جميل السيِّد يتذكر 

الجزء الثامن

في هذه الحلقة يتحدث المدير العام السابق للامن العام اللبناني اللواء الركن جميل السيد عن اعتقال الدكتور سمير جعجع ومحاكمته ومحطات أخرى. وهنا نص الحلقة الثامنة قبل الأخيرة:

متى اصبحت مساعداً لمدير الاستخبارات؟

- في آب (اغسطس) 1991.

الرئيس الحريري حاول ازاحتك خلال فترة وجودك في مخابرات الجيش؟

- كنت اسمع بالتواتر أنه اشتكى علي في سورية كما كان يفعل آخرون. انا كنت مساعداً لمدير المخابرات وتابعاً لهرمية معينة وبالتالي لم اكن فاتحاً على حسابي. في الجيش لا احد يستطيع ان يفتح على حسابه، قيادة الجيش تحاسب ضباطها اذا اخطأوا، والحكومة تحاسب قيادة الجيش اذا اخطأت. كانوا يقفزون بالشكوى مباشرة باتجاهي، كانوا يعتبرونني الحلقة الممكن إصابتها في خلافهم مع العماد لحود. كانوا يتهمونني بأنني أدير الاعلام المناهض لسياستهم. كلّما سلّمنا على صحافي وكتب اتهموني.

 كلامك يعطي انطباعاً بأنك شديد البراءة وهذه ليست ميزة رجال الاستخبارات؟

- لست ملاكاً ولا شيطاناً، انا انسان اتصرف بمسؤولية واتحمّل المسؤولية. لقد كانت لي علاقات واسعة مع اهل الاعلام ولدي صداقات عديدة فيهم.

- المسألة ليست مسألة براءة. شرحت لك فهمي للاعلام والتعاطي معه. مقال تحليلي يصدر في صحيفة معينة ثم يتهم جميل السيد بالوقوف وراءه. انا يستحيل ان أكشف أسرار الدولة. كانوا يشكون من هجمات سياسية يعتبرون انني قادر على وقفها. هم يعتبرون ان جزءاً من عملي يستوجب مني ان اجمّل القبح، وان استعمل نفوذي وصداقاتي لتجميل قبائح الدولة. شخصياً لم اكن اعتبر ان ذلك جزءاً من مهمّتي، فاتهمني بعضهم بتقبيح صورتهم في الاعلام، والاعلام ليس غبياً ليرى العيب ويكشف المستور.

 الرئيس نبيه بري حاول ازاحتك؟

- كلها أسباب متشابهة يضاف اليها ان الزعامات السياسية في لبنان متعودة ان ينتسب اليها الموظفون وان يحسبوا عليها. لست مع هذه الذهنية، وهذا غير مألوف ويسبب عداوات. كل زعيم يريد منك ان تكون زلمته فيحميك ويستفيد من خدماتك لزعامته. في لبنان تصبح محصناً اذا انتميت لزعيم، خصوصاً اذا كنت موظفاً.

 ما هو سر قوتك في دمشق؟

- لا قوة لي في دمشق سوى انه صودِف دائماً أنّه كلما تعرض لي طرف وجد في مواجهته طرفاً آخر. استفدت من التناقضات في عملية الاستمرار. لم يجمعوا مرة على ازاحتي ولو فعلوا لما بقيت.

أعلى الصفحة

هل التقيت الرئيس حافظ الاسد؟

- كمقابلة شخصية لا. لكن رافقت الرئيس لحود في زيارته الاولى لدمشق بعد انتخابه. فتولّى التعريف عني للرئيس الاسد قائلاً: «اللواء جميل السيد». نظر الرئيس الاسد الي وقال: «هذا انت الذي لم يبق أحد الا واشتكى عليه؟» وضحك الرئيسان الاسد ولحود، وظهر ذلك في الصورة التي نشرت حينها في الصحف، وفيها يصافح الرئيس الاسد الرئيس لحود بيده اليمنى ويمسك يدي بيده اليسرى. وقد كلّفتني تلك الصورة، التي نشرتها صحيفة النهار، الكثير من العداوات والتحريض، حيث سبّبت حساسية، كما استثمرها بعض محيط الرئيس لحود للإيحاء بأن الرئيس الاسد كان يعاملنا بالتساوي، في حين ان الرئيس الاسد عندما أمسك بيدي، كان مستمهلاً لسماع اسمي جيداً من الرئيس لحود، كونه لم يسمعه عند التعريف الاوّل، وأحنى أذنه لسماعه مرة ثانية، فكانت هذه البرهة التي ظهر فيها ممسكاً بيد الرئيس وبيدي.

