بسم الله الرحمن الرحيم

حتى أوائل القرن التاسع عشر كانت مدينة بيروت تتابع دون أي ملل حياتها الرتيبة العادية تحت أقبية التقاليد المتوارثة منذ مئات السنين، ولا تحاول أو تفكر بالخروج إلى فضاء الحضارة الحديثة التي إنتهت إليها الأمم الأوروبيّة بعد أن نفضت عن كاهلها أثقال التخلّف الذي ناءت تحت وطأته خلال العصور الوسطى المُظلمة.

ولعل أول إحتكاك مباشر بين المجتمع البيروتي وبين الحضارة الأوروبيّة بعد الحروب الصليبيّة هو الذي تمّ بشكل عرضي ومحدود في أوائل القرن السابع عشر وذلك في أيام الأمير فخر الدين المعني الذي إستقدم بعض المهندسين والخبراء الزراعيين من توسكانة بإيطاليا لبناء قصوره، وتطوير الزراعة في لبنان، بالإضافة إلى البعثات الدينيّة النصرانيّة التي سمح لها بمزاولة نشاطها في بيروت على أثر عودته من إيطاليا التي إختارها لإقامته الإضطراريّة خلال فترة الجفاء الذي حصل بينه وبين السلطات العُثمانيّة. بيد أن الإحتكاك الحضاري الذي حصل بين البيروتيين وبين الأوروبيين يومذاك لم يكن عميقاً ولم تتجاوز مدته حياة الأمير المذكور. فلما أُعدم هذا الأمير سنة 1634م في إسطمبول بتهمة التواطؤ مع الأجانب لإقتسام سوريا بينها وبينه، والإنفصال عن الدولة العُثمانيّة، إنقطعت الصلة المباشرة بين هذه المدينة وبين العناصر الأوروبيّة، وعاد البيروتيون للتقوقع في مدينتهم والإستسلام إلى غيبوبة الماضي والقناعة بما كانوا عليه من التقاليد والعادات التي ألفوها عن آبائهم وأجدادهم.

وهكذا، فإنه بعد عهد الأمير فخر الدين تقلص ظل الحضارة الأوروبيّة عن أفق الشرق العربي وإنحسرت نهائياً عن الحياة البيروتيّة موجة التفاعل مع الغرب دون أن تخلّف وراءها أي أثر ظاهر لا سيما في الميدان العلمي على رغم رسوب بعض المؤسسات الكنسيّة الغربيّة في هذه المدينة التي أفادت من رحابة صدر الأمير المعني وبقيت تمارس طقوسها الدينيّة ولكن دون أن يتاح للمشرفين عليها أن يمدوا رواقهم الفكري بين البيروتيين.

على أن الإحتكاك الحضاري بين الشرق العربي وبين أوروبا ما لبث أن بان قرنه مرة أخرى من جديد في سنوات الهزيع الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي وذلك عندما حطت جيوش نابليون بونابرت رحالها في أرض مصر وهي في طريقها إلى بلاد الهند سنة 1798م. وهذه الحملة العسكريّة التي قادها هذا الإمبراطور الفرنسي المغامر على الشرق، لم تقف آثارها عند الوقائع الحربيّة فقط، بل إنها تجاوزت هذه الوقائع إلى مستويات أخرى بالنسبة إلى البلاد التي كانت ميداناً لرحى القتال في ذلك الحين. وإن العلماء الإجتماعيين يعتبرون الحملة الفرنسيّة المذكورة منطلقاً ومنعطفاً جديداً وحماساً في تاريخ الشرق العربي، وبداية لحركة تغيير شاملة في حياة سكانه، وإنتقال هؤلاء السكان من أجواء الماضي السحيق إلى مستقبل جديد بكل معطيات هذا الإنتقال ومفاهيمه الحضاريّة من الناحيتين الماديّة والنفسيّة، وبكلمة أخرى فإن هؤلاء العلماء يصفون تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في مصر بأنه تاريخ دخول الشرق العربي في العصر الحديث.

وبالفعل، فإن الإحتكاك العسكري المباشر بين القوى المتحاربة في مصر وسوريا دفع أبناء هذين القطرين إلى الإنخراط في معالم الحياة الأوروبيّة على وجوهها المختلفة، ذلك أن وجود الجيوش الفرنسيّة ومن رافقها من العلماء، في القطر المصري بشكل خاص، أدى إلى بزوغ نهضة متعددة الجوانب في هذا القطر وذلك من خلال الصحف التي أصدرتها والمطابع التي أسستها والمنشآت الصناعيّة التي أقامتها. ولما إنسحب نابليون من مصر وسوريا على أثر الهزيمة النكراء في عكا على يد أحمد باشا الجزار ثم آل الحكم في هذين القطرين إلى محمد علي باشا وإبنه إبراهيم باشا، إتسع إشعاع هذه النهضة بفضل هذين الحاكمين، فلقد بادر محمد علي باشا إلى إيفاد البعثات الدراسيّة إلى أوروبا، هذه البعثات التي أصبح أعضاؤها رواد حركة الترجمة والتأليف والتعليم ليس في مصر وحسب بل وفي الشرق العربي كله، كما أن ولده إبراهيم باشا بعث في سوريا التي إستمرت ولايته فيها من سنة 1831م إلى سنة 1840م حركة تنظيميّة وعلميّة كبيرة أصابت منها بيروت بالذات حظًّا ملحوظاً.

وجدير بالذكر أن تداخل الحياة الأوروبيّة بالحياة الشرقيّة وتفاعلهما معاً بلغا في هذه الفترة حداً بالغاً من التأثير في المجتمع العربي سواء في مصر أو في سوريا، لا سيما إذا علمنا أن البعثة التي أرسلها محمد علي باشا إلى أوروبا كانت تضم الرعيل الأول من أبناء العرب الذين قصدوا هذه القارة في طلب العلم، بل إن أفراد البعثة المذكورة كانوا أول من وطئت أقدامهم أرض القارة المذكورة من أبناء القطر المصري في أي غرض من الأغراض.

وقد ذكر العالم المصري جمال الدين الشيّال (بأننا لا نعلم مصريًّا زار أوروبا في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر).