المقهى، أو القهوة، المقاهي البيروتية وإن كانت سمة اجتماعية بيروتية، غير أنها لم تكن تؤثر في الطابع العام لبيروت لا سيما ملامح الجّد والنشاط، ومن أسباب إقامة تلك المقاهي محاولة البيروتي أن يرفه عن نفسه بالإستماع إلى الحكواتي والقصص الخيالية وتناول النارجيلة والقهوة، وهي على العموم عادة عثمانية كانت أول نشأتها في استانبول ثم انتشرت مع الوقت في الولايات العربيّة.

ميزة القهوة البيروتية أنها قهوة في مدينة على البحر المتوسط يجتمع فيها كل رواد الثغر من بحارة أجانب أو مسافرين أو تجار، تقسّم المقاهي البيروتية إلى ثلاثة أقسام:

1- مقاهي قلب البلد المتمثلة بمقاهي، الجميزة، القزاز، فلسطين، فاروق، كاراج صيدا، والبسطتين الفوقا والتحتا، المعرض، سوق المنجدين، سوق اللحامين.

2- القسم الثاني: مقاهي المرفأ (البور) حيث تجّمع الريّاس والعمال والبحارة ونقيب البحر (شيخ العتالة) وعمال التفريغ، وبحارة الزوارق من ناقلة الركاب من البواخر وإليها قبل توسيع وتعميق المرفأ الحالي.

3-القسم الثالث: مقاهي الساحل المحيط ببيروت من مقهى الحاج داوود حتى مقهى الغلاييني في الروشة مروراً بمقهى الروضة قرب الحمام العسكري، ومقهى آل دبيبو. وهذه المقاهي كانت تقدم، إضافة إلى النارجيلة والقهوة والشاي والمرطبات مأكولات البحر كالسردين والسمك والمقالي مع السلطات والحمص بالطحينة والفول والفتة (التسقيه)، وكانت مقصداً للعائلات البيروتية للنزهة، وكان محرماً تقديم المشروبات فيها حتى عام 1925م حيث صار بعضها، خاصة في شوران والروشة يقدّم المشروبات الروحية، والملاحظ أن جميع هذه المقاهي كان يملكها ويديرها رجال من القبضايات والوجوه المعروفة في محيطها.

وقد وجد قرب كل مقهى بائع سجائر (دخنجي) أو(تنبكجي) وكان أصحاب هذه المحلات من حراس تهريب الدخان والتنباك أو حماته على مداخل بيروت الوارد من جبل لبنان إلى ولاية بيروت، وقد عمدت السلطات بعد الإنتداب الفرنسي، إلى تعيّين بعضهم في إدارة الريجي بصفة مفتشين، وأعطت الباقين رخص بيع الدخان والتنباك، إلا أن الملاحظ، أن كل محل من هؤلاء كان يجاور أو يقابل مراكز الأمن، فمحل تجاه مخفر حبيش ومحل تجاه مخفر البسطة ومحل تجاه الأمن العام والشرطة في المرفأ، وآخر تجاه مخفر الطريق الجديدة، ومحل تجاه مخفر الجمّيزة، وغيرها.

كانت أهم المقاهي في قلب المدينة في ساحة البرج وساحة عصور حيث تجمّع المدينة والضواحي، فمقهى القزاز كان ملتقى كل أبناء بيروت الذين يقصدون المدينة، وملتقى أبناء جبل لبنان الذين ينتظر بعضهم بعضاً فيها، قبل العودة بالبوسطات مساءً، انطلاقا من كاراجات ساحة الدباس أو كاراجات البرج والصيفي.

من مقاهي ساحة البرج، نذكر مقاهي الباريزيانا والنجار والزهراء، ومقهى كوكب الشرق الذي انهار على رؤوس زواره عام 1934م، ومنها قهوة فتوح المعروفة سابقاً بقهوة شقير، وكانت على صغرها، مقسومة إلى منطقتين، أمامية للسهرات العادية والثرثرة، وخلفية للأدباء والشعراء والصحفيين، كالشيخ أمين تقي الدين والأستاذ جبرائيل نصار والأخطل الصغير ومحمد كامل، وقد تميزت هذه المنطقة الأخيرة بهدوئها لبعدها عن الشارع، كان حامل الفونوغراف يدخل قهوة فتوح، فيضع صندوقه فيها ويدير الأغاني التي كانت شائعة في حينه، نشير إلى أن الأدباء والشعراء كانوا قبل الحرب العالمية الأولى، يجتمعون عند أبي متري، وكانت له قهوة في ساحة البرج، مقصودة لطيب مقبلاتها، ومما يُروى عن أبي متري المذكور، أن إحدى السهرات امتدت ذات يوم حتى ساعة متأخرة من الليل، فلما أنفض الاجتماع حوالي الساعة الثالثة صباحاً، تناول أبو متري المكنسة وأيقظ الجارسون النائم على الكرسي وقال له:

قوم يا صبي، كنّس أشعار

وكانت مقاهي فلسطين وفاروق وكاراج صيدا ومقهى أرسلان المحيط بساحة عصور الأكثر أهمية وازدحاماً، فهناك كانت كاراجات الصاوي وزنتوت للسيارات المنطلقة إلى صيدا وصور والقادمة منها، وكان مقهى فلسطين ملتقى الركاب القادمين من عكا وحيفا ويافا عن طريق كاراجات فلسطين لأصحابها فستق ومحيو، وكان إسم مقهى فلسطين (مقهى الجنوب)، إلا أن النزوح الأول عام 1936م إثر الثورة الفلسطينية الكبرى، أوجد تجمعات فلسطينية من الوجهاء والتجار التي كان يرأسها تجار من آل بدر عاصي، وأحمد الكعكي من عكا، وآل سفيان من حيفا وغيرهم، وكان مركز تجمّع الأدباء والشعراء.