 ألم ترافق الرئيس الهراوي في زيارته الى دمشق؟

- أمضيت مع الرئيس الهراوي حوالي اربعة أشهر كمسؤول عن أمنه.

الوضع الامني عام 1990 كان يفرض ان تكون التحركات والزيارات سرية بما فيها نحو سورية. وقد رافقته مرتين لكنني لم اشارك في اللقاءات حينذاك، وكان يطلعني على مضمونها في طريق العودة. لم يكن يخفي عني الكثير من الامور وغالباً ما كان يطلب رأيي في بعض العبارات التي كان يعتبرها مبهمة والتي كان يتم تداولها في تلك اللقاءات. كان الرئيس الهراوي يمزح حول ذلك ويقول ضاحكاً: «والله بدّك منجّم مغربي لتفهم هالعبارات، هات إشرح لنا».

 هل هناك دم على يديك؟

السيد طليع دورته في المدرسة الحربية. - كلاّ واضيف ان الساحة اللبنانية، خلال فترة الحرب التي استمرت 15 سنة، فتحت لكل من يرغب في حينه، فرصة الدخول في لعبة الدم، وكنت يومها ملازماً اول في الجيش. واذا عدت الى ماضيّ وحاضري ومستقبلي، تجد أنني اسم مجهول في لعبة الحرب اللبنانية ولم أشترك في حياتي في أية حرب داخلية واية لعبة دم. الأمن مدارس، فهناك مدرسة تقتل ومدرسة تقسى وأخرى تستوعب. المدرسة التي أنتمي اليها منذ بدأت ممارسة الأمن حتى اليوم، وكنت أعلمها لضباطي وعناصري، تقول ان الامن يبقى ناجحاً الى حين التسبب بالدم، وعندها يفشل، فعندما يحتاج تثبيت الامن الى اراقة دماء، عندها تكون تخطيت منطق الامن ودخلت في منطق الحرب. فرض الامن لا يستوجب الدم إلا في المواجهات المسلحة المكشوفة بين قوى عسكرية علنية. اما عندما تحتاج المخابرات في عملها لإراقة الدم في سبيل الأمن، فهذا تعبير عن عجز وعن ضعف المخابرات في تحقيق اهداف الدولة بالطرق المشروعة. المخابرات تفقد حصانتها وشرعيتها وقوّتها عندما تلجأ الى لعبة الدم، باختصار تصبح عصابة امنية وليس مؤسسة امنية. والسؤال هو أنه في بلد كلبنان، الى متى يُمكنك أن تحفظ سراً؟ فالميليشيات نفسها لم تستطع أن تحفظ أسراراً عن ارتكابها عمليات قتل خلال الاحداث، فكيف عندما تتحدث عن جهاز أمني رسمي في الدولة أو أجهزة مختلطة وفيها كل الطوائف؟ ومهما ادعيت الذكاء او اتخذت الحيطة فإن سر اليوم لا بدّ من أن ينكشف غداً.

هل لك ان تشرح لي عملياً عن مدرسة الامن التي تؤمن بها؟

- في العام 1998 عندما انتقلت من مديرية مخابرات الجيش الى قيادة الامن العام، اقيم لي اجتماع وداعي بحضور جميع ضباط المديرية فألقيت فيهم كلمة قلت فيها: تسألونني عن خلاصة تجربتي بالامن فاختصرها لكم بكلمتين: إياكم ان تكون لديكم اسرار تخجلون او تخافون من انفضاحها، ليكن لديكم اسرار دولة لا يباح لكم التصريح عنها. وإياكم التورط فيما تعتبرونه سرّاً تخافون او تخجلون منه. والمعنى انه، عندما تكون كرجل مخابرات داخل السلطة فان وجودك فيها كفيل بحمايتك وتحصينك مرحلياً، لكن عندما تخرج منها تصبح مكشوفاً وتصيبك تلك الاسرار، تخيّل انني اليوم خارج نطاق السلطة ولديّ مثل تلك الاسرار المخجلة أو المخيفة فكيف ستكون حياتي؟ وفي هذا المجال اذكر عندما جرى توقيف قائد القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع من قبل مديرية المخابرات بناء لقرار القاضي منير حنين، يومها استدعى مسؤول كبير في البلد مدير المخابرات العميد ميشال الرحباني، ولامه لاعتقال جعجع معتبراً ان وضعه لا يعالج بالتوقيف. لكننا أصرّرنا على سلوك الطريق الشرعي في معالجة هذه المسألة وغيرها.

