من الأُسر الإسلاميّة البيروتيّة والصيداوية واللبنانيّة والعربيّة، تعود بجذورها إلى القبائل العربيّة في شبه الجزيرة العربيّة، لا سيما إلى القبائل المنسوبة لآل البيت النبوي الشريف، وقد أسهمت في فتوحات مصر وبلاد الشام والعراق والمغرب العربي والأندلس. ولهذا، نرى أن أسرة الحريري منتشرة في الكثير من المناطق البيروتيّة واللبنانيّة والعربيّة، سواء في شبه الجزيرة العربيّة، وفي مصر والعراق وبيروت وصيدا وجنوب لبنان ودمشق وحماه وحلب وحوران وبُصرى الشام والكثير من البلاد الشامية. لهذا، فإن «معجم قبائل العرب» يؤكد بان عشائر الحريري من أكبر عشائر حوران في سوريا، وكانت في العهد العثماني تملك ثماني عشرة قرية.

ويشير ابن الأثي من أن المشهور من آل الحريري المحدث أبو نصر محمد بن عبدالله الحريري الغنوي، روى عن المحدث سعيد بن أبي عروبة. كما برز أبو محمد القاسم بن علي الحريري، صاحب «مقامات الحريري» المشهورة، المتوفى (515هـ).

ويشير «المنجد في الأعلام» (ص 232) إلى العديد ممن برز من آل الحريري، منهم السيد علي بن الحسين الحريري، المتوفى عام (645هـ/ 1247م)، مؤسس الطريقة الحريرية. له آراء في وحدة الوجود فنّدها الإمام ابن تيمية، أصله من حوران، نشأ في دمشق، له موشحات بعضها بالعامية، توفي سجيناً. كما برز من الأسرة ابو محمد القاسم بن علي الحريري (1054-1122م)، من مواليد المشان في العراق، نحوي وكاتب رشيق من المقلدين. من الأدباء الذين تعلّموا في البصرة متردداص على مجالس الدباء، وولي فيها منصب «صاحب الخير» في ديوان الخليفة. أشهر مؤلفاته «مقامات الحريري»، وهي خمسون على مثال مقامات بديع الزمان الهمذاني.روايتها الحارث بن حمّام يقص مغامرات بطلها أبي زيد السروجي. لغتها متينة مسبوكة، لا تخلو من بعض التصنع. دُرِّست مدة طويلة في المدارس.

ومن الملاحظ، أن صالح بن يحيى في كتابه «تاريخ بيروت» عندما أراد مدح الأمير فخر الدين عثمان بن سيف الدين... فأشار إلى أنه كان يعرف شيئاً من مقامات الحريري، الذي هو «شيخ الثقة نائب ناظر الجيش في ديوان الجيش في الشام». وتشير المصادر التاريخية إلى العديد من آل الحريري في مختلف المناطق العربيّة والإسلاميّة، ومنهم من حمل ألقاب: الشريف، الصاوي، خالد، البِر، العرب...

إن الجدّ الأعلى لآل الحريري المنسوب لآل البيت النبوي الشريف، هو السيد علي أبي الحسن الحريري الرفاعي، (645هـ-1247م)، توطن في قرية بُصرى الشام المعروفة باسم بُصرى حرير، كما عرفت باسم بُصرى إسكي شام موقعها في حوران. ومن ثم أقام في دمشق، وإلى هذا الجدّ يُنسب السادة الحريرية الرفاعية، وهو ابن السيد سيف الدين عثمان بن حسن بن محمد عسلة بن أبي الفوارس الحازم الرفاعي الحسيني (رضي الله عنه)، وهو ابن السيد أبي علي احمد المرتضى ابن السيد علي أبي الفضائل ابن السيد الحسن الأصغر رفاعة الهاشمي المكي، نزيل بادية إشبيلية في المغرب وفي الأندلس عام (317هـ)، وإليه تعود نسبة آل الرفاعي، وهو ابن السيد أبي رفاعة المهدي ابن السيد أبي القاسم محمد ابن السيد الحسن الأكبر المكنّى بابي موسى رئيس بغداد نزيل مكة المكرمة ابن السيد الحسين عبد الرحمن الرضي المحدث ابن السيد احمد الصالح، ويقال له الأكبر ابن السيد موسى الثاني، ويقال له أبو يحيى وأبو سبحة ابن المير الجليل السيد ابي محمد إبراهيم المرتضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي زين العابدين السجّاد ابن الإمام الحسين ابن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

ويبدو بأن فرعاً آخر من آل الحريري ينسب إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، وقد جاء في كتاب «بحر الأنساب المسمى بالمشجر الكشاف لأصول السادة الشراف» (ص76) بأن نسب السيد محمد بن محمد الحريري إبن عائشة بنت نافع بن خضرة بنت علي بن حجازي بن نور الدين بن سليمان بن علي المصباح بن قاسم بن داود بن مصباح بن عمر بن حريفيش بن عبد الرحيم بن حسن بن حماد بن عثمان بن عطية بن سعيد بن عليش بن حماد بن تركي بن قرشلة بن احمد بن علي بن موسى بن يونس بن عبدالله بن الحسن المثنّى بن الحسن السيطي ابن الإمام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه).

وتشير بعض المصادر التاريخية بان احد أجداد آل الحريري الإمام الرفاعي، قد توطن منذ مئات السنين في مدينة بعلبك، وكان إماماً ومدرّساً وخطيباً في مسجدها الجامع المعروف باسم الجامع العمري الكبير وقد دُفن فيه، وهو المسجد الذي تم ترميمه منذ سنوات على نفقة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وبرعاية من مؤسسة الحريري، وهو يعتبر من أقدم الجوامع في بعلبك.

