي لم يعضني الجوع أو تثقلني الحاجة من قبل ... فتألمت لحالي وقررت أن أخطو خطوة سريعة إلى الأمام وإلا ... فالمستقبل المجهول ينتظرني والفقر يسعى ورائي بشراسة ولا أستطيع مجابهته.

تشاو .. تشاو .. تشاو ..

استخرجت جواز سفر وحصلت على عناوين لبعض زبائني القدامى في إيطاليا وركبت السفينة الإيطالية "ماركو" إلى نابولي... وبعدما رأيت أضواء الميناء تتلألأ على صفحة المياه صحت بأعلى صوتي تشاو .. تشاو نابولي.

وفي بنسيون قديم حقير وقفت أمام صاحبه العجوز أسأله هل زرت مصر من قبل؟ فقال الرجل لا ... ضحكت وقلت له أنني رأيتك في الاسكندرية منذ سنوات فجاءتني زوجته تسبقها حمم من الشتائم قائلة:

Ø     ماذا تريد أيها المصري من زوجي؟ أتظن أنك فهلوي؟ انتبه لنفسك وإلا ... ففي نابولي يقولون: إذا كان المصري يسرق الكحل من العين .. فنحن نسرق اللبن من فنجان الشاي. وكان استقبالاً سيئاً في اول أيامي في إيطاليا.

في اليوم التالي حاولت أن أتعرف على السوق وبالأخص أماكن بيع قطع الغيار المستعملة ... ولكن صديقاً إيطالياً توصلت إليه أخبرني أن في "ميلانو" أكبر أسواق إيطاليا للسيارات القديمة والمستعملة ... وثمنها يعادل نصف الثمن في نابولي. فاتجهت شمالاً إلى روما وقطعت مئات الكيلو مترات بالقطار السريع حتى ميلانو .. وبالفعل كانت الأسعار هناك أقل من نصفها في نابولي.. والتقيت في ميلانو بأحد زبائني القدامى الذي سهل لي مهمتي... ولفت انتباهي إلى أماكن بيع منتجات خان الخليلي في ميلانو بأسعار عالية.

ابتعت طلباتي من قطع غيار سيارات الفيات 125 غير المتوافرة في السوق المصرية وعدت إلى الإسكندرية وخرجت من الجمرك بما معي من بضائع بواسطة زبائني الذين يعملون في الدائرة الجمركية .. وقمت ببيع قطع الغيار بأضعاف ثمنها وذهبت إلى خان الخليلي واشتريت بعضاً من بضائعه وسافرت مرة ثانية إلى إيطاليا... واعتدت أن أنزل ببنسيون "بياتريتشي" في روما ثم أتجه إلى ميلانو لعدة أيام .. أنجز خلالها مهمتي وأعود ثانية إلى روما ونابولي ثم إلى الاسكندرية.

اعتدت السفر كثيراً وبدأت الأموال تتدفق بين أصابعي من جديد .. واتسعت علاقاتي بإيطاليين جدد بالإضافة للأصدقاء القدامى الذين يكنون لي كل الود.

وفي ذات مرة وبينما كنت في خان الخليلي أنتقي بعض المعروضات التي أوصاني صديق إيطالي بشرائها... سألتني فتاة تبيع في محل صغير عما أريده .. وساعدتني في شراء بضائع جيدة بسعر رخيص وتكررت مرات الذهاب للشراء بواسطتها ولما عرفت أنني أسافر إلى إيطاليا بصفة مستمرة عرضت علي أن تسافر معي ذات مرة... لتشتري سيارة فيات مستعملة لتشغيلها تاكسياً في القاهرة. واطمأنت "زينب" وهذا هو اسمها – عندما أخبرتها أنني أعمل ميكانيكياً وأقوم بالإتجار في قطع الغيار. وتركتها لتجمع المبلغ المطلوب ثم أرسل لها من إيطاليا لأنتظرها هناك.

أراد أصدقائي الإيطاليين أن أظل بينهم وأمارس عملاً ثابتاً أحصل بمقتضاه على إقامة في إيطاليا. وقد كان... إذ سرعان ما وجدوا لي عملاً في شركة "راواتيكس"... وبعدما حصلت على تصريح عمل وإقامة .. لم تتوقف رحلاتي إلى الاسكندرية ... فالمكسب كان يشجع على السفر بصفة مستمرة لكي أعرف احتياجات سوق قطع غيار السيارات في مصر ... والذي كان يمتصها بسرعة فائقة.

وفي إحدى هذه السفريات وبينما كنت في مطار روما تقابلت بالصدفة مع صديق إيطالي قديم – يهودي – كانت بيننا "عشرة" طويلة واسمه "ليون لابي" فتبادلنا العناوين، وبعد عدة أيام جاءتني مكالمة تليفونية منه وتواعدنا للقاء في مطعم مشهور في ميلانو.

أشفق "لابي" كثيراً على حالي بعدما شرحت له ظروفي وتعثراتي المالية وزواجي من امرأتين ..

وسألته أن يتدبر صفقة تجارية كبيرة أجني من ورائها أموالاً طائلة ... فضحك "لابي" وقبل أن يقوم لينصرف ضربني على ظهر يدي وقال لي:

"لا تقلق ماريو ... غداً سأجد لك حلاً، لا تقلق أبداً".