أما مقهى فاروق، فقد كان مقهى النخبة أن صح التعبير، كان يقع في بناية قدّورة الشهيرة بزخارفها ونقوشها، كان لكل جماعة من الزبائن زاوية خاصة، من زبائنه: الشيخ جميل الحسيني المدقة شيخ الطريقة الصوفية الرفاعية، والشيخ عبد الحليم بدير المصري الواعظ والداعية المشهور في زمنه، والأستاذ المدير محمد عمر منيمنة، والسيد عبد النبي حمادة، وبعض التجار من آل الشلاح والعيتاني والقباني وغيرهم.

كان الشاعر أحمد الصافي النجفي يلازم الرصيف طوال النهار وبعض الليل، ويتردد عليه الشاعر محمد كامل شعيب العاملي والشاعر محمد على الحوماني، فيتحلق الناس حولهم، لسماع المناقشات والمطارحات الأدبية والشعرية الزجلية حتى الظهر، حيث ينتقلون إلى مطعم فلسطين المواجه، والذي أنشأه عام 1936م الفلسطيني رشيد كامل النابلسي ، القادم من نابلس.

أما الرصيف الشرقي، فكان ممر سينما التياترو الكبير، إتخذْ منه الأديب الكبير عمر أبي النصر، مكتباً له، يكتب بيد، ويمسك نربيش الأركيلة باليد الأخرى، وهناك كتب أشهر مؤلفاته.

وكان مقهى كاراج صيدا، مكان تجمّع أهالي الشوف والجنوب، ومن هذه المقاهي كانت تؤمن طلبات محرري مجلة الدبور الشهيرة التي كانت مكاتبها فوق المقاهي المشار إليها.

أما مقاهي وسط البلد فكان منها: مقهى قدّورة المعروف بمقهى حسن حنكو، في سوق اللحامين، في طبقة علوية فوق الدكاكين، وكان ملتقى تبادل، أي بيع وشراء اللحوم المؤصل الوارد مع تجار الغنم من حمص وحماة وحلب، وكان مقهى الحمام الثاني فوق سوق المنجدين، محل بنك أوف أميركا، في شارع المصارف حالياً، وكانت المراهنات على الحمام تتم في هذا المقهى، كسباق وعودة الطيور، فتحضر مثلاً من حلب أزواج الحمام وتُطلق من برج هذا المقهى، وهناك في حلب يعرفون موعد وصولها والمدة التي استغرقتها في الطريق، والعكس بالعكس، تؤخذ الطيور من برج الحلواني وتُطلق من دمشق أو من حلب لتعود إلى برجها في بيروت.

كانت مقاهي البسطتين والطريق الجديدة، ملتقى كبار القوم ليلاً، وخاصة في شهر رمضان بعد الإفطار، حيث تقرأ سيرة عنترة والزير سالم وتغريبة بن هلال، وقصة بطولات الظاهر بيبرس، فكان الحكواتي هو البطل والأستاذ والمعلم والممثل والراوي.

وكانت تقام في مقهى البسطة التحتا، حفلات خيال الظل كركوز وعيواظ، التي لا يزال بعض أشخاصها في أمثال العامة في بيروت، من هذه الأشخاص: سعيد النصبة، وأم شكران، وبكري مصطفى الذي كان يمثل دور الرجل البليد الفهم، فاستعمله البيروتيون لمن مثله وصاروا يقولون (داير له بكري).

وكانت مقاهي الأحياء نهاراً ملتقى الشبان للعب الطاولة والدومينو والدامة والورق، وفيها كانت تقرر الاضرابات والمظاهرات والمؤامرات والتطبيقات وتُركب اللوائح الإنتخابية.

أما مقاهي رأس بيروت والمنارة فكانت لرجلين من آل العيتاني، وتميزت بأن وجهاء المنطقة من المسلمين والمسيحيين، كانوا يتربعون فيها على الحصر أمام الناس كافة للعب الورق، فيما الرواد يلعبون الباصرة في زاوية أخرى.

وتميز مقهى أبي زيد العيتاني في آخر خط المنارة، بالجلسات المذكورة وتقديم المشروبات العربيّة كالجلاب والعرق سوس والتمر هندي والليموناضة، وكان مقصد رواد النزهة إلى شوران عند نزولهم من الترامواي.

حدث تطور منذ سنة 1894م فبدأت بعض المقاهي تقدم بعض حفلات الغناء، فأعلن افتتاح قهوة الكازا في ساحة البرج بملك منصور تيان، وقام المطرب الفرنسي جان كارتيه بإحياء ليلة طرب كل شهر تشترك فيها مطربات فرنسيات، وأحيا في السنة التالية صاحب الصوت الشهير فيليب شوشاني ثلاث ليال في الكازا المذكور خصص نصف دخلها الصافي للجمعيات الخيرية، وكان ثمن الدخول عشرين فرنكاً لعائلة من أربعة أشخاص وعشرة لشخص واحد مصحوب بسيدة، ونصف ريال لغير المشتركين، وكان محل الاشتراك في مكتب المحامي عزيز سليم صعب في خان فخري بك.

ومن المقاهي القديمة قهوة المدور الكائنة في محلة الصيفي في باطن بيروت، وكانت تشتمل على غرفتين مسقوفتين بالجسور والأخشاب وعلى رواق بقناطر أحجار، أنشأها يوسف المدور.

وكان تكاثر المقاهي دليلاً على كثرة العاطلين عن العمل ويؤدي إلى ازدياد المنازعات، مما دفع الوالي سنة 1888م إلى تقرير قفل الحانات عند الغروب والقبض على من يسير ليلاً بلا مصباح.