أعلى الصفحة

من هو ذلك المسؤول؟

- اترك ذلك لمرحلة لاحقة عندما سأتكلم تفصيلاً عن بعض المحطات، لكن اقول أن العميد الرحباني موجود وحي يرزق ويشهد لهذه الواقعة.

 على أي أساس اعتقلتم جعجع؟

- تصحيحاً، يُقال عندنا توقيف وليس اعتقال. لان التوقيف حالة قانونية والاعتقال حالة تعسّفية. القضية بدأت مع حادثة تفجير الكنيسة وبوشر بالتحقيقات فيها. وأدّت هذه التحقيقات الى وصول المحقق العدلي جوزف فريحه الى خيوط لجريمة ثانية وهي اغتيال المرحوم داني شمعون وعائلته، وكون القاضي منير حنين كان معيّناً محققاً عدلياً لهذه الجريمة فقد تولى التعمق في تلك الخيوط مما جعل ملف داني شمعون يتحرك بسرعة اكبر، الامر الذي استدعى اصدار مذكرة توقيف من قبل القاضي حنين.

 هل كان بينكم وبين جعجع حوار قبل توقيفه؟

- كان هناك حوار مع جعجع في العام 93 وأنا توليت ذلك عن قيادة الجيش، وكان الصحافي جوني منيّر صلة الوصل بيننا فهو من محبي جعجع ومناصريه. وكنا نناقش عملية تسليم الأسلحة وحل ميليشياته. الأرض هي «ملك» الجيش في المفهوم الأمني ولا يمكن لميليشيا ان تشاركه بها. وقد كان الحوار معه ايجابياً وكنا جاهدين لاقناعه بالتجاوب، وفي الجلسات الاخيرة طلب جعجع مهلة لاجراء بعض المراجعات ثم عدنا الى اجتماع لاحق بناء لاتصال منه، وقال: «تقولون لي في الجيش أن أسلم سلاحي واحلّ الميليشيا وشرحتم موقفكم، لكنني استنتجت بأن هناك في لبنان دولتين: دولة الأمن التي تقول لي بتسليم السلاح وحل الميليشيا ودولة السياسة التي تنصحني بعكس ذلك، فأيّ منهما أصدق؟». فقلت له: «لا أريد أن أتحدث عن دولتين، بل اقول ان هنالك من يكذب عليك وهنالك من يصدقك القول، ونحن صادقون معك». وبعد نقاش حول ذلك اقرّ جعجع وضع برنامج تسليم اسلحة ثم تعثّر تنفيذه بالنظر الى إكتشاف ثغرات لاحقة واسلحة غير مدرجة فيه. وفي هذه الاثناء وبعدها، استمر الجيش بعملية تجريد الاسلحة من الميليشيات عبر الاستجوابات والمداهمات، ثم فوجىء الجميع بانفجار كنيسة سيدة النجاة في جونيه، حيث بادر جعجع في اليوم التالي الى عقد مؤتمر صحافي قال فيه: «لن أقبل بأن تُتهم اسرائيل هذه المرة. لن أقبل بأن يجهّل الفاعل. الدولة تجرّد المسيحيين من سلاحهم وتعجز عن حمايتهم. فليسمحوا لنا وليتفضلوا». وقد نقلت وسائل الاعلام حينذاك المؤتمر، فاعتبر كلامه بمثابة دعوة لخروج الجيش من المنطقة الشرقية ومباشرة الامن الذاتي على غرار الانتفاضات السابقة. وعند سماعي ذلك المؤتمر بادرت الى الاتصال بجوني منير وقلت له بان جعجع أوحى بانه يستغل الجريمة وانه يحوّل نفسه الى مشتبه به وليس مضطراً الى ذلك.

توقيف سمير جعجع لم يتم فوراً كما سبق وذكرت، بل ان الزمن الفاصل بين الانفجار وبين توقيف جعجع كان حوالي الشهرين، وذلك بعدما باشر القضاء التحقيقات العدلية بالجريمة. وقد حقق مع جعجع قاضيان معروفان بالقدرة والكفاءة.

