SAMISOULH

(1890-1968) القاضي العادل ورئيس الوزراء

أبو الفقراء... سياسي في ظروف دقيقة وإشكالية ثورة 1958

أسماء لمعت كالشهب في تاريخ بيروت، قدّمت لمدينتها وللوطن من المواقف والإنجازات التي تجسّد ما يحمل تراث هذا المجتمع من قيم ومبادئ ثابتة لا تحول، ولا تزول مهما اشتدت العواصف، وعلت الأنواء.

أسماء نقشت في ذاكرة العاصمة والوطن، كما النقش في الصخر، تحضر إلى واقعنا في مده وجزره، لتشكّل نبراساً يقتدى، ومنارة توصل الى الشاطئ الأمين. هي ليست سير ذاتية، بل هي وقفة تقدير ووفاء لرجال من مدينة معطاءة، قدّموا لمدينتهم ووطنهم من المواقف والإنجازات ما زال أثرها قائماً حتى الآن.

نتذكرهم وهم الذين لبّوا النداء عندما نادى المنادي، وأطلقوا النفير عندما حان وقت اطلاقه.

رجالٌ هم جزء من نسيج العاصمة التي هي قلب الوطن وروحه. والتي تفتح مداه على الأفق الرحب، أبعد من كل حساسية وحزازة.

رجالٌ لهم كل الحق علينا، ليس أن نتذكرهم فحسب، بل أن نذكّر بهم، وقد وجب التذكير، من قبيل «وفي الليلة الليلاء يفتقد البدر» حتى يكونوا قدوة للأجيال الصاعدة.

إن هذه الحلقات التي تنشرها «اللـــواء» يمتزج فيها التاريخ وينصهر مع أسماء تركت بصمات مضيئة في كيان مدينة لطالما حفل تاريخها بربابنة قادوا شراعها وسفينة الوطن إلى برّ الأمان.

آل الصلح من الأسر العريقة منذ مئات السنين، وقد توزعت بين شبه الجزيرة العربية والولايات العثمانية وصيدا وبيروت المحروسة. عرف منها في منتصف القرن التاسع عشر حسب وثائق سجلات المحكمة الشرعية في بيروت أحمد أفندي الصلح (أحمد باشا الصلح فيما بعد) (المتوفى عام 1893)، وكان ترجماناً لوالي صيدا محمد باشا، كما تولى منصب «ناظر أملاك بيروت» ثم أصبح متصرفاً في الدولة العثمانية، بينما أصبح نجله رضا بك الصلح نائباً في مجلس المبعوثان (مجلس النواب) العثماني عام 1909، كما أصبح وزيراً للداخلية في الحكومة الفيصلية عامي 1918-1920، كما أصبح نجله كامل بك الصلح رئيس محكمة استئناف دمشق وشقيقهما الإصلاحي منح الصلح (المتوفى 1921)، ثم تولى حفيده رياض نجل رضا بك الصلح رئاسة الوزراء عدة مرات بين أعوام 1943–1951. وتكاد أسرة الصلح هي الأسرة السنية الوحيدة التي تولى أربعة منها رئاسة الوزراء وهم الرؤساء: سامي الصلح، رياض الصلح، تقي الدين الصلح، رشيد الصلح.

◄سامي بك الصلح:

ولد سامي الصلح في عكا في 7 أيار عام 1890، نظراً لوجود والده فيها، باعتبارها مدينة تابعة آنذاك لولاية بيروت. عاش بين عكا وصيدا وبيروت واستانبول ومكدونيا ودمشق وأضنه وسالونيك وسواها، وذلك استناداً إلى وظائف والده عبد الرحيم الصلح المتنقل بين تلك المناطق حتى وفاته عام 1905. لذلك، كانت فرصة لسامي الصلح أن ينفتح على ثقافات غربية وشرقية، وعلى لغات عديدة استطاع أن يتقنها.

في عام 1905 عاد سامي الصلح إلى بيروت المحروسة بعد وفاة والده، وتابع دراسته، سرعان ما قصد بريطانيا، ثم استكمل دراسته الجامعية في استانبول، حيث التحق في كلية الحقوق تحقيقاً لتطلعاته بأن يكون قاضياً. وكانت استانبول تئن بالصراعات بين الاتحاديين والائتلافيين بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش عام 1909، لاسيما بين كامل باشا وأنور طلعت باشا وكامل باشا. ونظراً للتطورات العثمانية والعربية والدولية، قرر وابن عمه رياض الصلح الذي كان يتعلم في استانبول أيضاً، العودة إلى بيروت، غير أن سامي الصلح تم تعيينه مستشاراً قضائياً في حلب.

