هو عبدُ القادر بن مصطفى آغا القبّاني، وكلمة آغا المضافة إلى اسم والده من الألقاب التشريفيّة التي كانت شائعة في أيام الدولة العُثمانيّة. وكثيراً ما كان أجدادنا يطلقها على الشخص الذي يشتهر بالقوة ويتمتع بشيء من النفوذ الاجتماعي في بيئته بسبب شجاعته وشدته وهمته في الدفاع عن أهل محلته وجيرانه للحفاظ على أموالهم وصيانة أعراضهم وملاحقة مصالحهم في الدوائر الحكوميّة.

تنقلت الأسرة القبّانية في الماضي من بلاد العراق إلى مدينة جبيل على الساحل اللبناني. ومن جبيل ألقت عصا التسيار واستقر بها النوى في مدينة بيروت ما خلا فترة قصيرة قضتها في جزيرة قبرص عندما نفيت إليها بأمر إبراهيم باشا الذي إنتقم منها بسبب رفض مصطفى آغا والد الشيخ عبد القادر التعاون مع مصر ضد الدولة العُثمانيّة. وبعد عودة هذه الأسرة من منفاها الشيخ عبد القادر التعاون مع مصر ضد الدولة العُثمانيّة.

وبعد عودة هذه الأسرة من منفاها إلى بيروت ولد الشيخ عبدُ القادر القبّاني وكان ذلك سنة 1265هـ 1849م وكانت مساكن هذه الأسرة تقع في محلة زقاق البلاط .

بدأ عبد القادر القبّاني دراسته الأولى في الكتاتيب الإسلاميّة التي كانت شائعة في زمانه ومن هذه الكتاتيب إنتقل إلى المدرسة الوطنيّة التي أنشأها المعلم بطرس البستاني في أواسط القرن التاسع عشر. وبالإضافة إلى ذلك فإنه تلقى علومه الدينيّة والعربيّة على الشيوخ المعروفين ومنهم الشيخ محيي الدين اليافي الذي تعاطى التعليم في بيروت بعد قدومه من دمشق، والشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي الذي كان من العلماء البارزين في الفقه والأدب واللغة، كما كان من أساتذته العالِم الشاعر الشيخ يُوسُف الأسير من صيدا وفي ذلك الحين دفعت الحميّة الدينيّة والخبرة الوطنيّة الحاج سعد الله حمادة رئيس محكمة التجارة إلى التباحث مع نخبة من أهل البلد الذين توسم فيهم الهمّة والإقدام وألّف منهم جمعيّة للنهوض بالمسلمين باسم جمعيّة الفنون الإسلاميّة، وكان الحاج سعد الله نفسه ناظراً لهذه الجمعيّة والشيخ يُوسُف الأسير رئيسها. وكان أعضاء هذه الجمعيّة يحضرون درس الرئيس في منزله ليلاً ليتم لهم العمل عن علم، بإرشاد الناظر المذكور. وقد بدأت الجمعيّة عملها بتأسيس شركة مساهمة من أعضائها ونشر جريدة تنطق باسمها باسم (ثمرات الفنون)، وقد سجّل إمتياز الشركة والجريدة باسم عبد القادر القبّاني الذي تولى إصدار الجريدة وكان أول أعدادها بتاريخ 15 ربيع الأول سنة 1292هـ 1885م.

إلا أن الجمعيّة المذكورة لم يكتب لها الاستمرار طويلاً ذلك أن صاحب فكرتها ومؤسسها الحاج سعد الله حمادة اعتراه المرض الذي أودى بحياته فانحلّت هذه الجمعيّة فقام الشيخ عبد القادر القبّاني بشراء جميع أسهم المطبعة التابعة لها وإنفرد بإصدار جريدتها ثمرات الفنون التي استمرت في عهدته خمسة وثلاثين عاماً.

وكانت ثمرات الفنون في مواسم الامتحانات لتلامذة المدارس تنشر ما ينبّه الأفكار ويثير الغيرة في صدور المسلمين وتدعوهم إلى العمل على جعل المدارس تعوض عليهم ما فقدوه من العلم والعرفان، وكانت لا تترك فرصة دون أن تحضّ على فتح المدارس ونشر العلم.

بالإضافة إلى جريدة ثمرات الفنون فإن الشيخ عبد القادر القبّاني أرسى في المجتمع البيروتي قواعد الانطلاق العصري لتعليم الناشئة الإسلاميّة في مدارس تنتظمها مناهج الدراسة التي تستجيب لهذا الانطلاق. وفي منزله كانت بيروت تبدأ خطواتها الثابتة في تأسيس جمعيّة القاصد الخيريّة الإسلاميّة التي أصبحت اليوم الحاضنة الرؤوم لعشرات المدارس الإسلاميّة سواء في بيروت نفسها أو في بقية أنحاء الجمهوريّة اللبنانيّة. كان ذلك سنة 1295هـ 1878م حين إجتمع رهط كريم من أعيان المسلمين وعلمائهم وقرروا البدء في رحلة تأسيس المدارس، هذه المرحلة التي ما زالت مستمرة حتى اليوم بنفس الحرارة التي شحنت بها عندما بدأت خطواتها الأولى قبل نحو القرن من الزمان.

