كلير فيليبس..

عملت بالمقاومة والتجسس لتنتقم لزوجها من اليابانيين

لم تكتف بنقل الأسرار بل قامت بتحليلها ببراعة

قررت السيدة كلير فيليبس أن تحارب اليابانيين بكل ما تملك من قوة بعد أن علمت أن زوجها قد وقع في الأسر، وأن اليابانيين قد حبسوه في أحد معسكرات الاعتقال في الفلبين، وقامت برهن وقيل ببيع مجوهراتها لتمول نادياً ليلياً جعلته مقراً للتجسس ضد العدو الياباني، وقد ألقي القبض عليها، ولكن بعد أن نجحت ولفترة طويلة في تزويد الأميركيين بأخطر الأسرار عن الجيش الياباني وتحركات قواته وخططه، وعذبت في السجن ولكنها احتفظت برباطة جأشها ولم تنبس ببنت شفة عن الحلفاء.

والسؤال المحير، هل الحقيقة أغرب من الخيال.. إذ كيف استطاعت سيدة من ضواحي مدينة بورتلاند الأميركية بولاية أوريجون، وهي سيدة ريفية ساذجة، أن تتحول ليس إلى جاسوسة فحسب، بل وأن تقود حركة مقاومة كبرى من حيث الحجم والدقة، وبأسلوب الجاسوس المتمرس؟.

في عام 1941 وشبح الحرب يلوح في أفق المحيط الباسفيكي حملت السيدة كلير حقيبتها بيد وبالأخرى ابنتها الصغيرة، وغادرت الولايات المتحدة الأميركية على أمل العمل بفرقة غنائية راقصة في مانيلا عاصمة الفلبين، وقوبلت بالترحاب لما كانت تتمتع به من جمال أخاذ وصوت شجي، وسرعان ما التقت بضابط من مشاة البحرية الأميركية أعجب بها وتحول الإعجاب إلى حب انتهى بزواج عوضها عن زوجها الراحل.

وعندما نشبت الحرب بين الحلفاء ودول المحور وانطلقت الشائعات بأن اليابانيين قادمون وأن من يقع في أديهيم من المدنيين الأميركيين سيودع السجون والمعتقلات، اتخذت كلير لها هوية جديدة، وأشاعت أنها أصلاً فلبينية من أصل إيطالي وأطلقت على نفسها اسم (دوروثي فيونتيس).

في شباط 1942 بدأ الغزو الياباني للفلبين ولم يدم القتال طويلاً إذ احتل اليابانيون كل الجزر الرئيسية في الفلبين، وعلمت كلير أن زوجها قد تم أسره من قبل القوات اليابانية، وأودع أحد معسكرات الاعتقال فقررت أن تنتقم له، وأن تفعل ما في وسعها لمحاربة هؤلاء المحتلين، وهداها تفكيرها إلى إقامة مرقص أو ناد ليلي خاص بها، وقامت ببيع كل ما كانت تملك من مجوهرات، ومع ما وفرته من مال اشترت لنفسها مرقصاً بدأ يؤمه الضباط اليابانيون ولم يخطر ببال اليابانيين أن صاحبته أميركية الجنسية بالميلاد، فقد كانت بشرتها تميل للسمرة، وكان شعرها الأسود يعزز روايتها بأنها إيطالية الجنسية متزوجة من فلبيني وكان للإيطاليين مكانتهم الخاصة لدى اليابانيين، إذ كانت إيطاليا حليفاً لليابان وألمانيا في الحرب، وكانت الفكرة الأولى التي خطرت على بال كلير أن تستغل ما تكسبه من مال في دعم المقاومة الأميركية في ريف مانيلا، وفي تخفيف معاناة الأسرى الذين كانوا يموتون بسبب سوء التغذية مثل زوجها فيليبس، وقهر السجون اليابانية، حيث كانوا يضعون فيها الأسرى في حفر تحت الأرض حتى يصابوا بالجنون أو يلقوا حتفهم.