◄سامي الصلح والانتخابات النيابية عام 1914:

في عام 1914 بدأت الاستعدادات للانتخابات النيابية، وبدأ المرشحون عن ولاية بيروت بالاستعداد لخوض المعركة، ومن بينهم سامي الصلح. وكان الشرط للتقدم للانتخابات أن يكون المرشح في سن الثلاثين كما ذكر في مذكراته، فما كان منه وهو في الثالثة والعشرين، إلا أن تقدم من دائرة النفوس بطلب لتغيير سنه ليصبح في سن الثلاثين، فأصبح رسمياً من مواليد عام 1883 علماً أنه عثر على تذكرة هوية له تثبت أنه من مواليد عام 1887. ومهما يكن من أمر، فبعدها التقى بوالي بيروت البكير سامي بك (بكر سامي بك) الذي أيد ترشيحه، كما أن أحمد مختار بيهم وسليم علي سلام طلبا من الوالي تأييده. ونظراً لخلافات حادة مستجدة بين العائلات البيروتية، وإشكالات سياسية ومالية بما فيها قضية أراضي الحولة، فقد بدّل الوالي رأيه ودعم ترشيح سليم علي سلام، ميشال إبراهيم سرسق، وكامل الأسعد، وقد فازوا في 9نيسان 1914 ضد المرشحين: سامي الصلح، جان نقاش، طه المدور. واتهم سامي الصلح في مذكراته أنه خسر بسبب التزوير، بينما نفى سليم سلام في مذكراته بأنه نجح نتيجة تأييد السلطة، لأنه كان معادياً للوالي. والحقيقة، فإن الصراعات والمنافسات بين آل الصلح وآل سلام والتي امتدت إلى عام 1968، إنما كان من أسبابها انتخاب مفتي بيروت عام 1909، وانتخابات مجلس المبعوثان عام 1914. عاد سامي الصلح إلى وظيفته في حلب، وبدأ يجتمع بالعشائر والقبائل العربية لنشر الوعي القومي العربي، وصودف وجود القائد أحمد جمال باشا عام 1915 في حلب، فعلم بنشاطه وحاول اعتقاله، غير أنه قرر مغادرة حلب إلى الصحراء العربية، واتخذ اسماً جديداً له هو «الشيخ علي البغدادي» بعد أن تنكر بأزياء عربية، ولكنه بعد فترة تم اعتقاله وإرساله إلى محكمة ديوان الحرب العرفي في عاليه؛ وبعد التحقيق معه، تبين أنه غير متورط في أعمال معادية، غير أن القرار تضمن إبعاده إلى استانبول، علماً أن غالبيه رفاقه اعدموا عامي 1915-1916، منهم على سبيل المثال: عارف الشهابي، عبد الكريم الخليل، محمد المحمصاني، عبد الغني العريسي وسواهم.

◄سامي الصلح مستشاراً وقاضياً:

في عام 1918 انتهت الحرب العالمية الأولى، وهزمت الدولة العثمانية، واحتلت البلاد العربية من قبل بريطانيا وفرنسا، فأقام سامي الصلح ثلاثة شهور في القاهرة للاطلاع على السياسة المصرية والبريطانية، ثم عاد إلى دمشق والتقى بالأمير فيصل بن الشريف حسين. وبعد عودته إلى بيروت نهائياً عام 1920، وقبل الانخراط بقوة في السياسة، فقد تأهل من شقيقة ابن عمه رياض الصلح السيدة بلقيس رضا الصلح (طليقة رجل من آل غندور) وأنجب منها عبد الرحمن (السفير فيما بعد) والسيدة مي (حرم السيد أنيس ياسين). وفي بيروت تولى سامي الصلح منصب مستشار في محكمة التمييز، وكان طيلة حياته القضائية مؤمناً بالقانون والعدالة الألهية، وأحياناً كثيرة أصدر أحكاماً ببراءة متهمين لعدم قناعته باقترافهم ذنب ما. وبالرغم من تباين الآراء بينه وبين السلطات الفرنسية، غير أنها لم تستطع التخلي عنه، فقامت بتعيينه قاضياً في محكمة الجنايات، ثم عُين عام 1925 مفتشاً عاماً للقضاء، ثم عُين في منصب مدعي عام التمييز عام 1936، ورئيساً أول لمحكمتي الاستئناف والتمييز. وكانت ممارساته القضائية وسمعته واستقامته سبباً رئيساً في تزايد شعبيته البيروتية واللبنانية.

