أمير الظلام

أمير الظلام

لم يبقَ للرجل الملقب بـ (أمير الظلام) إلا دقّ رأسه في الحائط ، بعد أن صعقه الخبر الذي تلقّاه للتو ، و هو مقتل أحد أكفأ رجاله على يد مقاوم فلسطيني .

كان (أمير الظلام) أو (الرجل الغامض) أو (الرجل الظل) كما تسميه الصحف ، يتربع على رأس جهاز (الشاباك) ، ومن يحتل هذا المنصب يكون لديه صلاحيات واسعة ، و منها اتخاذه للقرارات بمفرده ، و عادة ما يكون رأيه في القضايا الأمنية ملزماً لحكومته ، و لكن من جانب آخر فإنه يتحمّل مسؤولية كلّ ما يحدث في الجهاز الذي يترأسه ، و كل خطأ يرتكبه أي من رجاله فإنه يتحمل المسؤولية الكاملة عنه .

و في ذلك الصباح ، لم يكن أمير الظلام قد تناول قهوته بعد ، عندما دق هاتفه الخاص و حمل له نبأ مقتل أحد أكفأ رجاله .

و لم يكفِ سيل السباب و الشتائم التي أطلقها في الهواء لكي تهدّئ من روعه ، لأنه كان يعرِف معنى أن يقتَل أحد رجاله بتلك الصورة التي حدثت ، و يعلم أن قيادته السياسية ستحمّله المسؤولية المباشرة عن ذلك و ربما سيفقد منصبه و ينهار مستقبله المهني في الجهاز الذي حقّق نجاحات كبيرة في عهده ضد المقاومين الفلسطينيين .

و كان عليه وسط همومه و غضبه أن يتصل برئيس وزرائه بواسطة الخط الساخن بينهما فوراً و كذلك إبلاغ وزير الحرب و قائد الجيش و قادة فروع أجهزة المخابرات الأخرى ، كجهاز الموساد المناط به العمليات الخارجية .

ولم يكن يدرك بعد و هو يقوم بمهمة الإبلاغ ، كيف حدثت بالضبط عملية قتل ضابطه ، و لم يكن يعرف بالطبع أن عملية القتل تقرّرت في ذلك اليوم الذي عاد فيه عامل فلسطيني إلى منزله يحمل في قلبه و عقله مأساة شعبه .

حسن و ابنته ميرفت

عاد الشاب حسن أبو شعيرة إلى بيته في مخيم (بيت جبرين) للاجئين الفلسطينيين في مدخل مدينة بيت لحم الشمالي و هو فرح ، رغم أنه كان منهكاً بسبب عمله الشاق في أحد الفنادق .

كان حسن بسيطاً في تعليمه و معيشته ، و كذلك كان ذكياً و حساساً جداً لمعاناة أهله و شعبه ، خصوصاً و أنه يعيش في مخيم للاجئين ، و مثلما جاء أبواه من قرية (بيت نتيف) قرب مدينة (الرملة) الفلسطينية ، بعد أن احتلها الصهاينة و شرّدوا أهلها عام 1948م و الذي يسمّيه الفلسطينيون و العرب و الأحرار في العالم عام النكبة ، التي أقيمت فيه دولة (إسرائيل) على أنقاض الشعب الفلسطيني ، فإن جميع أهالي المخيم جاءوا من قرى هدمها المحتلون بعد اقتحامها و قتل العشرات من سكانها المدنين العزل ، و خصوصاً من قرية (بيت جبرين) التي جاء منها معظم سكان المخيم و الذي سمّي المخيم باسمها ثم أطلق على المخيم اسم (مخيم العزة) .

كان حسن يرى و يسمع و يشعر بمعاناة أهله في المخيم الذي ولد فيه عام 1969م و في المدن و القرى المجاورة ، و نشأ و هو يرى جرائم المحتلين الصهاينة فانضمّ إلى المقاومة عام 1985م و نتيجة لذلك اعتقله المحتلون و زاده السجن إصراراً على مواصلة النضال ، فعندما خرج منه شارك مجموعات المقاومة في مخيمه في الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987 - 1992م) و تكرّرت تجربة السجن معه ، و في انتفاضة الأقصى التي بدأها الشعب الفلسطيني في 28/9/2002م ، كان حسن ضمن مجموعات العمل العسكري السري ، و شاهد كيف ارتكب المحتلون الصهاينة جرائم قتل للأطفال و الشيوخ و الرجال بدم بارد ، مثلما حدث مع الشهيد الطفل محمد الدرة الذي قتل و هو يحاول الاحتماء بحضن أبيه ، والطفل مؤيّد الجواريش الذي قتله قناص صهيوني بينما كان يحمل حقيبته المدرسية على ظهره فتناثر مخه على دفاتره المدرسية .

