غارات أسطول جنوى الإيطاليّة على بيروت

698-806هـ/1299-1403م

كانت انتصارات المماليك ضربة قاضية على الصليبيين، ومع ذلك توهَّم بعضهم إمكانية العودة إلى بيروت، فأصيبوا بالخيبة والفشل، ورجعوا مهزومين، أمام دفاع المسلمين عنها بقوة لم يعهدوا مثلها من قبل. وكان صاحب بيروت في إحدى السفن الست التي حضرت إلى بيروت بعد تحريرها من حكمه.

إغارة سنة 698هـ/1299م

ويذكر صالح بن يحيى، أنه في سنة 698هـ/1299م : {وصل إلى بيروت مراكب كثيرة وبطس للفرنج، فيها جماعة كثيرة من المقاتلة، يقال إن البطس كانت ثلاثين بطسة في كل بطسة منها نحو سبعماية، وقصدوا أن يطلعوا من مراكبهم إلى البر ويحصل غارتهم على بلاد الساحل، فلما قربوا من البر أرسل الله عليهم ريحاً مختلفة فغرقت بعض هذه السفن، وتكسَّر بعضها، ورجع من سلم منهم على أسوأ حال، وكفى الله شرهم}.

والواقع أن الحروب الصليبية توقفت سنة 699هـ/1300م، وتحول الأمر إلى غارات وقرصنة بحرية قام بها أسطول جنوى الإيطالية، وهدفه بيروت، التي كانت له بالمرصاد.

إغارة سنة 734هـ/1333م

تمادى الفرنج في إغاراتهم، فنزلت سفن جنوى الإيطالية في بيروت يوم عيد الأضحى سنة734هـ/1333م، زمن ولاية عز الدين البيسري (1) من قبل تنكز نائب الشام. وحاول المسلمون منع الغزاة من دخول الميناء، فقاتلوا قتالاً شديداً لمدة يومين. وتمكن الجنويون من دخول الميناء، وأخذوا المراكب والأعلام السلطانية من البرج. وانهزم المسلمون في هذه المعركة التي أدَّن إلى قتل وجرح العديد من الجنود والرجال والأمراء. ويرجع سبب الهزيمة، إلى تقاعس أمراء الغرب وتركمان كسروان، في مؤازرة مسلمي بيروت أثناء القتال، وقد عوقبوا على إهمالهم وتقاعسهم بعد استدعائهم إلى دمشق.

فشل أسطول جنوى في احتلال بيروت سنة 784هـ/1382م 

يبدو أن الفرنج في جنوى الإيطالية طمعوا في احتلال بيروت، لذلك حضروا إليها ثانية سنة 784هـ/1382م، بعد أن دخلوا صيدا. لكن المسلمين هذه المرة تضافروا على على ردهم، وحضرت العساكر الشامية إلى بيروت. فغيَّرت السفن الجنوية طريقها نحو جزيرة قبرص، تحاول خداع المسلمين، وعادت العساكر الشامية إلى دمشق، بعد أن تركت في بيروت، فرقة بقيادة جمال الدين الهداني، وهو مقدم ألف، وبعد أيام قليلة، عادت السفن الجنوية تريد احتلال بيروت، وكان عددها 12 سفينة، فدخلت الميناء. وكان المسلمون ينتظرون قدومهم، فقاتلوهم بضراوة، وعندما نزل الجنويون من المراكب، وصعد بعضهم قلعة بيروت القديمة، ليرفعوا رايتهم بالنصر، هجم بعض الشجعان المسلمين، بقيادة الأمير سيف الدين يحيى، على قلعة بيروت، ونزعوا راية الفرنج منها، مما ألقى الرعب في قلوب الفرنج الذين فروا إلى المراكب يتعقبهم المسلمون، وقد غرق الكثير منهم في البحر، ولم يستطيعوا السباحة بسبب ثقل اللباس الذي كانوا يرتدونه. وقطع رأس المقاتل الفرنجي الذي حاول رفع الراية في القلعة.

وقد أستشهد بعض المسلمين وجرح آخرون. وكانت العساكر الشامية بقيادة بيدمر نائب الشام، قد وصلت بيروت بعد انتهاء القتال، وفرار السفن نحو جزيرة قبرص، فلم تتمكن من تقديم المساعدة.

وهذا يدل على أن نائب السلطنة في دمشق كان يهب لنجدة المسلمين في بيروت، إذا ما تعرضوا لهجوم الفرنج من جهة البحر، فضلاً عن المساعدة التي يوفرها لهم أمراء الغرب وتركمان كسروان أيضاً، وهم الأقرب مسافة إذا ما وقع القتال.