 هل يُمكنك ان تقول من فجر الكنيسة؟

- لقد حصلت محاكمة وحددت الموضوع بحيث ان الحكم بالجريمة جرّم عناصر من القوات اللبنانية وبرّأ سمير جعجع للشك وعدم كفاية الدليل. اليوم تغيّرت الاوضاع في لبنان، ومن لديه شك بان ملف الكنيسة مركّب او ملفّق فانه بالامكان اعتماد اجراءات قضائية لاعادة فتح المحاكمة. هذا مع الاشارة الى ان المحكمة التي اصدرت الاحكام لم تكن محكمة عسكرية بل المجلس العدلي وهو أعلى محكمة جزائية في الدولة برئاسة القاضي فيليب خيرالله.

 أكيد انه لم يتم تركيب ملف له؟

- يا أخي ان كان هناك تركيب ملف فانني أقول لك أن مدير الاستخبارات ميشال الرحباني لم يعد في منصبه وما زال حياً. والسوري ليس موجوداً في لبنان ليحمي، ولا أحد يحمي أحداً. لم تتم المحاكمة في محكمة أمن، بل جمعنا معطيات في هذا الملف ولم نكن قادرين على أن نركبها. بُرّىء جعجع من قضية الكنيسة بالشك ودين في قضايا أخرى. وكما قلت يمكن لمحامي جعجع ان يطالبوا باعادة فتح المحاكمة ولا مانع لدى احد ممن ساهموا بالتحقيقات والاحكام.

أعلى الصفحة

هل رأيت جعجع في زنزانته؟

- لا لم أره أبداً. لم يكن هناك سبب لذلك.

 كان في عهدك تعذيب في مديرية الاستخبارات؟

جعجع خلال جلسات محاكمته. - لا يوجد عهود في المخابرات. يوجد مسؤولون وتراتبية. كنت مساعداً للمدير العميد ميشال رحباني وجميعنا تابعون تراتبياً لقيادة الجيش. كان لدى مديرية المخابرات فرع تحقيق، وكان يتم اتباع الاصول، هنالك فارق بين القسوة وبين التعذيب. التحقيق بحد ذاته قسوة وتعذيب نفسي لمن يتعرض له حتى امام قاض مدني. وعادة تكون التحقيقات اكثر قسوة عندما تكون في مراحلها الاولى، وهذا مطبق في كل بلدان العالم، في البوليس الاميركي والاوروبي وغيره، حيث المشتبه به يكون في ظروف ضاغطة نفسية ومعنوية وجسدية، لكن الفارق شاسع بين تحقيق يهدف للبحث عن حقيقة والضغط للوصول اليها، وبين تحقيق يهدف الى تمويه الحقائق وتلفيق التهم او الحصول على اعترافات اكراهية، وهذا لا يحصل في لبنان لأن الأمن ليس محكمة بل مجرد ضابطة عدلية لمصلحة القضاء المدني.

 هل تعرض جعجع للتعذيب؟

- أبداً وهو يعلم ذلك. لم يتعرض لأي عنف جسدي.

 هل كان الرئيس الهراوي مع تسفيره؟

- لم يبلغني بذلك. أعتقد بأنه تلقى نصائح بالسفر لكن ليس من عندنا. تلقينا لوماً لاحقاً من مسؤول لبناني لأننا اعتقلناه حياً. وعزز أحد زملائنا من رؤساء الأجهزة هذا اللوم في تقرير يقول فيه أن اعتقال جعجع سيحوله الى نيلسون مانديلا!

كانوا مع قتله؟

- اوحوا الينا بان اعتقاله سيكون عبئاً، كان جوابنا ان قوّة الدولة تستمدّ من شرعيتها، وشرعيتها تستمد من حسن تطبيقها للقانون، وطالما انها بحكم القانون تستطيع ان توقف أيّاً كان وتحيله للمحاكمة عندما يرتكب جرماً، فلماذا اللجوء الى اساليب اخرى تعبّر عن ضعف وليس عن قوة. عندما يدخل احد اجهزة الدولة في لعبة الدم يفقد حصانته ويصبح أسيراً لهذه اللعبة حتى تنفضح.

 إذا أعيدت المحاكمة في ملف الكنيسة ماذا يحصل؟

ليست هناك ملفات مطمورة، بل جميعها موجود في أرشيف القضاء والمخابرات، وفتح المحاكمة مجدداً لا يضيرنا لان ليس هنالك قطبة مخفيّة، ونحنا مارسنا سلوك دولة وليس سلوك عصابة.