◄ سامي الصلح نائباً ورئيساً للوزراء:

في تموز من عام 1942، تم اختيار سامي بك الصلح رئيساً لمجلس الوزراء في عهد الرئيس ألفرد نقاش، وقد عرفت حكومته باسم «حكومة الرغيف»، واستطاع في فترة قصيرة القضاء على الاحتكار والمحتكرين، كما استطاع تأمين «الأعاشة» للفقراء، لهذا، لقب «بأبي الفقراء»، علماً أن فترة توليه رئاسة الحكومة كانت من أصعب الفترات بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية (1939-1945).

ونتيجة لنجاحه في مهام رئاسة الوزراء، فقد خاض غمار الانتخابات في 29 آب عام 1943 (مجلس الـ55 نائباً) على رأس لائحة بيروتية، فازنصفها والنصف من اللائحة الأخرى. اما الفائزون فهم السادة: سامي الصلح، عبد الله اليافي، صائب سلام، ألفرد نقاش، حبيب أبو شهلا، محمد بيضون، أيوب تابت، موسيس دركالوسيان، هراتشا شامليان.

وبعد الانتخابات النيابية عام 1943 انتخب الشيخ بشاره الخوري رئيساً للجمهورية الذي اختار بدوره زعيماً لبنانياً وعربياً لرئاسة الحكومة هو الزعيم رياض الصلح، ومع زعماء آخرين تم وضع الميثاق الوطني ونيل الاستقلال بعد حادثة اعتقال أركان الحكم. وكان لسامي الصلح وزعامات أخرى دور أساسي في استقلال لبنان. وقد تبين بأن سامي الصلح وبالرغم من تولي ابنه عمه رياض الصلح رئاسة الوزراء، غير أنه كان معارضاً إيجابياً عندما تستدعي الأمور المعارضة، وكان مؤيداً عندما تستلزم الأحداث التأييد.

وما هي إلا سنوات قليلة حتى عاد سامي الصلح إلى رئاسة الوزراء في 22 أب 1945 واستمر فيها حتى 23 أيار عام 1946 متعاوناً مع رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري، وقد عرفت هذه الوزارة باسم وزارة الاستقلال الثالثة، لأنها قامت باستكمال مقومات الاستقلال، ورفع العلم الوطني، وتنظيم الجيش اللبناني بقيادة اللواء فؤاد شهاب، ومن ثم جلاء القوات الأجنبية، ولا يمكن أن ننسى دوره، ومن قبل دور رياض الصلح في تأسيس جامعة الدول العربية وتأسيس هيئة الأمم المتحدة عام 1945 بانتداب علماء وفقهاء قانون بارزين للإسهام في هذا التأسيس يأتي في مقدمتهم العلامة الدكتور صبحي المحمصاني. كما لا يمكن أن ننسى دوره الداعم لقضية فلسطين طيلة سنوات، وتسلم المصالح المشتركة، وتطور مشاريع التربية والتعليم، والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية والمائية، والاهتمام بالمناطق اللبنانية، وقضايا العمال، كما أسهم سامي الصلح خلال مسؤولياته الحكومية في الإسهام في ضبط الأوقاف الإسلامية الضائعة، وفي تنظيم منح الجنسية اللبنانية. ومن يطلع على مواقف سامي الصلح وخطبه بين أعوام 1920-1968 يدرك أهمية آرائه ومواقفه من هذه القضية.

في شباط عام 1952 عاد سامي الصلح رئيساً للوزراء في عهد الرئيس بشاره الخوري والتي استمرت إلى 9 أيلول عام 1952، وهي الوزارة التي قضت على العهد. ومما ساعد على استقالة بشاره الخوري الثورة البيضاء التي قامت بها المعارضة عام 1952، وفساد شقيق الرئيس المعروف باسم «السلطان سليم الخوري» سبق ذلك استشهاد الرئيس رياض الصلح في عمان في تموز عام 1951، كما أن ثورة 23 يوليه (تموز) عام 1952 في مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، ألهبت حماس الجماهير اللبنانية ضد الفساد والفاسدين. وقد أكد الرئيس بشاره الخوري في مذكراته أثر ثورة مصر على الثورة البيضاء في لبنان.