ومن الأهمية بمكان القول، ان العهد العثماني شهد نزوحاً من بعض أجداد آل الحريري من المدن الشامية إلى بيروت وصيدا وسواهما، لهذا أشارت وثائق سجلات المحكمة الشرعية في بيروت المحروسة؛ لا سيما السجل (1259هـ/1843م، ص46،76، ... 86) إلى العديد من آل الحريري، منهم السادة: الحاج عبدالله الحريري، وشقيقه السيد مصطفى الحريري، والحاج محمد علي الحريري. وشهد شارع المعرض في القرن العشرين حتى بداية عام (1975م)، محلات الحريري للمواد الغذائية والتموين المنزلي، وكانت من أشهر المحال التجارية في باطن بيروت. ومن الوجوه البارزة من آل الحريري في بيروت في العهد العثماني السيد حسن الحريري، والسيد يوسف الحريري، وهما من جملة وجوه بيروتية أيّدت الحركة الإصلاحية في الدولة العثمانية، كما أيّد هؤلاء المؤتمر العربي الأول، المنعقد في باريس عام (1913م).

ومن الأهمية بمكان القول بأن أسرة الحريري في بيروت وصيدا والمناطق اللبنانيّة والعربيّة كافة، برزت بروزاً لا مثيل له مع بروز الرئيس الشهيد رفيق بهاء الدين الحريري (1944-2005) في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والخيرية، وفاءً وتقديراً للرئيس الشهيد فإنني سأخصص الدراسة المفصلة التالية عن جهوده وإسهاماته:

HARIRI0

ولد في مدينة صيدا لبنان عام 1944م، اتسمت حياته بالكفاح المتواصل. ونهض بالمسؤوليات التي ألقيت على عاتقه وطنياً وسياسياً. وكرجل أعمال، انطلق من المملكة العربيّة السعوديّة. وجه طاقاته لخدمة بلده لبنان الذي قاسى من ويلات حرب طويلة، فوضع امكاناته في تصرف الدولة بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982م، وأسهم في مساعدة أكثر من ثلاثين ألف طالب لبناني على متابعة دراساتهم في جامعات لبنان وأوروبا وأميركا.

في سبيل العمل على وقف الحرب الأهلية في لبنان أسهم في الإعداد لمؤتمر لوزان عام 1984م ولمؤتمر الطائف العام 1989م الذي وضع النهاية السلمية لتلك الحرب.

سمّي رئيساً للحكومة اللبنانية عدة مرات خلال ولاية الرئيسين إلياس الهراوي وإميل لحّود.

وأطلق من خلال مشاركته في الحكم، أكبر عملية إعمار وبناء في تاريخ بلده، من علاماتها البارزة إعادة إعمار وسط بيروت الذي بدأ سنة 1994م. عُرف بعلاقاته الدولية وسعة اتصالاته الدبلوماسية، لا سيما في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وتشجيع رجال الأعمال العرب والأجانب على الاستثمار في لبنان.

حائز على أوسمة عدة من معظم الملوك والأمراء ورؤساء الدول العربيّة والصديقة.

يكشف رفيق الحريري جميع أوراقه لمن يسأل عن ثروته التي جعلته يتبوأ بجدارة لائحة كبار الأغنياء في العالم.

وتجده معتزاً وفخوراً بانتمائه إلى المملكة العربية السعودية، تماماً كانتمائه إلى وطنه لبنان. ومن خلال قراءة هذه الأوراق يمكن تتبع التطور في سيرة حياة الحريري من النشأة في عائلة متواضعة تعتاش من الزراعة إلى الدخول المبكر في العمل ثم إلى عالم المال والاعمال الذي سطع فيه نجماً بسرعة قياسية لينتقل بعدها إلى السياسة من بابها الواسع رئيساً لمجلس الوزراء اللبناني في فترة صعبة وعصيبة لتكتشف فيه هوية رجل الدولة التي باتت الأحب والأقرب اليه.

فمن ولادته إلى انكبابه حالياً على إدارة معركة انتخابات نيابية على إمتداد لبنان عبر تيار سماه "المستقبل"، وهي تسمية لافتة في ارتباطها بشخصيته وامتدادها إلى أعماله وتوجهاته، استطاع رفيق الحريري أن يقطع مشواراً نموذجياً في العصامية والنجاح، بين السفح والقمة، محققاً قفزات قياسية فيها الكثير من الاجتهاد والعمل الدؤوب والمضني لكنها حافلة أيضاً بالتوفيق والرضا من الله والوالدين، كما يردد دائماً.

وتقرأ في "أوراق العمر" أن الرجل عمل محاسباً حتى يستطيع إتمام دراسته الجامعية في كلية التجارة في جامعة بيروت العربية قبل أن ينتقل (بفعل إعلان في جريدة يومية) إلى السعودية حيث عمل في التدريس، ثم عاد إلى تدقيق الحسابات مجدداً، جامعاً هذه المرحلة في 6 سنوات، معيلاً لنفسه ومعيناً لعائلته، قبل أن يضع قدمه عام 1970 في عالم المال والأعمال مؤسساً شركة صغيرة سماها "سيكونيست". وينطلق بقوة عام 1977 عبر قبول تحد فيه الكثير من المغامرة من خلال اشتراكه مع شركة "أوجيه" الفرنسية في إنشاء فندق في الطائف، في فترة تسعة اشهر، بعدما اعتذرت شركات كبرى عن قبول هذا التحدي في حينه، ليلاقي أول نجازاته الكبرى ويؤسس بعدها "سعودي أوجيه" المولودة من دمج "سيكونيست" مع "أوجيه" وليكسب بعدها في عام 1987 شرف الجنسية السعودية التي يعتبرها من أهم العلامات المضيئة في سيرته الذاتية.

قد يكون لقب "رجل الدولة" او "الرئيس" افضل الألقاب بالنسبة إلى رفيق الحريري، الذي يتجاهل عمداً خلفيته كأحد كبار رجال الأعمال في العالم.

