الفصل الثاني 

بيروت أثناء الصراع بين العرب والروم

عندما أزاح العرب المسلمون الرومَ عن أرض الشام قبيل السنوات التي إنتصف بها القرن الهجري الأول، وارتفعت راية الإسلام فوق دمشق في أيلول سنة 635م على يد أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح وخالد إبن الوليد، إتجهت قوات إسلاميّة لإتمام بسط السلطة العربيّة على السواحل السوريّة تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان وأخيه معاوية، وقد استطاعت هذه القوات إتمام مهمتها العسكريّة دون أن تلقى مقاومة جديّة لا من الأهالي الوطنيين ولا من الروم الذين كانوا يحتلونها منذ دهر طويل.

وهكذا دخلت بيروت في حوزة العرب المسلمين من غير حرب ولا حصار بحيث لم تتحمل في عمرانها وسكانها ما يرهقها، أو يتسبب في إلحاق الأذى أو الضرر بقاطنيها، إلا أن الروم لم ييأسوا من استرجاع سلطانهم في هذه البلاد، ففي أواخر خلافة عمر بن الخطّاب وأوائل خلافة عثمان بن عفّان عادوا فوثبوا على السواحل السوريّة وغلبوا على بعضها، فتصدى لهم معاوية بن أبي سفيان، والي سوريا آنذاك، وأرغمهم على الانسحاب، ولما تمّ له ذلك بعد فترة من الحصار بادر إلى تحصين هذه المدن وشحنها بالحاميات العسكريّة للدفاع عنها ضد الاعتداءات المحتملة من قِبَل الروم.

بيروت في معاناة القرصنة

إن حركة التحرير التي إنطلق بها العرب تحت راية الإسلام عبر الجزيرة العربيّة وأدت إلى إجلاء الاحتلال الرومي عن بيروت لم تقنع الروم البيزنطيين باليأس من استعادة نفوذهم في هذه البلاد، فلقد واصل هؤلاء وثوبهم على السواحل السوريّة بين الحين والآخر في غارات قرصانيّة مستهدفين النزول في المدن الساحليّة بقصد النهب والسلب والتخريب وقتل من يصادفونه من سكانها المسلمين، كما لجأوا إلى تحريض غير المسلمين من هؤلاء السكان على الفتن وإثارة المتاعب بوجه السلطات العربيّة عن طريق مساعدتهم بالمال والعتاد، وكان المردة، أي الجراجمة، ينطوون على قابلية الاستجابة لهذا التحريض متأثرين بالقاسم الديني المشترك بينهم وبين الروم.

وعلى هذا، تكون بيروت قد تعرضت أيام المهدي العباسي في الربع الأخير من القرن التاسع الميلادي لغارة المردة التي انتهت بفشلهم وردّوا عن المدينة دون أن ينالوا منها بفضل تصدي الأمراء الأرسلانيين الذين كانوا آنذاك ولاة عليها من قِبَل الخليفة العباسي.

ولقد تكررت غارات القراصنة الروم على بيروت، وكان الغرض منها القيام بعمليات خطف المسلمين الذين ينفردون بهم على أطراف المدينة.

معركة بيروت على نهرها

واستمرت غدرات المردة يظاهرهم الروم ضد بيروت، فإن هؤلاء وأولئك كانوا يناوشون هذه المدينة بالقتال والعدوان كلما آنسوا في أنفسهم القدرة على بلوغ شواطئ هذه المدينة على متن مراكبهم التي أعدوها للقرصنة أو عن الطريق البريّة التي كان المردة يتسربون عبرها إلى مشارف البلد.

ويقول طنوس الشدياق : (إنه في سنة 875م 262هـ بنى الأمير النعمان داراً عظيمة في بيروت وحصَّن سور المدينة ... وفيها وقع بينه وبين المردة قتال عظيم على نهر بيروت دام أياماً حتى إنهزمت المردة، فقتل منهم بعضاً وأُسر بعضاً. وكتب إلى موسى بن بغا يخبره وأرسل إليه الرؤوس والأسرى إلى بغداد، وعرض إلى المتوكل (الخليفة العباسي) ذلك، فأكرم موسى رسله وسُرَّ بظفره، وكتب إلى المتوكل إليه كتاباً يمدح شجاعته ويحرضّه على القتال وأقرَّه على ولايته تقريراً له ولذريته وأرسل له سيفاً ومنطقة وشاشاً أسود ((كان من التقاليد المتبعة في أيام الخلفاء، لا سيما العباسيين والسلاطين المتفرّدين بالحكم في الولايات الإسلاميّة، إهداء كبار الولاة والقضاة وأمراء الجيش والوجهاء كسوة كاملة من الثياب عُرفت باسم "الخلعة"، وقد أنشأ العباسيون دوراً خاصة يخلع فيها على الوزراء يقال لها "باب الحجرة")) وكتب إليه أخوه الموفّق وغيره كتباً يمدحونه بها وأعاد رسله مكرَّمين، فتقلّد الأمير السيف وشدّ المنطقة ولف الشاش ودعا لأمير المؤمنين وزُيِّنت البلاد والمدن وهادته الشعراء بالتهاني، واشتدّ أمره وعظم شأنه).

