نايف المصطفى ... الذي أعدمه السجناء... !!

كان يشعر بأنه كالموجة ضعيف ... بلا وطن... ففكر كيف يتمحور ...يتشكل ... ويصطخب على ألا ينكسر ... تمنى أيضاً أن يتوحش ... وتكون له أنياب الأسد.. وأذرع الأخطبوط... وسم الأفعوان..

كان قزماً يحلم بأن يتعملق ... كالكيكلوبس ... الذي فرك سفينة أوديسيوس بأصابعه ... !!

القتل في المهد

الفشل في الحب مأساة، قد تدفع بالمحبين إلى قمة النجاح، أو تهوي بهم إلى حضيض المعاناة والسقوط. ويختلف مسلك المحبين في مواجهة الحقيقة، فالبعض إما ينتحر، أو يجن، أو ينعزل، أو يسامح، أو قد يفكر بالانتقام.

أمراض عديدة متباينة، لكنها طبيعية في حالات الضعف الإنساني وخور الإرادة. أما الغير طبيعي، أن يتحول الفشل في الحب إلى ثورة نم الجنون واليأس، تدفع إلى تدمير الذات، واسترخاص بيع الوطن إلى الأعداء، فهذا هو المثير، والغريب، والمدهش.

وفي عالم المخابرات والجاسوسية، هناك حالات عديدة لفاشلين في الحب، بسبب العوز المعيشي، اندفعوا يبحثون عن الثراء، فباعوا المبادئ والوطن، انتقاماً من الفقر والظروف، والمعاناة.

إنها حالات مرضية شاذة، حار علماء النفس في تفسيرها... !!

* * * * *

انتهت مأساة سبتمبر 1970 الدامية في الأردن بتصفية المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل، واستراح الملك الخائف قانعاً بثبات عرشه طالما غادر الفلسطينيون مملكته، محتفظاً بقنوات اتصالاته السرية بالإسرائيليين، الذين استراحوا كثيراً من تهديد الفدائيين في جبهة حساسة، تعتبر امتداداً جغرافياً للمقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة. فمن بعدها... أصبح العمل الفدائي في الضفة محدوداً وشاقاً، وكان المكسب ثميناً لإسرائيل بلا شك، تقابله خسارة جسيمة للعرب، وهي تفكيك الجبهة الشرقية، وتركيز العدو على الجبهتين المصرية والسورية فقط.

ولما انتقلت فصائل المقاومة الفلسطينية إلى لبنان، اتفق كل من العماد إميل البستاني قائد الجيش اللبناني، وياسر عرفات، على تنظيم أسلوب التنسيق والتعاون. بحيث يتمركز رجال المقاومة في منطقة "العرقوب" بالقرب من الحدود السورية – اللبنانية – الإسرائيلية، ولهم مطلق الحركة في الجنوب اللبناني دون تمركز دائم فيه.

والجنوب اللبناني، يعتز أهله بإطلاق اسم "جبل عامل" على ديارهم... كما يعتزون بأنسابهم العربية الأصل،والتي تنحدر من أنساب قبائل يمنية ارتحلت بطون منها إلى جبال لبنان الجنوبية، فاستقرت وعمرت وأعمرت. والمعروف أن الصحابي الجليل "أبوذر الغفاري" كان قد نزل في قرى الجنوب وخاصة ضيعتي "صرفند" و "ميس الجبل".

ولما اقتلعت الهجمة الاستيطانية الصهيونية الشرسة، آلاف الفلسطينيين من ديارهم في شمال فلسطين، لم يجدوا أرحب من قلوب أبناء الجنوب، فأقاموا بينهم، واقتسموا وأياهم الخبز الأسود، ووطأة الاستغلال الطبقي والقهر الاجتماعي والسياسي، إلى أن وصلت طلائع الفدائيين الفلسطينيين، فأحدثت تحولات جذرية وعميقة في كل مجريات الحياة في الجنوب.

وكانت فاتحة عهد جديد، انعقدت فيه عرى علاقة تحالفية لا انفصام فيها بين الفلسطينيين و "العامليين"، أهل الجنوب، إذ تشكلت على الفور قواعد العمل الثوري ضد العدو، وأصبح الجنوب وحدة قاعدة انطلاق الفدائيين، وتسللهم لضرب العدو داخل حدوده في تصعيد دائم لا يتوقف، سبب صداعاً مزمناً لإسرائيل.

لقد انتشر الفدائيون في كل القارات يضربون مصالح إسرائيل ويتصيدون رجال مخابراتها، ويخطفون الطائرات المدنية لإنقاذ زملائهم من الأسر، كما تسابقوا للعمل الفدائي لنسف أحلام العدو في الهيمنة والأمن والاستقرار والتوسع، فكانت الضربات الفدائية بحق موجعة ومؤثرة، ضربات متتالية لا تنقطع ولا تخيب، لفتت انتباه العالم إلى وجود شعب مطارد وأرض مغتصبة، وجيل من الشباب متعطش للشهادة في سبيل قضيته، فاندفعت مخابرات إسرائيل تبحث عنهم وتتعقبهم، وترصد تحركات قادة العمل الثوري في كل مكان. وتضاعفت ميزانية أجهزة المخابرات الإسرائيلية للإنفاق على ضرب المقاومة وإسكاتها في مهدها واستقطاب بعض الخونة وضعاف النفوس من بين أهل الجنوب اللبناني، وداخل صفوف المقاومة نفسها، والصرف عليهم ببذخ ليكونوا أداة طيعة وعيوناً على الفلسطينيين... وجرى البحث عن هؤلاء الخونة الذين تراودهم أحلام الثراء، فيهون عليهم بيع الوطن والشرف.

وكان تحت المجهر "نايف المصطفى" ابن الجنوب... وهو شاب عضه الفقر، ومزقه حب بلا أمل، قادته أحلام الثراء ورغبة الانتقام إلى الوقوع في شركة الجاسوسية.

البوسطجي العاشق

تتعاقب السنون وتتبدل الوجوه والأحوال، إلا نايف، فلم يزل يدفع بدراجته المتهالكة كل صباح عبر التلال والمدقات... يحمل البريد إلى الضياع والدور المتناثرة فوق السفوح، وفي المساء يرجع مهدوداً معفراً يخنقه الزهق... فينفض عنه وساخاته ويخرج ... تقوده قدماه إلى حيث يرى منزلها من بعيد، ويتنسم رائحتها عبر الهواء المار بشرفتها، فيستريح وينام قرير العين، مطمئن الفؤاد، يسترجع في خياله لحظة اللقاء الأول، ورعشة الحب التي تشبه دبيب نمل بأوصاله.

كان يسلمها رسالة من عمها، فرآها جميلة أكثر مما رآها من قبل وهتف:

Ø     إلى هذا الحد نضجت الصبية؟

يا لفوران بنت الخامسة عشرة التي استغلق عليه الكلام أمامها.

Ø     ست من السنوات تفصل بيننا، يا الهي ... هل تعرف نظرات العشق طفلة؟..

ومن يومها .. ظل يمني النفس بالفوز بها... ويبحث كل يوم عن خطابات من عمها ليحظى برؤيتها، أو يلمس أناملها الرقيقة الناعمة. وأخيراً تحين الفرصة عندما استوقفته تسأله عن "بريد" فاندفع اليها ملسوعاً بلهيب الشوق وصارحها بحبه...ففرت وجلة من أمامه.

لحظتئذ، زغردت حياته وانتشى عمره:

Ø     هكذا تفعل العذاراوات عندما يغزوهن إطراء الحبيب وعبارات الغزل.

عامان والبوسطجي العاشق يلهث وراء محبوبته، فما نال منها سوى ابتسامات خجلي، حيية... ولملم جرأته أخيراً... وقرر زيارة والدها ليخطبها، وكان اللقاء عجيباً:

Ø     عمي عدنان ...        
هه

Ø     كرمال قيمتك يا عمي ...

Ø     خبرني عما بتريد

Ø     لا تهيبني ... الله معك ...

Ø     شو .. الحين لسانك عطلان وبالشارع فلتان؟

Ø     يا عمي، بدي ... أ ... أ ...

Ø     يا أزعر..

Ø     معي ألف ليرة ... و ...

Ø     فصين مخي ورمانين ... عمي عدنان كرمال قيمتك ... لا تهيبني ... معي ألف ليرة ... شو عم تحكي؟ إنشالله نيتي خير ... بدي ... أ ...

Ø     ولشوهالفرك... ؟ حكي.

Ø     أخطب فاطمة.

Ø     "صارخاً": إنشلح مخك يا خرفان ... شو عم بتنعوص؟ ... وزاع البريد يزوج فاطمة؟ ... شو يصير حالها .. تاكل مظاريف ... ؟ بيظهر تركب وراك الدراجة المسخسخة تمرقوا عالبيوت... كرمال قيمتك يا عمي ... (!!)، تفو عليك شو نيتك عاطلة!

Ø     يللي نيته عاطلة تقلب عليه.

Ø     صار لازم تفرجينا عرض كتافك يا مسيو ... ألف ليرة (!!!).

خرج نايف ينزف ألماً وكراهية لفقره، ولوظيفته، ولوالد فاطمة الذي أهانه وطرده، فالأربعمائة ليرة – راتبه في مصلحة البريد – لا تكاد تكفي معيشته، وقد أورثه والده خمسة أفواه تلوك أضعاف راتبه لو شاءت ... ياله من ميراث ثقيل !!.

جرجر معاناته تصحبه أينما حل، إذ اندثر بداخله أي أمل في فاطمة، ولكن برغم احساسات يأسه فقد ظل حبها يثور كالبركان، يضرب جذور وعيه بلا رحمة، ويغوص في عمق أعماقه، فيلتهم الصبر منه ويغتال الحبور.

فكر بالسفر إلى الخليج لجلب مهرها، وداعبته كثيراً آمال الهجرة إلى وطن آخر، وكان كالبحر الشاسع موجاته حيرى بلا وطن، تتكسر على صخور الشط، لتنقسم رذاذات شتى، تذوب وتنهمد.

وأحس كأنه ضعيف كالموجة ففكر كيف يتمحور، يتشكل، ويصطخب على ألا ينكسر، وتمنى أن يتوحش، وتكون له أنياب الأسد، وأذرع الأخطبوط، وسم الأفعوان... أو يكون عملاقاً مرعباً كالكيكلوبس الذي فرك سفينة أوديسيوس باصابعه .

أحلامه طالت، وطالت، وبقي في النهاية عاجزاً أمام فقره لا حل لدحره... أو الفكاك من أحلام يقظته. فغاص في أوهامه مستغرقاً حتى النخاع.