ويبدو ذلك جلياً من خلال انغماسه في تفاصيل الحركة السياسية في لبنان والمنطقة امتداداً إلى نفوذه وعلاقاته الدولية، مما يجعل الغوص في حجم ثروته واستثماراته مهمة صعبة يمكن الركون فيها على التقديرات ولكن يستحيل تكوين صورة متكاملة وحقيقية. وهذه المعادلة تنطبق على جميع الثروات الكبرى التي يحتفظ أصحابها بخصوصيات تجعل الرؤية أحياناً كرؤية جبل الجليد.

◄نجاح استثماري وعودة للصحافة

لكن هذا التجاهل لخلفية رجل الأعمال وموضوع الثروة، لا يحول دون وجود شفافية واضحة في الإعلان عن الأعمال وحجمها وفي مقدمها شركة "سعودي أوجيه" التي نفذت اكبر المشاريع العقارية وأهمها:

فندق انتركونتينتال في مكة المكرمة

مركز الشروق الحكومي في الظهران

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة

المركز الحكومي في الرياض بتكلفة 3 مليارات ريال سعودي

مشروع "الفا" في الرياض الذي يضم مجلس الشورى والديوان الملكي

فندق "المسرة" الدولي في الطائف

المدينة الحكومية في الدمام

قصر الأمويين في دمشق

والاستثمارات العقارية التي تتجاوز المنطقة العربية إلى أوروبا والامتداد تباعاً إلى القطاع المصرفي العربي عبر الملكية التامة لمجموعة البحر المتوسط التي تضم:

بنك البحر المتوسط

البنك اللبناني السعودي

 وملكية بنسب متفاوتة لأسهم في بنوك عربية وأوروبية منها:

البنك العربي

اندوسويز

واستثمارات موازية في القطاع المالي والأوراق المالية المصدرة في البورصات العالمية والعائدة لمؤسسات تعمل في حقول مختلفة

استثمارات سياحية على غرار فنادق "شيراتون" في السعودية

ثم الاستثمارات الإعلامية :

تأسيس شبكة " تلفزيون المستقبل "

شراء "إذاعة الشرق" من مؤسسها ومالكها إبن صيدا رغيد الشمَّاع التي تبث من باريس منذ عام 1981

امتلاك امتياز مجلة "المستقبل" وجريدة "صوت العروبة"

إصدار جريدة "المستقبل"

امتلاك نسبة اسهم في دار "النهار" العريقة.

* وآخر الاستثمارات المعلنة الإسهام بتأسيس الشركة العربية القابضة في سورية برأس مال قدره 100 مليون دولار بالاشتراك مع ثلاث مجموعات سعودية كبرى.

سياسة الأعمال وأعمال السياسة

وفي خط مواز للإعمال والاستثمارات، انشأ الشيخ رفيق الحريري عام 1979 "مؤسسة الحريري" وهي منظمة لا تبغي الربح ساهمت في تعليم اكثر من 35 ألف طالب لبناني في الجامعات الرسمية والخاصة في لبنان وفي جامعات أوروبا وأميركا، كما تؤمن المؤسسة أيضاً خدمات صحية واجتماعية وثقافية.

ومع تغليب شخصية السياسي على شخصية رجل الأعمال، بدأ التحول في شخصية الحريري والاهتمام بالشؤون اللبنانية مبكراً أيضاً. وبدأ ظهوره "السياسي" على ساحة الأحداث عام 1982 لكن من الباب الاقتصادي، حيث يتذكره اللبنانيون جيداً "كفاعل خير" وضع إمكاناته بتصرف الدولة اللبنانية وساهم في إزالة الآثار الناجمة عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان ووصوله إلى العاصمة بيروت.

وفي 20/10/2004 قدّم إستقالته من رئاسة الحكومة إلى الرئيس اللبناني أميل لحّود الذي قبلها. وأكّد مساعدوه في بيان صحفي أن الحريري ليس مرشحاً لتولي الرئاسة وأنه لن يشكّل حكومة جديدة.

يوم الإثنين في الرابع عشر من شهر شباط 2005 سقط الرئيس رفيق الحريري شهيداً في خضمّ معركة كبرى لاستعادة الحياة السياسيّة اللبنانيّة إلى سياق ديموقراطي عبر انتخابات نيابيّة حرّة.

سقط الرئيس الحريري شهيداً ليس بعيداً من ساحة المعركة أي مجلس النواب حيث كان قبل دقائق من اغتياله يشارك في جلسة اللجان النيابية المخصصة لمناقشة قانون الانتخاب.

سقط الرئيس الحريري رمز الاعتدال الإسلامي ورجُل الوفاق الوطني ورجُل الدولة، بنتيجة التحريض ضدّه وضد القوى التي ترفض بقاء الوضع اللبنانيّ على حاله من الاستباحة لوفاقه ودستوره وميثاق عيشه المشترك، من قبل السلطة وموالاتها اللتين وجّهتا اتهامات للرئيس الشهيد وأركان المعارضة بأنهم متآمرون وخونة كما جاء في بيان قادة المعارضة.

سقط الرئيس رفيق الحريري شهيداً على يد الجريمة المنظمة وأجهزتها لأنّه كان يمثل واسطة العقد اللبنانيّة، ولأنه كان رجل التسويات التاريخية.

سقط شهيداً لأنّه الرجل ذو المكانة العربية والدوليّة الذي وظّف علاقاته الكبيرة في خدمة وطنه وأمته.

سقط شهيداً لأن القتلة الذين يعرفون أنفسهم كما قال بيان كتلة "قرار بيروت"، ظنوا انهم يقطعون مسار الحريّة والديموقراطيّة... والعروبة المنفتحة.

سقط شهيداً لأنهم يظنون أن لا مكان للكبار الكبار في لبنان.

سقط الإنسان في رفيق الحريري، وهو الحادب على كلّ ذي حاجة.

شهيد الوطن والأمة يخسره محبّوه الكثر ليس في بيروت التي أطلقت مشاعر الحبّ والحزن فقط، وليس في لبنان وحسب، بل في كلّ مكان زرع فيه من روحه الاعتدال والمحبّة.. وتصميم الرجال الرجال.

ولأن الرئيس الشهيد كان يمثل كلّ هذه القيم والأبعاد، بكاه لبنان من أقصاه إلى أقصاه.

قضى شهيداً مع 6 من مرافقيه، تاركاً النائب باسل فليحان معلقاً بين الحياة والموت وقد أصيب بجروح بالغة الخطورة وبحروق كبيرة استدعت نقله إلى فرنسا للعلاج.

المعارضة في الاجتماع الذي عقده قادتها في دارة الرئيس الشهيد في قريطم حمّلت "السلطة اللبنانية والسلطة السورية بكونها سلطة الوصاية، مسؤولية هذه الجريمة"، ودعت "المجتمع الدولي إلى تحمّل مسؤوليته"، وإلى "تشكيل لجنة تحقيق دولية تضع اليد على هذه الجريمة".

وطالبت بـ"رحيل السلطة الفاقدة الشرعية الدستورية والشعبية"، وبـ"قيام حكومة انتقالية". ودعت إلى انسحاب القوات السورية قبل الاستحقاق الانتخابي، وقرّرت الإضراب لمدة ثلاثة أيام اعتباراً من اليوم.

الزعيم المعارض ورئيس الحزب "التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط، هو احد المستهدفين مباشرة بجريمة الاغتيال نظراً إلى العلاقة الوثيقة التي تربطه به، تماماً كما كان مستهدفاً بمحاولة اغتيال النائب مروان حمادة من قبل، توجه فور وقوع الجريمة إلى مستشفى الجامعة الأميركية حيث نقل جثمان الرئيس الراحل ثمّ داوم في قريطم حيث ترأّس اجتماعاً للمعارضة عند السادسة مساء لتحديد الموقف والخطوات.

وأكد بعد الاجتماع أنه "من غير الممكن أن يستمر لبنان أسيراً"، وأضاف "نريد أن نقول لهم ارحلوا عنا واتركونا".

الجريمة

إمتدّت يد الجريمة المنظمة إلى الرئيس الحريري لدى مرور موكبه قادماً من ساحة النجمة قرب فندق "السان جورج" على الطريق البحريّ للعاصمة، فاستشهد الزعيم اللبناني على الفور واستشهد عدد من مرافقيه، بينما أصيب النائب باسل فليحان بجراح خطرة تستدعي نقله إلى الخارج للعلاج.

مشهد مكان الانفجار "بدا وكأن مذبحة وقعت للتوّ" كما وصفه الكاتب البريطاني روبرت فيسك. والسيارة المفخخة التي استخدمتها يد الجريمة المنظمة كانت محشوة بالمواد المتفجرة التي تمّ تفجيرها يدوياً، وليس عن بُعد لأن السيارات التي يستقلها الرئيس الشهيد تعتمد وسائل للتشويش على الموجات. احترقت 22 سيارة على الاقل، واستشهد 8 بين مرافقين ومواطنين... وسقط جرحى بالعشرات.

وقررت عائلة الرئيس الشهيد تشييعه بعد يومين من دارته في قريطم إلى مسجد محمد الأمين في وسط بيروت حيث وارى الثرى.

وقد شيّع لبنان من أقصاه إلى أقصاه، بمسلميه ومسيحييه، بأطفاله ونسائه ورجاله، بأجراس الكنائس جنباً إلى جنب مع أصوات المآذن الصادحة بكلام الله سبحانه وتعالى، الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى مثواه الأخير في مسجد محمد الأمين، فرافقه مليون من لبنان إليه.

لكن لبنان برمته، وخصوصاً بعاصمته بيروت، الذي لم ينم منذ أن حلّ النبأ المشؤوم كالظلمة في ربوعه، لم ينم أمس أيضاً حتى بعد أن أيقن أن الرئيس الشهيد نام في مثواه، في محطة انتقالية إلى جنّة الخلد.

نظّم البيروتيون، بل اللبنانيون من كل المناطق "ورديات" للسهر بجنب الرفيق، فكما حلّ الحريري ملاكاً على أبناء وطنه، رافق أبناء الوطن ملائكة ملاكهم، مصممين على متابعة مسيرته.

استحق الرئيس الشهيد ألقاباً كثيرة في حياته، لكن اللبنانيين بكوه أمس صانع استقلالهم الجديد، وانتحبوا باسم دمائه التي ستفتح طريق الحرية. وإذا كان القتلة قد نالوا منه، فلم ينجحوا في النيل من الوحدة الوطنية التي كان الرئيس الشهيد الركيزة الأساسية لها.

قيل عنه بحق إنه رجل التسويات التاريخية، وعلى الأرجح لأنه كذلك قتلوه. قتلوه لأنهم ربما أدركوا أن لا تسوية يمكن أن يجترحها الرئيس الراحل مع القمع والاستبداد.

والردّ الشعبي أتى لا مواربة فيه. فبيروت أم العواصم العربية، بيروت جمال عبد الناصر، بيروت القضية العربية، بيروت المقاومة ضد الغزو الصهيوني، بيروت كمال جنبلاط وكل الأحرار.. بيروت هذه كانت أمس ناطقة بالحرية والديموقراطية. فأمام دماء رفيق الحريري، صرخ اللبنانيون في بيروت ومنها أن لا قضية تعلو فوق الحرية والديموقراطية، وأن لا قضية إلا الحرية والاستقلال.

في تاريخ بيروت ـ ولبنان ـ محطات تاريخية أبكت اللبنانيين وأنزلتهم إلى الشارع. مع وفاة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر نزلوا، ومع وداع قادة فلسطينيين نزلوا.. لكنهم أمس كانوا أكثر من كل مرة، ولم يتوقف السيل البشري في وداع قائد مسيرة محو آثار عدوان 1982 الإسرائيلي، وقائد مسيرة السير بلبنان في ركاب العصر.. والآن بطل الاستقلال الذي تقاطر قادة العالم إلى بيروت لوداعه.

استمر البيروتيون ـ واللبنانيون ـ في السير نهاراً ومساء.. وصلوا الشمس بالقمر.. ليس تيهاً أو هيماناً على الوجوه، بل تأكيداً لكون الرئيس الشهيد مستمراً فيهم ومعهم.

وكم كان البيروتيون ـ واللبنانيون ـ أمراء بأميرهم الشهيد عندما استقبلوا صديقه الوفي الرئيس جاك شيراك بالتكبير عن روح البطل، وبالهتاف للصداقة مع فرنسا التي انحنى رئيسها وعقيلته أمام ضريحه تشديداً على المثل التي ناضل الرئيس الشهيد من أجلها.

إن الموت حق، ورفيق الحريري كان ظاهرة ولم يكن أسطورة، والظاهرة تموت.. لكن من أجل أن يحيا الوطن.

ومنذ اللحظة، اكتمل المشهد اللبناني حول الرئيس الحريري.. ولا عودة إلى الوراء.. فهل يظن أهل الجريمة المنظمة أن عشاق الحرية لا يعشقون الموت قي سبيلها؟.

كان ينقصُهُ لقب (شهيد) ... فحصَل عليه

إلى أين من هنا?

رحل رفيق الحريري، فهل أرتاح المتعَبون به?

لو عاش عقداً أو عقدين أو أكثر، فهو لن يكون ليحقق ما تحقَّق يوم أغتياله ويوم تشييعه.

أُلصِقت به كل التهم في حياته، وبرِّئ منها دفعةً واحدة في استشهاده.

تحوَّل رمزاً للمعارضة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن بيروت مروراً بالقلب، الجبل.

ما تحقق إجماعٌ على شخصٍ في لبنان كما تحقق الإجماع على شخص الرئيس الحريري كرمز للوحدة الوطنية:

معارِضوه تلوا بعد اغتياله فعلَ الندامة، ولكن بعد ماذا?

الذين يُبسِّطون كلّ شيء يوهمون أنفسهم، قبل الآخرين، بأن كل شيء إنتهى وأنها مرحلة (جنون) عابر، ولم يعُد هناك من شيء أسمه رفيق الحريري.

هؤلاء لا يضحكون على الناس بل على أنفسهم.

فالمليون لبناني الذين ساروا خلف نعش الرئيس الحريري لم يفعلوا ذلك حبَّاً به فقط بل كرهاً، بالذين تعاطوا باستخفاف مع الناس وبتقديم مصالحهم الشخصية قبل التفكير لحظة بلقمة عيش كريمة للمواطنين.

هؤلاء، لماذا لم يتجرأوا على التذكير بما كانوا ينعتونه به?

هل لأنهم (أكتشفوا) أن كلّ إتهاماتهم لفظها الناس ورفضوها?

أين مقولات الهدر وتغطية الفاسدين? هل طُويَت بزواله?

مسكين الرئيس الحريري ومظلوم في آن واحد:

مسكين لأنه أعتقد أن السكوت يردع المتطاولين. والحقيقة ستظهر ومن (أذكى) ما فعلته السلطة انها عادت وقبلت بدولة محايدة للتحقيق وشهر الحقيقة.

ومظلوم لأن الإتهامات التي طالته لم يُثبت مُطلقوها أية تهمة منها.

بعد كل ذلك، إلى أين من هنا?

أليست مسألة تدعو إلى التفكير ملياً أن الشعب (كشف الجريمة) في وجدانِهِ قبل أن تبدأ التحقيقات?

الرئيس رفيق الحريري مات شهيداً، من كل الألقاب التي حصل عليها في حياته، بقي ينقصه لقبٌ واحد، هو لقب (الشهيد) فنالَهُ.

ما هذه السلطة التي لا تُقدِّم إلى كبارِها سوى (وسام) الشهادة?

الأوسمة والميداليات

وسام جوقة الشرف الفرنسية من رتبة فارس 1981

وسام الاستحقاق الإيطالي من رتبة فارس 1982

وسام الأرز اللبناني من رتبة كومندور 1983

وسام القديس بطرس والقديس بولس 1982

وشاح الملك فيصل 1983

وسام خوسيه سان مارتين من الأرجنتين 1995

ميدالية مدينة باريس 1983

المفتاح الذهبي لمدينة بيروت 1983

المفتاح الذهبي لمدينة سان باولو 1995

جائزة الصليب الأكبر الفرنسي 1996

الوشاح الأكبر الكوري1997

القلادة الكبرى المغربية 1997

مجموعة الحريري

تملك مجموعة الحريري عقارات وأراضي في واشنطن وبوسطن وتكساس ونيويورك ومعظم أسهم مبنى (تكساس تاور في هيوستن). وعلاوة على ذلك تمتلك المجموعة مزرعة كبيرة في زيمبابوي. وتقدّر ثروة الرئيس الحريري ما بين أربعة وستة مليارات دولار، وتحت تصرّفه طائرة خاصة – أسمها بهية، على شقيقته، ويخت كبير.

7التقديرات العلمية

دكتوراه فخرية من جامعة جورجتاون (1996).

وسام العلوم الشرف من جامعة بوسطن (1986).

دكتوراه فخرية من جامعة بوسطن (1986).

دكتوراه فخرية من جامعة نيس (1988).

دكتوراه فخرية من جامعة بيروت العربية (1994).

دكتوراه فخرية من جامعة جورجتاون (1996).

◄مجموعة (ميغ)

يملك الرئيس الحريري (مجموعة ميغ) التي تستخدم نحو 15 ألف موظف وتضم المؤسسات التالية:

بنك البحر المتوسط.

البنك السعودي اللبناني.

الشركة العربية العالمية للتأمين وإعادة التأمين.

الشركة المتحدة للإعلان والنشر والطباعة.

شركة الخدمات والمعلوماتية.

شركة المصنوعات الخفيفة.

شركة (الحاسب).

مجموعة البحر المتوسط للخدمات.

أهم المشاريع التي نفذتها (سعودي أوجيه)

فندق أنتركونتيننتال في مكة المكرمة.

مركز الشروق الحكومي في الظهران.

مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة.

المركز الحكومي في الرياض (بلغت تكلفته 3 مليارات ريال).

مشروع (ألفا) في الرياض الذي يضمّ مجلس الشورى والديوان الملكي.

فندق (المسرة الدولي) في الطائف.

المدينة الحكومية في الدمام.

قصر الأمويين في دمشق.

الجوائز

جائزة الخدمات المميزة من اتحاد غوث الأطفال 1983

جائزة رجل السلام التي تمنحها مؤسسة (معاً من أجل السلام) الإيطالية

لم تمهله الحياة طويلاً بعدما أعطته كثيراً

غدرت به مصائره الفاجعة أخيراً وهو في ذروة العمر؛ فقد خانته أيامه وهو ما زال يطارد أوهاماً في بلد مسيّج بالوهم والكراهية.

لم يمهله الذين يريدون سوءاً بلبنان، بهويته العربية وبسلمه الأهلي وبدوره المفتقد فخططوا لاغتياله، واغتالوا معه آمالاً عريضة كان يعلقها اللبنانيون عليه.

إنها مجرد ستين عاماً فقط أمضاها رفيق الحريري وهو يصارع أقداره بصبر عجيب وبلا توقف أو مهادنة.

منذ البدايات الأولى كان مرصوداً لمواجهة قسوة العيش ومرارة الزمان، وكأنه كان منذوراً أيضاً لسباقات لا تنتهي، وطالما فاز دوماً في نهاياتها الحاسمة إلا هذه المرة، فقد خذلته النهايات، وتغلب مغتالو الآمال عليه، وانتهت اللعبة الفاجعة.

عاش طفولته في عائلة بسيطة مثل معظم عائلات صيدا؛ فلم تكن عائلته تمتلك ثلاجة أو غسالة أو موقد بوتوغاز أو غرفة طعام. وكان يعمل في عطلاته المدرسية في قطاف الحمضيات في بساتين صيدا، ثم في قطاف التفاح في سهل البقاع بعد نهاية موسم الحمضيات. وعلى الرغم من ذلك، فقد أنهى المرحلة الابتدائية في مدرسة فيصل الأول المجانية التابعة لجمعية المقاصد الإسلامية في صيدا، وتابع دروسه الثانوية في ثانوية المقاصد أيضا، ونال التوجيهية المصرية في سنة 1964. ثم التحق، مثل معظم أبناء الفئات (المستورة)،بكلية التجارة في جامعة بيروت العربية سنة 1965، وراح يعمل، في أثناء دراسته، محاسبا في (دار الصياد) نهارا، ومصححا في جريدة (الأنوار) ليلاً ليتمكن من إعالة نفسه.

لم يكن رفيق الحريري مجرد طالب مجتهد منكب على دراسته فحسب، بل انه، فوق ذلك، كان ناشطا في الشأن السياسي وفي المجال القومي بالتحديد، فانتمى الى حركة القوميين العرب وناضل في صفوفها، ونفذ مهمات حزبية شتى بين لبنان وسوريا. ومع هذا فإن تطلعاته السياسية لم تصرفه عن التطلع الى تحسين أحواله المالية. وعندما لاحت له فرصة السفر الى المملكة العربية السعودية أقدم ولم يتردد. وفي مدينة جدة عمل معلماً للرياضيات في (ليسيه جدة)، غير أنه لم يلبث أن انتقل الى مؤسسة ناصر الرشيد ليعمل مدققا للحسابات، ثم عمل محاسبا أيضاً لدى شركة نقولا عيسى عكاوي.

تعرّف رفيق الحريري الى عالم المقاولات والأسواق على يدي الفلسطيني زين مياسي الذي عمل في إحدى مؤسساته في الرياض خمس سنوات. وما ان تكشفت له أسرار عالم المقاولات حتى أدار ظهره للمحاسبة، وشرع في الاستعداد لتأسيس شركة خاصة له. وفي سنة 1971 نجح في تأسيس هذه الشركة التي أسماها (سيكونيست). وتمكنت شركته في سنة 1977 من الاشتراك مع شركة فرنسية تدعى (أوجيه) في بناء قصر المؤتمرات في الطائف مع ملحقاته الملكية، وفندق درجة أولى وسائر الخدمات خلال تسعة أشهر فقط. وبعد هذا النجاح جرى دمج شركة (سيكونيست) وشركة (أوجيه) في سنة 1979، وصار اسمها (سعودي أوجيه) وامتلك الرئيس الحريري أسهم الشركة الجديدة بالكامل.

حتى سنة 1978 لم يكن لرفيق الحريري أي حضور سياسي في لبنان. ولعل أول ظهور له في هذا الحقل كان سنة 1980 حينما أنشأ المجمع الثقافي والطبي في منطقة كفرفالوس القريبة من صيدا. وهذا المجمع، الذي كان يتألف من مستشفى وكلية للطب وكلية للهندسة ومدرسة مهنية وثانوية ومجمع رياضي كبير، دمرته ميليشيات جيش لبنان الجنوبي في الحرب التي عصفت بتلك المنطقة بعدما رفض المساومة مع (القوات اللبنانية) على استنقاذها مقابل صمته عن الاحتلال.

على أن الظهور السياسي الفعلي لرفيق الحريري بدأ عقب انتهاء الاجتياح الإسرائيلي للبنان في سنة 1982، فوضع إمكانات شركاته كلها في تصرف الدولة اللبنانية، بل انه بادر الى تأسيس شركة (أوجيه لبنان) التي نفذت عملية شاقة وشاملة لإزالة الركام الذي خلفه الاجتياح الإسرائيلي في بيروت وصيدا، وعمدت إلى تنظيف العاصمة وتأهيلها مجددا وبناء أرصفتها وإصلاح شبكات الماء والكهرباء والهاتف، وإنارة الشوارع، ثم قامت بعملية تحديث وتجميل شاملة لمدينة صيدا، وتولت أيضا تأهيل مدينة طرابلس بعد الدمار الذي أصابها في سنة 1983.

إلى جانب هذا الجهد التنموي مارس رفيق الحريري نشاطا سياسيا فاعلا على صعيد الوساطة الإيجابية بين الرئيس أمين الجميل والحركة الوطنية اللبنانية عبر سوريا. وكان أول (ظهوره السياسي) الى جانب الأمير بندر بن سلطان في دمشق، التي طالما انتقل إليها من قبرص وتنقل مرات عدة بالهليكوبتر بين دمشق والقصر الجمهوري اللبناني. وفي هذا السياق كان للحريري شأن مهم في إقناع أمين الجميل بإلغاء اتفاق 17 أيار 1983.

وحينما حصل من الرئيس الجميل على وثيقة بهذا الشأن بادر، مع جان عبيد، الى السفر الى دمشق عن طرق غير مألوفة، تحاشياً للمطاردة التي توقعاها والتي حصلت فعلا من دون أن توفق في (اصطيادهما)، وهكذا قدما للمسؤولين السوريين تلك الوثيقة التي تقرر، في أثرها، عقد مؤتمر جنيف في نهاية سنة 1983 الذي حسم إلغاء اتفاق 17 أيار، وأكد عروبة لبنان. ثم ان الحريري كان أحد مهندسي مؤتمر لوزان في سنة 1984 أيضا.

ومنذ ذلك الوقت فصاعدا بات الحريري واحدا من صناع القرار السياسي في لبنان من خلال علاقته بقادة العمل الوطني عموما، من دون القطع مع أركان السلطة التي سرعان ما دخلها هؤلاء... على أن الدور الأبرز للحريري هو ما صنعه مع الأخضر الإبراهيمي حينما وقع الفراغ السياسي غداة نهاية ولاية أمين الجميل؛ وهنا بالتحديد كان للحريري شأن مهم جدا في عقد مؤتمر الطائف في سنة 1989 الذي أنهى، تقريبا، الصراع اللبناني المسلح، وأدى إلى انتخاب رينيه معوض رئيسا للجمهورية اللبنانية. وحينما اغتيل رينيه معوض في 22/11/1989 بادر، على الفور، إلى استضافة عدد كبير من النواب اللبنانيين في فرنسا، وساهم في انتخاب الرئيس الياس الهراوي وقدم له مقرا مؤقتا في منطقة الرملة البيضاء، وبدأ بإمداد الجيش اللبناني بنصف مليون دولار شهريا، للطبابة... ثم باشر جهده المميز لترميم صورة الدولة ومؤسساتها.

منذ مطلع عقد التسعينيات في القرن العشرين صار رفيق الحريري مرجعية سياسية مهمة جدا في الحياة العامة اللبنانية، لذلك رشحه الرئيس الهراوي لتأليف الحكومة التي تمكن من تأليفها في 31/10/1992. وقد ارتبطت حكومة الحريري بعنوانين بارزين هما: الشركة العقارية لإعادة إعمار الوسط التجاري لمدينة بيروت (سوليدير)، وخطة النهوض الاقتصادي. وهذه الخطة التي امتدت بين 1993 و2002 بلغت تكلفتها 12 مليار دولار، وجرى في سياقها بناء مطار جديد في بيروت سنة 1996 يمكنه أن يخدم ستة ملايين راكب، وتركيب نحو مليون ونصف مليون خط هاتفي جديد، وتشغيل طاقة كهربائية بقوة 13 ألف ميغاواط.

لم يكن الحريري قطبا من أقطاب السياسة اللبنانية فحسب، بل أصبح، بالتدريج، أحد أقطاب الحياة السياسية العربية، وامتاز بحيويته الفائقة، وبقدرته على المتابعة، ودأبه على تحقيق إنجازات كبيرة. وبهذا المعنى تمكن من عقد مؤتمري باريس 1 و2 ومؤتمر أصدقاء لبنان في واشنطن سنة 1996 وربما من دونه ما كان في الإمكان عقد مؤتمر الفرنكوفونية في بيروت سنة 2002.

هجر رفيق الحريري بداياته الأولى، لكنه لم ينس، على الإطلاق، أترابه ورفاقه. فأنشأ (مؤسسة الحريري) التي سرعان ما راحت تنفق، بلا حساب، على تعليم الطلاب في الجامعات الغربية حتى وصل عدد الطلاب الذين درسوا على نفقة هذه المؤسسة الى نحو 34 ألف طالب، وبمعدل 80 مليون دولار سنويا.

هجر رفيق الحريري أيام الفقر والقسوة، وانتقل من شاب لا يجني شهريا أكثر من 200 ليرة لبنانية (80 دولارا آنذاك)، إلى رجل أعمال يكسب مئات الملايين من الدولارات سنويا. وبهذه الصفة صار الحريري مثالاً للعصاميين، وفي الوقت نفسه مدعاة لغيظ الآخرين وللحسد بجميع أشكاله.