 قيل أنك أخذت معك نسخة من الملفات الموجودة في الأمن العام، هل يُمكن أن يفعل ذلك المدير العام؟

- ما هي الفائدة من اصطحاب ملفات لا يمكن استعمالها. واي استعمال لها سيشكل مخالفة جسيمة للقانون.

أعلى الصفحة

 مثلاً حفظ معلومات في أقراص مدمجة...

- طالما تعرف أنه لا يمكنك استخدامها بسبب الحد الأدنى من الأخلاق المهنية، فلماذا تأخذها؟ اذا كنت تقصد انك عندما تحصل عليها تستطيع الابتزاز بواسطتها، فإنك اوّل من تصاب. نحن، والحمد لله، لسنا من مدرسة الابتزاز، ومارسنا الامن اكثر من عقدين والكل شاهد على ذلك. في الأمن، تحصل على كثير من المعطيات الشخصية، هل سمعت احداً في لبنان ادعى ان ابتزازاً حصل معه من قبل الأمن في موضوع شخصي ام خاص؟ الابتزاز دليل ضعف، المطلوب في الأمن ان يحسبوا حسابك من دون ان تبتز. عادة يحسبون لك حساباً عندما تكون غير قابل للمساومة.

والذي لديه مفتاح سوري؟

كيف يكون المفتاح السوري؟

مثلاً يتدخل رستم غزالي... هل يمكنك متابعة التحقيق؟

- في تجربتي أنا. ولا مرة كنت معرضاً للاكراه في هذا الموضوع.

 تجربتك في الأمن العام مميزة لجهة التنظيم والشفافية ومنع الرشوة، وفي حين ان اتهامات الفساد تتركز على الطبقة السياسية، فان فضيحة ملف المدينة لم تعالج كما يجب علماً بانها عملية نهب فاضحة، فكيف تمت «لفلفة» هذه القضية؟

- أساساً ملف بنك المدينة لم يأت من تحقيقات الامن بل من لجنة الرقابة في مصرف لبنان، ثم انتقل الى القضاء، وعاد مجدداً الى مصرف لبنان. الشخص المحترم والمشهود له الذي يُؤتمن على هذه القضية هو حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. هذا الملف عولج قسم منه بحسب الاصول المعتمدة من قبل مصرف لبنان في معالجة المصارف المتعثرة، اما القسم الآخر منه فتولاه القضاء ولا يزال هذا الملف «حيّاً» وتسمع من حين الى آخر بالدعاوى المتبادلة حوله.

 اذا فُتحت دفاتر بنك المدينة ليس هناك شيء عليك؟

- المعطيات حول بنك المدينة موجودة لدى المصرف المركزي ولجنة الرقابة على المصارف، والارجح ان لديهم لوائح بكل التفاصيل، والكل يعلم اننا لسنا منغمسين فيها.

 فضيحة بنك المدينة فيها تورط لبناني وسوري. ألم تعلموا بأن مثل هذه الفضيحة قد تدفع الناس الى التساؤل عن حجم الفساد؟

- هناك اتهامات كثيرة مثل بنك المدينة وتُشبهها، كالكهرباء والصحة والاتصالات وصناديق المهجرين والجنوب وغيرها. كل هذه أوجدت مناخاً من اتهامات الفساد في الدولة. اقول أنه لا يوجد تورّط لبناني سوري في تلك الفضائح بل يوجد أحياناً متورطون لبنانيون وسوريون وهذا الشذوذ لا يعبّر عن سياسة لبنان وسورية بل يعبّر عن استغلال البعض لمواقعهم لتحقيق مكاسب ومنافع فردية على حساب السياسة وعلى حساب سمعة لبنان وسورية.