ويبدو بأن الرئيس سامي الصلح هو أول رئيس وزراء في لبنان يقدم استقالته في المجلس النيابي وليس في القصر الجمهوري في القنطاري، ففي 9 أيلول 1952 ألقى الرئيس سامي الصلح بياناً في المجلس النيابي عرض فيه لحالة الفساد والفوضى والطغيان التي تعانيها الدولة ملمحاً إلى مسؤولية رئيس الجمهورية وشقيقه وأنصاره الذين أفسدوا الإدارة من تدخلاتهم غير المشروعة في القضاء والإدارة. ومما قاله سامي الصلح بجرأة لافتة: «حاربونا، لأننا أردنا أن نطبق القانون القاضي بمنع المقامرة، والقمار هو أحد مواردهم السرية. حاربونا، لأننا شرعنا في مكافحة التهريب إلى إسرائيل، لأن هذه المكافحة تقطع عليهم الرزق الحرام. حاربونا، لأننا شمرنا ساعدنا لإتلاف الحشيش... حاربونا، لأننا أردنا أن نضع قانون «من أين لك هذا» ونحقق في مصادر ثرواتهم... حاربونا، لأننا حفظنا لأرباب الصحافة كرامتهم... إنهم يريدون أن يكون رئيس الوزراء آلة طيعة بأيديهم، لتنفيذه مآربهم، وتحقيق مطامعهم، وخدمة مصالحهم الخاصة... أين ديوننا من أرصدتهم النقدية المودعة في مختلف المصارف... لقد جوعوا الشعب وأرهقوه... كيف تريدون منا أن نستمر في الحكم...».

لقد قدم الرئيس سامي الصلح استقالته، وكان بيانه الأسفين القوي والأساس في استقالة الرئيس بشاره الخوري في 18 أيلول 1952، ولم يستطع أي سني فيما بعد قبول تكليفه بتأليف الحكومة الأمر الذي أدى إلى استقالة رئيس الجمهورية، وكانت هذه الحادثة المقدمة لانتخاب كميل شمعون رئيساً جديداً للجمهورية.

◄سامي الصلح رئيساً للحكومة في عهد الرئيس كميل شمعون:

إن استقالة سامي الصلح من رئاسة الحكومة لا يعني مطلقاً استقالته من السياسة والحكم والنيابة، بل ظل نائباً عن بيروت، يقوم بأعباء النيابة لاسيما الخدمة العامة، ومساعدة المعوزين وأصحاب الحاجة، وتفريج هموم الناس، غير أن السياسيين في لبنان لاسيما الرؤساء يدركون أهمية تعاونهم مع سامي الصلح، لهذا، فإن الرئيس كميل شمعون رأى ضرورة الاستعانة به، وتكليفه رئاسة الوزراء في 16 أيلول 1954 واستمر في رئاستها إلى 9 تموز 1955. وقد عرفت هذه الحكومة باسم «رأس السمكة» استناداً إلى المثل الشائع «رأس سمكة خير من ألف ضفدعة» واعتماداً على أهمية بدء الإصلاح من فوق لا من تحت.

لقد تولى سامي الصلح رئاسة الحكومة مجدداً في ظل أوضاع لبنانية وعربية وإقليمية ودولية صعبة، يأتي في مقدمتها الأوضاع الاقتصادية والسياسية في لبنان، والصراع بين المعسكرين السوفياتي والأميركي، والعدوان الإسرائيلي المستمر على فلسطين، وسياسة الأحلاف العربية والدولية، وبالرغم من جميع هذه الصعاب، فإن حكومة سامي الصلح حققت الكثير على الصعيد اللبناني والعربي والتركي والأوروبي والدولي والأميركي والسوفياتي، وعلى صعيد التعاون في إطار جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة والمؤتمر الإسلامي في بيروت. وقد واجهت حكومته وحكومة سواه قضية شائكة هي قضية لبنان والأحلاف الأجنبية، بما فيها حلف بغداد.

هذا، وقد تولى سامي الصلح رئاسة الحكومة مجدداً في تموز من عام 1955، جاء من بعده الرئيس عبد الله اليافي في آذار عام 1956، ثم كلف عبد الله اليافي ثانيةً في حزيران عام 1956، وقد استمرت حكومة اليافي، وكان من ضمنها صائب بك سلام وزيراً إلى تشرين الثاني عام 1956، وقد شهدت هذه الفترة العدوان الثلاثي من قبل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر، الأمر الذي استدعى من الدول العربية إلى عقد مؤتمر الملوك والرؤساء العرب في بيروت في 15 تشرين الثاني 1956، وقد قرر المؤتمر قطع العلاقات مع بريطانيا وفرنسا وإدانة العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر، وهدد الرئيس عبد الله اليافي والوزير صائب سلام وسواهما بالاستقالة، إذا لم يبادر رئيس الجمهورية كميل شمعون بقطع العلاقة مع البلدين المعتدين على مصر، ولما رفض الرئيس شمعون قطع العلاقة، بادر الرئيس اليافي إلى الاستقالة احتجاجاً، وبذلك استقالت الحكومة لأسباب قومية، خاصةً وأن عبد الناصر بات بعد جلاء القوات البريطانية عن مصر،وعقده صفقة السلاح التشيكية، وكسر احتكار شراء السلاح، وتأميمه لقناة السويس، بات الرئيس العربي الأول.