إغارة سنة 8066هـ/1403م

حاول الجنويون احتلال طرابلس ففشلوا، ثم توجهوا إلى بيروت في 20 محرم سنة 806هـ/1403م، وكان الأسطول الجنوي يتألف من ستة وأربعين مركباً بقيادة أمير البحر بوسيكو الفرنسي. والحقيقة أن أهل بيروت أمتلكهم الرعب مما أوقع البلبلة في صفوفهم، خاصة عندما انتشرت الشائعة عن ضخامة الحملة، فقيل إنها تضم سفناً كبيرة تحمل سبعمائة فارس. فالتجأ أهل بيروت إلى الجبال بعد ترحيل الأطفال والنساء وحمل الأمتعة. وبقي في المدينة أمراء الغرب، والمقاتلون من أهل بيروت الذين لم يغادروها. ونزل الجنويون من المراكب إلى البر، في مكان يسمى الصنبطية ـ غرب بيروت ـ ، قام المسلمون من أهل لبيروت بعمليات فدائية بطولية، ضد الجنويين في أزقة بيروت، وقتلوا بعض الأعداء، كما أستشهد منهم ثلاثة، ومع ذلك نهب الجنويون بيروت، وأحرقوا دار أمراء الغرب، والسوق القريبة من الميناء، ثم رجعوا إلى مراكبهم.

ثم حاول الأسطول الجنوي مهاجمة صيدا، لكن المسلمين اجتمعوا هذه المرة بعد أن وصلت النجدة من دمشق،، فابتعد الأسطول عن صيدا، وتوجه إلى جهة بيروت قاصداً نهر الكلب ليتزوَّد بالماء. ثم عاد إلى بلاده قبل أن يلحق به أمير دمشق سودون الظريف (2). وهكذا نلاحظ أن بيروت كانت تتعرض للاحتلال والهزيمة، إذا لم ينجدها أمراء الغرب وتركمان كسروان، وخاصة أمير دمشق، في حين تنتصر بوصول مثل هذه النجدات. وقد طلب أمير دمشق سودون الظريف من متولي بيروت أن يقطع رؤوس قتلى الفرنج، وأن يعمَّر على أبدانهم مسطبة على باب بيروت، ويكتب عليها أسم ملك الأمراء {أي أسمه هو سودون الظريف}، وجهَّز الرؤوس إلى دمشق ثم إلى مصر. وهنا تضايق المسلمون في بيروت، وهم الذين قتلوا الفرنج، فوجدوا أن المسطبة تنسب إلى غيرهم، فهدموها ليلاً، وأحرقوا ما كان بها من جثث الفرنج. 

(1)     الأمير سيف الدين يحيى بن زين الدين صالح بن ناصر الدين الحسين أمير الغرب: عمَّر القاعة المعروفة به بعبيه ورخَّمها وأجرى إليها الماء ثم جدَّد عمارة إيوان عبيه ثم عمَّر إيوان بيروت وأجرى الماء إلى حارة بيروت، وكان مدخوله أحياناً أربعين رطل حرير من ملكه، ورغم ذلك كثرت عليه الديون وحجّ إلى بيت الله الحرام فتكلف أموالاً وهدايا لنائب الشام والأمراء. والأمير سيف الدين بن يحيى هو والد صالح بن يحيى صاحب كتاب (تاريخ بيروت) وقد ذكره في كتابه باسم الوالد في مواضع كثيرة كما يذكر أسم أخ له يدعى فخر الدين عثمان وقد أبلى بلا} حسناً في قتاله الفرنج الذين هاجموا بيروت بحراً سنة 784هـ/1382م حتى نسب النصر في المعركة إليه. ويبدو أن هذا الأمر أزعج صدر نائب الشام ضده فاتهمه بالوقوف إلى جانب الفرنج ضد المسلمين بدلاً من أن ينعم عليه لقاء أعماله البطولية، ثم صادر بيدمر أملاك الأمير سيف الدين يحيى مرتين.

(2)     سودون الظاهري برقوق، ويُعرف بسودون الظريف، ولّي نيابة الكرك سنة 801هـ/1399م في آخر سلطنة الملك الظاهر برقوق، ثم عيَّنه الناصر فرج بن برقوق حاجباً بدمشق. قُتل في آخر سلطنة المؤيد شيخ سنة 824هـ/1421م.

عودة للفصل الأول

عودة للباب الرابع

عودة للصفحة الرئيسية