أعلى الصفحة

 لماذا لم يتحرك القضاء عندما كانت هناك لوائح بالفساد؟

- لا يوجد في لبنان نظام سياسي بل يوجد نظام سياسيين. هناك تركيبة طائفية سياسية تحكم البلد وتتبدل اسماؤها في كل عهد. وهذه التركيبة تتناغم مع بعضها في السيطرة على الدولة، وعندما تحاول الدولة السيطرة على التركيبة، تتعاون هذه مع بعضها وتنسف الدولة. في هكذا نظام يضيع الصح والغلط، ويضيع الحق والباطل، ولا يمكن الفصل بينهما بسهولة لان الرداء السياسي والطائفي يكون جاهزاً للتغطية على الخلل. فإذا كان الفاسد شيعياً تتحرك الحماية السياسية والطائفية الشيعية لحمايته في الاعلام الى درجة اتهام القضاء باستهداف الطائفة، والأمر ذاته ينسحب على الدروز والسنة والموارنة والكاثوليك والأرثوذوكس. طبيعة التركيبة الحالية تمنع المحاسبة لأن غطاء الطائفة يلعب دوره ليقول أن هذا استهداف سياسي. أزمة البلد أوسع من بنك المدينة. هناك أزمة نظام. فاتفاق الطائف جعل البلد برؤوس عدة. لا يفتح النظام اللبناني فرصة جدية للمحاسبة. والقضاة مهما كانت نزاهتهم، هم في وضع لا يحسدون عليه، خصوصاً عندما تكون القضايا التي ينظرون فيها ذات ابعاد كبيرة.

وضع مؤسسات الدولة متشابه في الشكوى من طبيعة النظام والحصص، وفي هكذا مناخ لا يمكن بناء مؤسسات في الدولة، حتى مؤسسات الامن بما فيها الجيش لم تكن لتُبنى بعد الحرب لولا الحصانة السورية حولها. الآن سورية غادرت، ومنطق الحصص سيمتد الى الأمن لتجزئته حصصاً للطوائف والزعامات، وهذا سيكون كارثة على الامن. الامن الذي ينتمي الى الولاء الطائفي والسياسي ليس أمناً، ولا يصنع أمناً. أنا مقتنع بهذا الامر ولم يكن لدي انتماء خاص.

 لكن كانت لديك حصانة سورية.

- كما وظف الرئيس اميل لحود الحصانة السورية لصنع الجيش، وظفتها أنا لبناء أمن عام. وهل هناك أحد يُمكن أن ينكر ذلك؟ لم أستغل الحصانة السورية لارتكاب موبقات في الأمن العام، على رغم أن السلطة الاستنسابية للمدير العام تتيح له الاستفادة بالملايين. لكنني جئت وحولتها خدمة عامة. استعملت الحصانة السورية لتحصين المؤسسة فشهد بذلك القاصي والداني.

وبعد الانسحاب السوري، انقض الجميع على الأمن للحصول على حصته. الأمن حق عام مشترك وينبغي ان يكون فوق الولاءات السياسية والطائفية الضيقة. طبعاً الأمن هو بأمرة السياسة بمعنى سياسة الدولة وليس سياسة السياسيين. الأمن يرى الجريمة جريمة، وليس عند السني ربع جريمة والشيعي نصف جريمة والماروني ثلاثة أرباع والدرزي خُمس جريمة. عندما يصبح الأمن منتمياً الى خارج هذه المبادىء يضيع، ولبنان سائر في هذا الاتجاه.

متى كانت أوّل مرة التقيت فيها الرئيس بشار الأسد؟ لديك صورة معه بالثياب العسكرية.

- هذه كانت المرة الأولى في عام 1996. كان يُتابع دورة أركان عسكرية في سورية يُشارك فيها ضباط لبنانيون. ولم أكن في الدورة، لكن الضباط اللبنانيين رغبوا في اقامة حفلة تكريمية له كزميل في الدورة في نادي الضباط في جونية، وكلفني العماد لحود بمرافقته خلال فترة الغداء.

كم مرة زرت سورية؟

- أوفدني الرئيس لحود مرتين وزرتها للمرة الأخيرة عندما تركت الوظيفة.

 أليس غريباً ان يستقبلك الرئيس الاسد في المرة الاخيرة؟

- ليست غريبة. هذا وفاء وتقدير من سورية. أصبحت مدنياً، وهم يتابعون الظروف التي مر بها لبنان. وأنا من الناس الذين يُقدرونهم بسبب سمعتي وما أنجزته على صعيد مؤسسة لبنانية. أُعطيت الزيارة أكبر من حجمها في الاعلام. لا أرى ما يدعو للاستغراب في كون الرئيس الاسد استقبلني بعدما انتقلت الى الحياة المدنية. وليس سراً انه في لبنان ايضاً ودّعني معظم السفراء تقديراً ومن بينهم السفيران الاميركي والفرنسي. الدول لديها طريقتها في التعبير. وسورية تحديداً وفيّة وآل الاسد أوفياء. لماذا علي أن أخجل من هذا الأمر اذا كانت سورية تنسحب من لبنان؟ لا بل هو شرف كبير لي أن يخصني