◄إرهاصات وأسباب ثورة عام 1958:

اضطر الرئيس كميل شمعون للتعاون مجدداً مع الرئيس سامي الصلح، فأوكلت إليه مهمة تأليف الحكومة في أجواء لبنانية وعربية ودولية على غاية من الخطورة والتعقيد، ولا يمكن لأحد أن يقبل بمثل هذه المهمة الكأداء. وبالرغم من ذلك، فقد قام بتأليف حكومته في 18 تشرين الثاني 1956، والتي استمرت إلى 18 آب 1957، ولوحظ أنه لأول مرة عُين قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب وزيراً للدفاع الوطني، وذلك لمواجهة عدد احتمالات أمنية، غير أنه استقال في 3 كانون الثاني 1957. وما هي إِلا شهور حتى استقالت الحكومة، وتألفت حكومة أخرى برئاسته في 18 آب 1957، وقد استمرت حتى 14 آذار عام 1958، وتم اختيار المحامي جميل مكاوي (عن السنة) وزيراً للمالية.

والأمر الملاحظ، أن الوزيرين جميل مكاوي وخليل الهبري هما من سكان الطريق الجديدة (شارع حمد) وهو الشارع الذي شهد اصطدامات بين الدرك والمعارضة وإحراق سيارة الهبري ومقتل خمسة وجريح خمسين من المتظاهرين، كما شهدت منطقة مستشفى المقاصد الاعتداء على الرئيس صائب سلام، وذلك كله في 30 أيار 1957.

وفي 14 آذار عام 1958 تألفت حكومة جديدة برئاسة سامي الصلح، واستمرت حتى 22 أيلول 1958، واختير خليل توفيق الهبري (عن السنة) وزيراً للأشغال العامة. وقد واجهت هذه الحكومة الاستثنائية أوضاعاً استثنائية قل مصيرها في تاريخ لبنان الحديث منها على سبيل المثال:

1- إعلان الوحدة بين سوريا ومصر (الجمهورية العربية المتحدة) في شباط 1958.

2- مشاريع وحدة الجيوش العربية.

3- تداعيات عدم قطع علاقات لبنان مع بريطانيا وفرنسا.

4- الصراعات العربية – العربية.

5- خطر الكيان الصهيوني، وموقف لبنان من القضية الفلسطينية.

6- الصراع بين الشيوعية والرأسمالية.

7- تدفق السلاح من سوريا إلى أحزاب المعارضة اللبنانية.

8- تزوير الانتخابات النيابية عام 1957.

9- موقف لبنان الرسمي من ثورة الجزائر والثوار، ومن الثورات التحررية العربية والعالمية.

10- موقف لبنان من الاتحاد الهاشمي (وحدة العراق والأردن) المعادي لعبد الناصر وللجمهورية العربية المتحدة.

11- موقف لبنان من المؤتمرات والأحلاف الدولية بما فيها مؤتمر باندونغ والمؤتمر الأفريقي – الآسيوي، ومشروع أيزنهاور.

12- مواجهة الشارع الإسلامي والوطني المُطالب الالتحاق بالوحدة مع مصر وسوريا.

13- المطالب الإسلامية بتحقيق العدل والمساواة والإنصاف في الوظائف العامة.

14- مرض التجديد والتمديد لرؤساء الجمهورية، ومن بينهم الرئيس كميل شمعون.

15- سائر المطالب ذات الأبعاد اللبنانية والعربية والدولية.

كانت بيروت مرتبطة إلى حد كبير بأسماء سياسية أمثال الرئيس عبد الله اليافي والرئيس صائب سلام، وأسماء لامعة أخرى في مختلف المناطق اللبنانية، فإذا بهذه الأسماء تغيب عن التمثيل الشعبي في الانتخابات النيابية في حزيران عام 1957. وفي المجلس النيابي الجديد (مجلس الـ 66) مثل بيروت السادة: سامي الصلح، خليل الهبري، جميل مكاوي، فوزي الحص، بيار إده، نسيم مجدلاني، رشيد بيضون، جوزيف شادر، شفيق ناصيف، خاتشيك بابكيان، موسيس دركالوسيان. وبدون أدنى شك، فإن تزوير نتائج انتخابات عام 1957 والعوامل المشار إليها سابقاً أثرت تأثيراً مباشراً على أوضاع لبنان، وعلى اندلاع ثورة عام 1958، وقد قال الرئيس صائب سلام في أوساطه آنذاك: «إن سامي الصلح بموافقته لكميل شمعون بإسقاطي في الانتخابات، يريد أن ينتقم مني ومن والدي سليم علي سلام المتهم مع والي بيروت بإسقاطه في انتخابات عام 1914...».

ومن الأهمية بمكان القول، بأن الثورة اللبنانية التي أطلقتها المعارضة في أيار من عام 1958 هي ذات أبعاد لبنانية وعربية ودولية (تماماً كالحرب اللبنانية 1975-1990) غير أن السبب المباشر الذي أشعلها، إنما تمثل في اغتيال الصحافي نسيب المتني صاحب صحيفة «التلغراف» ليل 8 أيار 1958. سبقه اغتيال الصحافي غندور كرم على يد أحد السوريين. وكان ذلك بداية للإضراب العام من قبل المعارضة، سرعان ما انتشر السلاح بين أيدي المعارضة في بيروت برئاسة الرئيس صائب سلام وقائد المعارضة الشعبية رشيد شهاب الدين، وترأس المعارضة في المناطق رشيد كرامي وكمال جنبلاط ومعروف سعد وصبري حمادة وأحمد الأسعد وشبلي العريان... كما وصلت من سوريا مجموعات عسكرية داعمة للثورة، منها مجموعات سلطان باشا الأطرش، وبعض أجهزة المخابرات السورية، فضلاً عن مجموعات فلسطينية داعمة للثورة، يأتي في مقدمتها الفلسطينيون المقيمون في مخيمات صبرا وشاتيلا والداعوق وبرج البراجنة ومخيمات المناطق اللبنانية. لهذا قدمت الحكومة اللبنانية شكوى لجامعة الدول العربية، ومن ثم للأمم المتحدة في أواخر أيار 1958 لمواجهة التدخلات في لبنان. سبق ذلك لاسيما في 11 أيار 1958 إلقاء القبض على قنصل بلجيكا العام في دمشق، وهو ينقل بسيارته كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة إلى المعارضة اللبنانية، وقد اعتقلته السلطات اللبنانية عند الحدود السورية – اللبنانية، ما كان له أثر سيء على العلاقات الثنائية. وبرز من القيادات العسكرية والسياسية آنذاك: الزعيم شوكت شقير، عدنان الحكيم، عباس خلف، عبد المجيد الرافعي، نواف كرامي، خالد جنبلاط، إبراهيم قليلات (أبو شاكر)، د. بشارة الدهان، علي العود مختار رأس بيروت، محمود الدنا، محمود عياش، وقيادات عديدة في منطقة الطريق الجديدة، والبسطتين، والمصيطبة، وبرج أبي حيدر، والزيدانية، ورأس بيروت، ورأس النبع، والبقاع، وعكار، والجنوب وسواها، معتذراً عن عدم ذكر جميع أسماء تلك القيادات.

هذا، وقد تبين بأن الرئيس سامي الصلح، كان من أكثر المعجبين بالرئيس جمال عبد الناصر لاسيما بين السنوات 1952-1957، وهناك رسائل واجتماعات متبادلة بينهما تؤكد ذلك، غير أن تسارع الأحداث، وتطورات الأزمة اللبنانية بأبعادها الداخلية والسورية والمصرية والعربية والدولية، أدى كل ذلك إلى القطيعة مع الرئيس عبد الناصر ومع السفير المصري في بيروت عبد الحميد غالب. وأعلن الرئيس كميل شمعون والرئيس سامي الصلح بأن من أسباب الاضطرابات في لبنان، إنما يكمن في رفض لبنان الرسمي للانخراط في الوحدة مع مصر وسوريا، وفي رفضه الانصياع للرئيس جمال عبد الناصر، في حين أن المعارضة اتهمت الحكم، بأنه يعمل مع الغرب ضد المصالح العربية، كما أنه يخطط بكل طاقاته لتأمين التجديد لرئيس الجمهورية، فضلاً من أن رئيس الجمهورية كميل شمعون الذي انتخب على أنه «فتى العروبة الأغر» بات الفتى الأول المحارب للعروبة وللعرب. كما أن سامي الصلح دافع عن نفسه بالقول: بأن رئاسة الوزراء لم تكن تعنيه، وهو الذي تولاها عام 1942 قبل ابن عمه رياض الصلح، غير أنه علم من السفراء العرب والأجانب، بأنه في حال تخليه عن الحكم، فإن رئيس الجمهورية سيكلف مهام رئاسة الوزراء لماروني عسكري، يمكن أن يكون قائد الجيش، وقد يستمر هذا التكليف لشهور عديدة، فآثر سامي الصلح البقاء في الحكم حرصاً على حقوق السُنة في هذا المنصب.