معركة أخرى في بيروت

في أيام الأمير النعمان، عانت بيروت من غارة غادرة قامت بها سفن الروم من جهة البحر وقطعان المرتزقة المردة من جهة البر، وقد حدثنا طنوس الشدياق عن تفاصيل هذه الغارة بقوله :... سنة 915م قدمت سفن إفرنجيّة إلى رأس بيروت ونزل الملاحون إلى البرّ فسار إليها الأمير النعمان بشرذمة من رجاله، فأسر منهم ثمانية رجال وقتل ستة، ثم قدمت تلك السفن إلى الميناء ففاداهم على من أسروه من المسلمين، وكتب بذلك إلى الأمير تكين أمير دمشق ومعاملاتها، فاستدعاه إليه فذهب وحظي من بالإكرام، ويقول الأمير شكيب أرسلان إن الأمير النعمان دوّن في مذكراته أحداث هذه الواقعة، وكيف أن الأمير تكين استدعاه بسبب ذلك إلى دمشق وخلع عليه وكتب إلى الحضرة، أي العاصمة بغداد، فصدر التوقيع بالتشكر منه وأضيف له عمل، أي مدينة، صفد.

بيروت في معاناة جديدة

منذ أن أُخرج الروم من سوريا على يد القوات العربيّة خلال الفتوح الأولى في أواسط القرن السابع الميلادي، وهم يرنون بأبصارهم إلى استرجاع سيطرتهم على هذه البلاد، من أجل ذلك فإنهم والوا غاراتهم عليها بأنفسهم مباشرة بواسطة جيوشهم البريّة تارة ومراكبهم البحريّة تارة ثانية، وعندما كانوا يعجزون في هذه الوسيلة أو تلك، فإنهم كانوا يعمدون إلى تشجيع الحركات الداخليّة المناوئة للدولة العربيّة التي كان عملاؤهم المحليون يقومون بها بين الحين والآخر.

وفي غضون القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، إنتهزوا فرصة انهماك المسلمين في صراعاتهم الداخليّة الناتجة عن التناقضات العنصريّة والمذهبيّة في المجتمع الإسلامي آنذاك، وراحوا يواترون هجماتهم العدوانيّة على تخوم الدولة الإسلاميّة عبر الحدود العراقيّة والسوريّة، وبلغت هذه الهجمات ذروتها سنة 969م حين تمكّن إمبراطور القسطنطينيّة نقفور فكوس  Nicephorus Phocqs من الاستيلاء بعض الوقت على أنطاكية وحلب وألحقهما بإمبراطوريته.

وفي سنة 974م استؤنفت هذه الهجمات على يد إمبراطور بيزنطي آخر هو يوحنا زيميس   Zimiceالمعروف عند العرب باسم الشمشقيق الذي قام بحملة عسكريّة على سوريا وتمكّن من احتلال حمص ومنها إنتقل إلى وادي البقاع ثم احتل بعض المناطق الفلسطينيّة وانتشرت جيوشه في الساحل السوري وضيّق خناق الحصار على مدينة بيروت، وعندما تمكن من دخولها أباحها لجنوده الذين عاثوا فيها وأثخنوها بالنهب والتخريب والتقتيل واسترقوا أهلها بالسبي وذلك معاقبة لها على ما أبدته من صمود وشجاعة في مقاومته دفاعاً عن الدين والعرض والوطن، ولم يترك الشمشقيق بيروت إلا بعد أن جعل بنيانها قاعاً صفصفاً وسكانها شذر مذر بين قتيل شهيد أو نازح شريد.

الإفرنج يتواثبون على بيروت

بعد حوالي مائة سنة من انكفاء رياح الاعتداءات البيزنطيّة عن بيروت، هبت عليها رياح هوجاء كان مصدرها هذه المرة الممالك الإفرنجيّة في أوروبا التي تنادت للزحف على الشرق الإسلامي تحت شعار استنقاذ قبر المسيح من أيدي المسلمين.

ففي أواخر القرن الحادي عشر الميلادي بعث الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومينينوس النداء تلو النداء إلى صاحب النصارى في الحاضرة الفاتيكانيّة لدرء الخطر الذي شكله السلاجقة على الأراضي البيزنطيّة والعاصمة القسطنطينيّة بالذات.

وقد وجدت هذه النداءات في النتيجة أُذناً صاغية لدى البابا أُوربان الثاني، الذي ألقى في اليوم السادس والعشرين من شهر تشرين الثاني سنة 1095م خطاباً حماسيّاً شديد اللهجة في مدينة كليرمون فرّان بجنوبي فرنسا، مستنفراً الشعوب الأوروبيّة لانتزاع قبر المسيح من أيدي المسلمين، وما أن حلّ ربيع سنة 1097م حتى كان نحو 150 ألف محارب من الإفرنج والنورمان يحتشدون في قلب القسطنطينيّة استعداداً للزحف على البلاد السوريّة.