وفي سنة 1888م قام أهل بيروت بحركة انفصاليّة عن ولاية دمشق التي كان واليها ناشد راشد باشا، فاستجاب السلطان عبد الحميد لهذه الحركة وأعلن فصل بيروت عن دمشق وإنشاء ولاية مستقلة بها باسم ولاية بيروت، ومرة أخرى كان الشيخ عبد القادر القبّاني محل ثقة الدولة التي عيّنته عضواً في محكمة الاستئناف بهذه الولاية حيث بقي في هذا المنصب القضائي لمدة عشر سنوات متوالية كان خلالها مثالاً كريماً لرجل القضاء النزيه.

وبالنظر لتمرس الشيخ عبد القادر بالقضاء، على مستوى الكرامة والحياد والنزاهة، فإن أهل بيروت انتخبوه رئيساً للمجلس البلدي في مدينتهم حاضرة الولاية التي تحمل اسمها.

وخلال رئاسته للبلدية زار الإمبراطور غليوم، إمبراطور ألمانيا، مدينة بيروت وهو في طريقه إلى دمشق والقدس، فلفتت هذه المدينة نظر الإمبراطور الألماني بسبب الإصلاحات العُمرانيّة والإداريّة التي كانت نتيجة للجهود الفائقة التي كان الشيخ عبد القادر القبّاني يبذلها لتكون بيروت في المستوى اللائق بها بعد إعلانها ولاية مستقلّة الأمر الذي حدا بالإمبراطور أن يطلق عليها لقب (الدرة في تاج سلاطين آل عُثمان).

وفي مدة وجود الشيخ عبد القادر القبّاني في رئاسة المجلس البلدي في بيروت ، أنشأ من أموال البلديّة برج الساعة في وسط الساحة التي تقع بين سراي الحكومة وبين قصر العدل قديماً . ( راجع برج الساحة الحميديّة ضمن عُثمانيات في هذا الموقع )

والجدير بالذكر أن بلديات طرابلس وحلب ويافا حذت حذو بيروت في بناء أبراج مماثلة للساعة المذكورة وهذه الأبراج صممت على نفس الشكل الذي صُمّم به برج الساعة في بيروت.

وبقي الشيخ عبد القادر القبّاني رئيساً للمجلس البلدي في مدينة بيروت طول المدة المقررة بموجب الأنظمة المرعيّة مشمولاً بتقدير السلطات المسؤولة وباحترام مواطنيه، الذين عرفت مدينتهم في عهده عصراً ذهبيّاً في تطور عمرانها وانتظام شؤونها البلديّة والاجتماعيّة والتعليميّة.

وبعد انتهاء ولايته في المجلس البلدي لبيروت عُيّن بإرادة سلطانيّة مديراً للمعارف في ولاية بيروت، وفي هذه الأثناء قدم إلى المراجع المختصة العديد من اللوائح التنظيميّة لتطوير التعليم الرسمي والأهلي في هذه المدينة ، بما دّل على بُعد نظره وكفاءته العلميّة في مجالات التربيّة والتعليم.

بقي الشيخ عبد القادر القبّاني مديراً للمعارف في ولاية بيروت إلى أن وقع الانقلاب الذي قامت به جمعيّة الاتحاد والترقي ضد السلطان عبد الحميد الثاني سنة 1919م . ففي 13 آب من هذه السنة، أبلغه الاتحاديون نبأ إقالته من هذه الوظيفة دون أي مبرر قانوني وذلك بسبب ما كان يُظهره من ميل للسلطان المخلوع. وبالرغم من مراجعته للقضاء من أجل إبطال هذه إقالة ، إلا أن الحكام أصروا على موقفهم بالرغم من ظهور نظافة كفّه من كل مخالفة قانونيّة واكتفوا بإعطائه تعويضاته عن خدماته السابقة مع شهادة حسن سلوك تتيح له العمل في الدوائر الرسميّة إذا شاء.

إلا أن الشيخ عبد القادر القبّاني آثر الابتعاد نهائياً عن المناصب الرسميّة وألّف مع بعض إخوانه شركة للقيام بالمشاريع العمرانيّة العامة لا سيما استخراج الحديد واستنباط البترول في أراضي ولاية سوريا.

في سنة 1354هـ 1935م انتهت رحلة لشيخ عبد القادر القبّاني في هذه الدنيا بعد عمر ناهز التسعين عاماً قضاها في الأعمال النافعة التي تركت له أحسن الذكر في تاريخ بيروت ودُفن بجبانة الباشورة.