لقد تسارعت الأحداث بشكل منقطع النظير، حيث دارت معارك عديدة بين الأجهزة الأمنية والمعارضة، وقد وقف حزب الكتائب والحزب القومي السوري الاجتماعي وسواهما إلى جانب النظام اللبناني ضد أحزاب المعارضة، مما أدى إلى مزيد من القتلى والجرحى والتدمير في بيروت والمناطق اللبنانية، وأحرق ونهب قصر الرئيس سامي الصلح في برج أبي حيدر في 14 حزيران 1958، وڤيلا الوزير خليل الهبري في شارع حمد في الطريق الجديدة، وهجر كل منهما خارج منطقته، كما جرت محاولات اغتيال الرئيس سامي الصلح لاسيما في 29 تموز 1958 في منطقة المكلس، ومن بعدها محاولة اغتياله في آب، وواحدة في أيلول 1958، في حين أن الرئيس كميل شمعون استمر مقيماً في القصر الرئاسي في القنطاري، وهو آخر رئيس للجمهورية يقيم في هذا القصر. وجرت محاولات لاغتياله من قبل المعارضة والثوار، غير أن القيادة السياسية ممثلة بالرئيس صائب سلام رفضت هذا الأسلوب. ومما قام به سامي الصلح رفع دعوى على السادة: صائب سلام، هنري فرعون، عبد الله اليافي، نسيم مجدلاني، وشخص سوري يدعى محمد البساتنة بتهمة نسف قصره. هذا، وقد أقفلت المساجد في بيروت في وجه سامي الصلح، ووجهت إليه انتقادات لاذعة في صحف وإذاعات المعارضة لاسيما إذاعة «مشعل» وإذاعة «صوت العروبة».

ومما زاد الأمر اضطراباً ومضاعفة قيام ثورة 14 تموز 1958 في العراق والقضاء على الملكية، وإعلان قادتها تأييد الثورات العربية وتأييد الرئيس جمال عبد الناصر، والمطالبة بالوحدة مع مصر وسوريا، مما يعني انتهاء الوحدة الهاشمية مع الأردن، الأمر الذي أدى بالحكومة اللبنانية على استدعاء الأسطول السادس الأميركي إلى لبنان، كما طلب الملك حسين من القوات البريطانية النزول في الأردن لحماية النظام. ثم أرسل إلى بيروت داغ همرشولد أمين عام الأمم المتحدة، والسيد مورفي مبعوث الرئيس الأميركي إلى لبنان الذي اجتمع في تموز عام 1958 مع الرئيس كميل شمعون وسامي الصلح وقيادات لبنانية عديدة في مقدمتها الحاج حسين العويني وكمال جنبلاط وصائب سلام ورشيد كرامي وسواهم بشكل سري أو علني، وانتهى الأمر أن لا تجديد للرئيس كميل شمعون، وأوضح للحاج حسين العويني خاصةً (كما جاء في مذكراته) بأن الأميركيين أبلغوه، بأنه تم الاتفاق بينهم وبين الرئيس جمال عبد الناصر على انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.

◄اللواء فؤاد شهاب رئيس للجمهورية:

لقد تمت التسوية اللبنانية – العربية – الدولية، بانتخاب اللواء قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وذلك في 31 تموز من عام 1958، على أن يبقى الرئيس كميل شمعون إلى نهاية مدته الرئاسية الدستورية أي إلى 23 أيلول 1958، وقد أدى ذلك إلى تهدئة الأمور، لاسيما عندما أرسل الرئيس جمال عبد الناصر برقية تهنئة إلى الرئيس المنتخب فؤاد شهاب، كما استمرت حكومة الرئيس سامي الصلح في الحكم إلى 19 أيلول 1958 حيث قدمت استقالتها للرئيس كميل شمعون، ولم تنتظر حتى 23 أيلول لتقديمها للرئيس المنتخب، فما كان من الرئيس شمعون إلا أن أصدر مرسوماً عين بموجبه خليل الهبري رئيساً لمجلس الوزراء.

في فجر السبت في 20 أيلول 1958 غادر سامي بك الصلح مطار بيروت إلى تركيا حيث أقام في مناطق ومدن تعرف عليها قبل عام 1920، منها أضنه واستانبول، وكانت فرصة لزيارة قبر والدته المدفونة في استانبول عام 1910. ومن بعدها زار روما وبروكسل وباريس وسواها، وقد استمر في أوروبا إلى عام 1959.