كان النادي الليلي الذي اشترته كلير يحمل اسماً خاصاً بصاحبه، فغيرت الاسم إلى (نادي توسو باكي) وكان يعني باللغة الفلبينية كاميليا ـ أي زهرت الكاميليا ـ وباليابانية (الغالي، النفيس)، وكان جناحها الخاص بالنادي يطل على الميناء، ولم يخطر ببال كلير أن هذا الموقع يمكن استغلاله إلا عندما تغيرت خطتها في كيفية محاربة اليابانيين، وحدث هذا التغيير عندما علمت بأن زوجها قد لقي حتفه بعد أن اضطره اليابانيون إلى سلوك الطريق إلى (باتان) في مسيرة طويلة كان يطلق عليها (مسيرة الموت)، وجاءت الفكرة أصلاً من القائد الياباني (هوما) في شهر آذار عام 1942 عندما اكتشف أن عدد الأسرى من الجنود الفلبينيين والأميركيين يتزايدون وأنه لا مأوى لهم في مانيلا، فقرر أن يسيروا على الأقدام إلى معسكر (باتان) الذي يبعد عن العاصمة الفلبينينة حوالي 100 ميل، وكان القادة اليابانيون يعتقدون أنها مسافة قصيرة يقطعها جنودهم عادة في بضعة أيام، ولكن اليابانيين جهلوا أو تجاهلوا أن الأسرى منهم الجرحى والمرضى، وقد بدأوا يقدمون لهم منذ كانون الثاني 1942 نصف مخصصاتهم من الطعام، ووفقاً لقوانين اليابانيين الخاصة بالأسرى فإن الجندي ما أن يقع في الأسر حتى يصبح من حق المنتصر أن يفعل به ما يشاء، وكانوا يضربون الأسرى لحملهم على المسير، ويقتلونهم لأقل سبب فإذا وجد مع الأسير أي أشياء تذكارية يابانية فإنه يعدم مباشرة بحجة أنه لا بد أن يكون قد أخذها من جندي ياباني بعد أن قتله، وكانت المسيرة قد بدأت في العاشر من نيسان عام 1942، وكل من كان يسقط مريضاً في الطريق يطلق عليه الرصاص، وكانوا يضعون الأسير المتمرد تحت وهج الشمس دون ماء أو طعام أو خوذة فإذا طلب الماء أعدم، وكان بعض الجنود ينامون فوق أجساد الموتى من زملائهم عندما يجيء الظلام ويسمح لهم بالرقاد، وكانت الرحلة تستغرق أسبوعاً، وفي مرات نادرة كانوا يسمحون للجنود بحمل جرحاهم، وكان فيليبس أحد ضحايا (مسيرة الموت) أو شهر الموت بسبب سوء التغذية، وبدأت كلير العمل كجاسوسة إضافة إلى جهدها في المقاومة، وقررت أن تستدرج كبار الضباط اليابانيين إلى ناديها الليلي وتوفر لهم كل سبل الراحة من عناء الحرب أو وعثاء السفر، وكانت تغريهم ومن يتعاون معهم، بالبوح بأسرار تحركات قواتهم ولو على سبيل التباهي بقوة الجيش الياباني وذكاء القادة، وكانت الرقصات والعروض الراقصة تسحر اليابانيين فيفرطون في الشرب ثم تبدأ ترثرة لا تنتهي، وأصبح هذا مصدراً للمعلومات، وكانت كلير تنقلها لوحدات المقاومة’ وكانت هناك كتيبة من فرقة الكشافة الفلبينية المعروفة يقودها نقيب أميركي تعمل كوحدة مقاومة في الجبال المحيطة بالعاصمة الفلبينية مانيلا ولديها أجهزة إرسال، وأصبح جنود هذه الكتيبة ينتظرون المعلومات التي تقدمها لهم الجاسوسة كلير كل ليلة، لينقلوا للحلفاء تحركات السفن اليابانية من الميناء وحركات الجنود، وأطلقت الوحدة على الجاسوسة كلير لقب (الجيوب العالية)، لأنها ـ كما قيل ـ كانت حين تتلقى نقوداً في الملهى لقاء خدمات تضعها في جيب عالٍ في الفستان الذي كانت ترتديه وهي تدير المرقص، وشكلت كلير شبكة جاسوسية وأصبحت تبعث برسائلها السرية إلى وحدة الكشافة في الجبال بواسطة من جندتهم من الرجال والنساء لهذا الغرض. وكانت تضع كل رسالة داخل موزة ثم تغلقها من جديد، وكان حمل هذه الفاكهة أمراً طبيعياً، ولكن غير الطبيعي هو ما كان بداخلها، واشتهر الملهى الليلي وازداد عدد اليابانيين، وبدأت تحصل على معلومات غاية في السرية، وتحلل بعض المعلومات وتبعث بها إلى مخابرات الحلفاء عند الجبل لتُنقل للقيادة، ومما نقلته أن اليابانيين يستخدمون سفن الصليب الأحمر لا لنقل الجرحى بل لنقل الجنود، كما نقلت لهم أن حاملات طائرات يابانية تحرسها مدمرات تترك الميناء إلى جهة ما، وكان تحليلها أنها جميعاً في طريقها إلى (جزر سليمان)، واكتشف الحلفاء فيما بعد أن تحليلها كان صحيحاً، وكانت تبلغهم أولاً بأول عن النشاط العام في الميناء، مشيرة إلى عدد السفن التي وصلت وتلك التي غادرت الميناء والفترة التي استغرقتها صيانة هذه السفن الحربية، وكانت حين تحصل من بعض عيونها على معلومات باللغة الفلبينية تترجمها مباشرة وتبعث بها، ولم تترك رغم نشاطها التجسسي عملها الآخر في تزويد الأسرى بالكينين لمعالجة الملاريا، وبالطعام والفواكه وحتى بالرسائل التي تصلهم من ذويهم، ورغم أنها لم تكن تستطيع إنقاذ كل الأسرى فقد استطاعت أن تنقذ الكثيرين رغم ما في هذا العمل من خطورة، وقد كتب لها أحد الأسرى رسالة جاء فيها.

(لقد عدت بفضلك للحياة من جديد، وقد رفعت من روحنا المعنوية، وإذا كان بعضنا يستحق الأوسمة فأنت الأولى بها، وكنت أتمنى أن تري الفرحة على وجوه الأسرى الذين أقعدتهم جراحهم عن الحركة)، وكانت مهمة الجاسوسة كلير جد خطيرة وتعتمد على السرية وإخلاص المتعاونين معها وقليل من الحظ، وظلت لعام ونصف العام محظوظة لا تثير الشبهة، وكانت تعتمد لضمان وصول الطعام والأودية للأسرى على رشوة الحراس اليابانيين، وحين أحست بأن الشكوك بدأت تساور البعض فكرت في أخذ صغيرتها كما فعلت ذات مرة إلى الجبال حيث كانت آنذاك قريبة من معسكر زوجها، ولكنها تذكرت كيف أن الصغيرة قد أصيبت هناك بالملاريا كما أنها شعرت بأن الحلفاء من جهة، والأسرى من جهة أخرى في أمس الحاجة إليها، وقررت في شجاعة أن تبقى وتستمر في أداء مهمتها برغم كل المخاطر.

في اليوم الثالث والعشرين من شهر أيار عام 1944 تم إلقاء القبض على أحد الرجال الذين كانوا يشكلون حلقة صلتها بالأسرى، ويبدو أنه حين تعرض للتعذيب ذكر اسمها خلال الاستجواب، ولم تمض ساعات حتى أقبل أربعة من عتاة الجنود اليابانيين، وشعرت حين رأتهم بأنهم يتأبطون شراً، وكانت قد احتاطت للأمر بوضع ابنتها مع إحدى الأسر الصديقة، واقبلوا تجاهها وبنادقهم مصوبة نحوها ثم اتهموها بالتجسس لصالح الحلفاء واقتادوها خارج المرقص، وبدأ بعد ذلك استجوابها على الطريقة اليابانية المعروفة آنذاك (العصا والجزرة).

كان اليابانيون يعرفون اسمها الرمزي (الجيوب العالية)، وبدأوا ينادونها بهذا الاسم الرمزي، وقرأوا عليها رسالة كانت قد بعثت بها إلى القسيس الملحق بالسجن وأوهموها بأنهم يعرفون كل ما قامت به من عمليات سرية، وسألوها عن معنى كلمة (Cal) وأخبرتهم بصراحة أنها اختصار لكلمة (كالامان) (calman)، وتعني بالفلبينية (برتقال) وسألوها عن كلمة (داما جانة) (Damijahn) التي وردت في رسالتها للقسيس وأخطرتهم بأنها تعني زجاجة كبيرة لحمل العصير للأسرى، ولم يصدقوها وبدأو في تعذيبها كي تعترف، وكانت تقول وهي تصيح انظروا لمعناها في القاموس، ولكنهم ظلوا يضربونها وحين أغمي عليها لجأوا للقاموس الإنجليزي الياباني فوجدوا الكلمة كما قالت، وبعثوا بها إلى السجن ثم أيقظوها للاستجواب، وفي النهاية وضعوا رأسها فوق قطعة خشب ورفع السياف سيفه عالياً ثم توقف قبل أن يجهز به على عنقها مؤكداً لها أنه يصدقها لأن من يكذب في مثل هذا الموقف كان دائماً يعلو صراخه خوفاً من الموت، ولكن الاستجواب رغم ذلك استمر حتى اضطرت في اليوم الثاني من تشرين الثاني عام 1944 للاعتراف بالتجسس وقدمت بعد ذلك للمحاكمة وحكمت عليها ا لمحكمة بالإعدام، وألقيت في سجن مظلم في انتظار موعد تنفيذ الحكم، وفي اليوم التالي وقفت أمام محكمة عسكرية ووجدت مذنبة بارتكاب أفعال سرية تضر بالإمبراطورية اليابانية وصدر الحكم هذه المرة بالسجن عشرين سنة.

في العاشر من شباط 1945 استسلم اليابانيون وتولى الأميركيون قيادة السجن الذي كانت به كلير وأطلقوا سراحها، وأسرعت إلى ابنتها، وغادرت الفلبين بلا رجعة وعادت إلى مسقط رأسها بمدينة بورتلاند.

في عام 1947 كتبت الجاسوسة كلير قصتها في كتاب (التجسس في مانيلا) وفي عام 1951 تسلمت كلير (وسام الحرية)، وكانت أول امرأة في أميركا تتلقى هذا الوسام بناء على توصية الجنرال (دوجلاس ماكارثر) واصطف حرس الشرف لاستقبالها حين حطت بها الطائرة في مطار (لاجارديا)، وقدم لها الرائد كينيث بورج باقة ورد، إذ كانت سبباً في إطلاق سراحه من الأسر بمعلومة بعثت بها للمخابرات عن مكانه، فجاء يرد الجميل لمن أنقذت حياته.
وفي عام 1951 شهدت الجاسوسة كلير فيلماً سينمائياً عن قصة حياتها بعنوان (كنت جاسوسة أميركية was an American spy!) وتوفيت الجاسوسة كلير بعد ذلك بتسع سنوات، البطلة التي خاطرت بحياتها لإنقاذ الأسرى، ومدت الحلفاء بأخطر الأسرار.