واندفع هذا الإعصار الصليبي الأوروبي مجتاحاً المدن الساحليّة الواحدة تلو الأخرى حتى وصل إلى مشارف بيروت في 19 نيسان سنة 1099م وضرب حولها الحصار بغرض احتلالها واستخلاصها من يد المسلمين، بيد أن هذا الحصار لم يكن طويلاً إذ أن الصليبيين كانوا يفضلون الانتهاء من القدس قبل أي مدينة أخرى، فاكتفوا بالحصول على بعض الهدايا التي قدمها لهم البيروتيون فداءً عن مدينتهم، وهكذا فإن الصليبيين لم يتعرضوا بسوء لأهل بيروت.

تجدُّد الغارات على بيروت

وفي سنة 1100م كانت المنطقة المحيطة ببيروت مسرحاً لمعركة ضارية بين الجيوش الصليبيّة المتجهة إلى فلسطين وبين القوات الإسلاميّة التي كان لواؤها معقوداً لوالي بيروت من قِبَل العبيديين واسمه سعد الدولة الطواشي، وعندما تحدث ابن الأثير عن هذه المعركة في جملة الأحداث التي وقعت سنة 1100م نقل إلينا قصة طريفة وقعت للحاكم المذكور الذي مات على النحو الذي تنبأ له به المنجمون، قال ابن الأثير : ... كان الأفضل أمير الجيوش بمصر قد أنقذ مملوكاً لأبيه لقبه (سعد الدولة) ويُعرف بالطواشي إلى الشام لحرب الفرنج فلقيهم بين الرملة ويافا، ومقدم الفرنج يعرف ببغدوين، لعنه الله تعالى، وتصافُّوا واقتتلوا، فحملت الفرنج حملة صادقة فانهزم المسلمون، وكان المنجمون يقولون لسعد الدولة : إنك تموت متردّياً، فكان يحذر من ركوب الخيل، حتى إنه ولي بيروت وأرضها مفروشة بالبلاط، فقلق خوفاً أن تنزلق به فرسه أو سيتعثر، فلم ينفعه الحذر عند القدر، فلما كانت الوقعة انهزم فتردَّى به فرسه، فسقط ميتاً !. .

الصليبيون عند نهر الكلب

في عام 1100م هلك غودفرويد الذي يسميه مؤرخو المسلمين (جوفراد) ملك القدس، فاجتمع أمراء الفرنج وانتخبوا أخاه بولدوين ليخلفه على تخت المُلك، فجاء بولدوين إلى فلسطين قادماً من مدينة الرُّها بسوريا ليتسلم منصبه الجديد متخذاً ساحل البلاد طريقاً له ومعه قوة مؤلفة من حوالي ألف مقاتل. ولما علم له الأمير عضد الدولة شمس المعالي أبو المحاسن، الذي تولى إمارة بيروت خلفاً لأبيه، إستنفر أمراء صيدا وصور وعكا وقاموا جميعاً بالتصدي لبولدوين في مكان عُرف باسم (دربند نهر الكلب) حيث نصبوا له كميناً ليصدوه عن قطع هذا المضيق، لكن القائد الصليبي ظفر بهم واضطر عضد الدولة للعودة برجاله إلى بيروت. ولما علم شمس الملوك دقاق ملك الشام بذلك كتب إلى الأمير المذكور بأن يتولى صيدا بالإضافة إلى بيروت وطلب إليه تحصين المدينتين لتقويا على الصمود بوجه المهاجمين.

أمراء صليبيون يقصدون بيروت

عندما إتجه بولدوين نحو مدينة الرملة بفلسطين لإحتلالها، قدم من أوروبا لزيارته من بقي على قيد الحياة من أمراء الحملات الصليبيّة في الأناضول سنة 1101م وفي مقدمتهم كونت أكيتانية، وستيفن كونت بوَا، وستيفن كونت بورغندية، والكندو سطابل كونراد، وبصحبتهم عدد من بارونات الأراضي المنخفضة (هولندا) وإيكارد أسقف أورا، والأسقف ماسيس، ومعظم هؤلاء قدموا إلى الشرق العربي بطريق البحر وكانت وجهتهم مدينة عكا.

وفي أوائل ربيع سنة 1102م بلغوا المناطق المجاورة لبيروت، إلا أنهم لم يدخلوا قلب المدينة نفسها، بل تابعوا سيرهم باتجاه القدس لحضور الإحتفال بعيد القيامة عند النصارى في الأماكن المقدسة، إلا أن حظهم كان عاثراً فلقد هَلك أكثرهم في معركة الرملة التي مُنِي فيها الصليبيون بالهزيمة على أيدي الجيوش الإسلاميّة التي قدمت من مصر لمحاربتهم.