◄استنتاجات:

من الأهمية بمكان القول، وبكلمة مختصرة، فقد اعترف الرئيس كميل شمعون والرئيس سامي الصلح بأخطائهما، غير أن المعارضة اعترفت بدورها بأخطائها المرتكبة عام 1958. وإذا أردنا تقويم تاريخ سامي الصلح في سطور، يمكن القول أن الرجل ولد في بيئة عربية، لذا كانت أفكاره وممارساته عربية سواء فيما يختص بالوحدة السورية أو الوحدة العربية، إلى أن اعترفت القيادات اللبنانية باستقلال لبنان، لذا، تولى رئاسة الحكومة وفي سنوات متباعدة ثماني مرات بين 1942-1958، وانتخب نائباً ست مرات بين أعوام 1943-1964، وأسهم في استقلال لبنان، وفي الوقوف إلى جانب الفقير ضد المحتكر، كما عمل على استرداد السراي الكبير وتسلم الجيش اللبناني وسواه من المؤسسات من الانتداب الفرنسي، ودافع عن القضية الفلسطينية مؤيداً قيام «اتحاد الأحزاب اللبنانية لمكافحة الصهيونية»، ورغم عمله مع الرئيس كميل شمعون غير أنه كان ضد سياسة الأحلاف الغربية، ملتزماً سياسة الحياد الإيجابي، فترأس وفد لبنان إلى مؤتمر باندونغ في أندونيسيا عام 1955، وزار غالبية الدول العربية وفي مقدمتها مصر، والتقى الرئيس عبد الناصر أكثر من مرة، كما رفض العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وأيد وحدة مصر وسوريا عام 1958، ولكنه رفض إقحام لبنان فيها بسبب خصوصيته، ولطمأنة المسيحيين، وتقيداً بالميثاق الوطني عام 1943. وفي عام 1958 التقى سامي الصلح في توجهاته مع توجهات البطريرك الماروني مار بولس المعوشي حول رفض التجديد للرئيس شمعون. وبالرغم من ذلك، فقد أرسى الرئيس كميل شمعون قاعدة رئاسية تضمنت «أن لا تنازل عن حق رئاسة الجمهورية إلا عند انتهاء آخر دقيقة من ولاية العهد». وبالفعل، فإنه لم يتنازل عن الحكم إلا في 23 أيلول عام 1952، غير أن ما كان يؤلمه تخلي الأميركيين عنه، ومما قاله: «إن الأميركي مهما كان حليفاً أو صديقاً لك، غير أن من عادته أن يتخلى عنك في منتصف الطريق حسب مصالحه».

◄عودة سامي الصلح مجدداً إلى النيابة 1964-1968:

إن الظاهرة اللافتة للنظر، أن مراسلات تمت بينه وبين الرئيس عبد الناصر بعد عام 1960، وكان من المقرر القيام بزيارة للقاهرة، فأتت التمنيات من القاهرة بعدم إحراج عبد الناصر أمام أقطاب المعارضة اللبنانية، غير أن سامي الصلح – الظاهرة السياسية – الذي ابتعد عن المجلس النيابي في دورة عام (1960-1964)، نتيجة ذيول ثورة 1958 وحلّ مكانه رئيس حزب النجادة عدنان الحكيم، فإذا بالبيارتة ينتخبونه مجدداً نائباً عنهم في دوره (1964-1968) وكان ذلك بمثابة إعادة اعتبار له، ووفاءً وتقديراً على خدماته طيلة خمسين سنة على الأقل، كما أصبح رئيساً للسن في المجلس النيابي، فضلاً عن هذا وذاك، فقد أطلق على شارع في بدارو اسم «جادة سامي الصلح»، كما أقيم له نصب تذكاري في الشارع نفسه. سامي الصلح الظاهرة توفاه الله في 6 تشرين الثاني عام 1968 تاركاً بعض المؤلفات والمذكرات، وكريمته السيدة مي، وسعادة السفير عبد الرحمن الصلح وأحفاد منهم رياض الصلح وسامي الصلح.

يبقى القول، أن قضية سامي الصلح وتحديداً أحداث ثورة عام 1958، لعلها تكون عبرة لجميع اللبنانيين لاسيما الموالاة والمعارضة في أي عهد، وفي أي زمن، ويبدو أن اللبنانيين لا يقرأون التاريخ وإذا قرأوه لا يستفيدون منه، لهذا، كانت الحرب اللبنانية 1975-1990. والمطلوب من «أمة أقرأ» أن تقرأ وتستفيد من أخطاء الماضي لبناء الحاضر والمستقبل. لهذا، فإن من يطلع على الوثائق السرية الأميركية والفرنسية والبريطانية والعربية التي تعود لعام 1958، يدرك تماماً بأن ثورة عام 1958، وبأن الصراع اللبناني – اللبناني لم يكن صراعاً لبنانياً، بل هو صراع عربي – عربي، ودولي – دولي، وأن اللبنانيين ليسوا هم – للأسف – سوى شعب مظلوم في إطار»لعبة الأمم».