وعندما عاد حسن مساء ذلك اليوم إلى منزله ، حدثته ابنته ميرفت كيف سقط مؤيّد بين أيدي أصدقائه الأطفال في نهاية يوم دوام مدرسي ، و نقل مصوّروا وكالات الأنباء العالمية صور مؤيّد إلى أنحاء العالم ، و لكن هذا العالم بقي نائماً عن مأساة الفلسطينيين .

ولم يحرّك هذا العالم ساكناً ، حتى عندما خرج الطبيب الألماني فيشر من منزله ليلاً ليسعف مصابين فلسطينيين فقصفته المروحية العسكرية الصهيونية أمام منزله ولم يعد لأطفاله وأبنائه الذين كانوا ينتظرونه، و مثلهما الكثير من الشهداء .

ومن الصعب على حسن أو على غيره من الفلسطينيين أن ينسوا ليلة القصف المخيفة تلك ، التي ذهب فيها الدكتور (فيشر) إلى غير عودة ، كانت مروحيات الاحتلال تطلق النار على كل شيء متحرك .

وفي الصباح ، ذهب حسن إلى منزل الدكتور فيشر ، مثلما فعل المئات من المواطنين ، كانت رائحة الدم المختلط مع التراب تزكم الأنوف ، في المكان الذي سقط فيه الدكتور فيشر بينما كانت إحدى القطط ، غير عابئة بحركة المواطنين ، تضع قطعة صغيرة من اللحم في فمها و تركض بها إلى الحقول المجاورة لتنضم إلى قطط أخرى كانت تفتّش بحاسة الشم عن قطع أخرى تناثرت من جسد الطبيب الذي قطّعته القذيفة الصهيونية إلى أشلاء يصعب حصرها .

كان منزل الدكتور ذي الطابقين يعجّ بالمواطنين ، و كانت زوجة الدكتور جالسة ترتدي ملابس سوداء وسط النساء ، تحاول أن تتماسك أمام أبنائها ، بينما كانت مجموعات النساء تشدّ من أزر الزوجة و الأبناء .

وبعد أن قام بواجب العزاء ، خرج حسن من المنزل ، و على الدرج سمع إحدى النساء تقول لامرأة أخرى :

Ø     هذا قدرنا ؟ ماذا نفعل ؟ يجب أن نقبل به .. !

ولم يقبل حسن على نفسه أن يجلس يندب قدره و حظّه و هو يرى جبروت الاحتلال الصهيوني بينما أشقاؤه العرب و المسلمون و العالم كله لا يحرّك ساكناً ، ففكّر بكيفية مواجهة المحتلين المدجّجين بالأسلحة الحديثة و التكنولوجيا خصوصاً تلك التي تأتيهم من أمريكا ، و رغم أنه أدرك صعوبة ذلك إلا أنه قرّر أن يفعل شيئاً ، و قال لنفسه : "لن أكون بأقل من الشهداء غيري الذين قاوموا ظلم الاحتلال طوال عشرات الأعوام" .

وهداه تفكيره إلى خطة بدت جنونية و هدف منها ليس فقط المشاركة في المقاومة بل الانتصار على الجيش الصهيوني الذي يقول عنه الصهاينة إنه جيش لا يقهر ، و أكثر من هذا قرّر الانتصار على المخابرات الصهيونية التي تعدّ من أقوى مخابرات العالم ؟ فهل سينتصر فعلاً ؟ .

كما قلنا عاد حسن فرحاً إلى المخيم حيث يسكن و دخل منزله ، و رغم أن زوجته أدركت بأنه فرحٌ إلا أنها أبدت استغرابها عندما رأته ساهماً و هو يحتضن ابنته ميرفت بعد أن سألها عن مدرستها ، و لم تشأ زوجته أن تضايقه بإلحاحها و أسئلتها فتركته على سجيّته و قالت في نفسها :

Ø    "الله يحميه و يحمي جميع الشباب من البطش الصهيوني" .