الآن، مَن يحسد الحريري على نهايته الفاجعة بعدما غدرت به أيامه، ولم تمهله طويلاً ليرى بأم عينيه ثمرات عمره وحلاوة المال والسلطة والسياسة معاً؟

يوم الوداع

غطت دماء لبنان، ممثلاً برفيق الحريري، وجه الشمس، ظهيرة يوم الاثنين في الرابع عشر من شباط 2005... فالجريمة أخطر من اغتيال قائد سياسي باهر الحضور، محلياً وعربياً وعالمياً: إنها محاولة لاغتيال وطن، المقتول فيها أكبر بما لا يقاس من قاتله، كما أنه أكبر بكثير من الذين حاولوا توظيف الجريمة لتبرير تدخل دولي ظل يناضل ضده حتى النفس الأخير.

إن 14 شباط 2005 يوم حاسم في تاريخ لبنان. إنه من الأيام التي يبدو فيها التاريخ وكأنه أسرع في خطاه وأفلتت كوابحه واندفع نحو هاوية لا قعر لها. ففي هذا اليوم تمفصل الوضع الداخلي، المأزوم أصلاً، على تجدد النزاع الإقليمي والدولي على لبنان، فتشكل من ذلك كله مزيج متفجر ومفتوح حصراً على الاحتمالات الأكثر خطراً.

لقد تضاءل حجم لبنان، فجأة، أمس، وبدا وكأنه بلا رأس. كأنما رحل مع رفيق الحريري بعض ما تبقى من ألقه، وبعض مصادر كبره والكثير الكثير من مبررات دوره المفترض... أما مستقبل لبنان فقد تبدى وكأنه في مهب الريح.

بضربة واحدة قاتلة تهاوت صورة مشروع الوطن، بدوره العربي ومكانته الدولية، وقد جعلهما رفيق الحريري استثنائيين، وتبدى لبنان كياناً هشاً ودولة مرتبكة بلا قيادة وبلا مؤسسات سياسية وبلا مؤسسات أمنية، بلا اقتصاد وبلا تصور واضح للمستقبل، وبلا مصدات للتدخل الأجنبي: فرنسا أوثق علاقة بشؤونه الداخلية من محيطه العربي، والإدارة الأميركية صاحبة رأي في حاضره ومستقبله أكثر من أهله العرب، بل وأكثر من مواطنيه بطبيعة الحال.

لم يكن لدى العرب ما يقدمونه غير الاستنكار والتعزية وبرقيات الرثاء والطلب إلى الله العلي القدير أن يتغمد الفقيد الكبير بواسع رحمته، وأن يكلأ لبنان بعين رعايته...

أما الغرب فكان لديه الكثير يقوله ويلوّح بأنه سيفعله: بدءاً من التلويح بالمحاكمة الدولية التي تنزع الثقة من سلطته وقضائها، مروراً بتوجيه الاتهام صراحة أو تلميحاً إلى سوريا التي لم يتأخر رئيسها عن استنكار الجريمة والتنبيه إلى أبعادها الخطيرة.وأما في لبنان فقد تهاوى الطود تاركاً خلفه فوضى شاملة: فالراحل أكبر من أن تستطيع المعارضة استثمار اغتياله، والسلطة أعجز من أن تستطيع الادعاء أنها (أهل الفقيد).

إن اغتيال رفيق الحريري هو، في بعض جوانبه، اغتيال لواحد من صمامات الأمان في لبنان... فالرجل كان يمثل، بحق، قدرة على مخاطبة المعارضة وتطويع خطابها، وقدرة على طمأنة سوريا إلى الثوابت القومية الصحية لعلاقتها مع لبنان، وقدرة على امتصاص آثار الهجمة الدولية. كان يمثل، فوق ذلك، مخرجاً ملائماً يحفظ ماء وجه الجميع، إن قرّ الرأي على تسوية فيحضر اتفاق الطائف نصاً وروحاً.

واستشهاد رفيق الحريري يضع القوى المتصارعة وجها لوجه، وتعلمنا التجربة أنه يصعب الرهان عليها من أجل عقلنة ممارساتها والبحث عن قشة الخلاص في كومة الأزمات المتراكمة والاستحقاقات المؤجلة، وبفقدانه يفقد لبنان عنصراً من عناصر قدرته على ممانعة القدر الذي يُدفع إليه دفعاً.

فلقد كان رفيق الحريري أكبر من الموالاة ومن المعارضة. ولعله الوحيد الذي رفض رئاسة الحكومة، غير مرة، بشروط رآها ظالمة لمن ولما يمثل.

ثم إن رفيق الحريري ظل إنساناً، وظل في مجالات كثيرة نسيج وحده: لا هو بالوارث ولا هو ابن البيت السياسي العريق.. لذلك استمر، بعد السلطة كما قبلها، على ما كان عليه: يتعاطف مع الفقراء الذين وفر لتعليم أبنائهم من الفرص أكثر مما وفرت الدولة، ويوزع عليهم <<الزكاة>> سنوياً، حتى وهي تحمل إليه الاتهامات الظالمة والتجني المفضوح، ويداوي مرضاهم في الداخل والخارج، من دون استرهانهم بجميله.

ظل (ابن الجنيناتي) الصيداوي المتحدر من صلب حركة القوميين العرب على ولائه لعروبته إلى حد اتهامه بأنه يريد (تعريب لبنان) بشرائه.. وارتضى أن يكون في ممارساته، في موقع (وزير الخارجية) الرديف لحافظ الأسد في سوريا، حرصاً على سوريا، وقد اجتهد في مواصلة هذا الدور مع بشار الأسد، وعمل بكل طاقته لفتح الأبواب الموصدة أمام هذه الدولة التي عانت طويلاً من العزلة بضغط الحصار الدولي وافتقاد النصير العربي.

ولعله كان الأنجح بين السياسيين العرب في نسج شبكة من العلاقات الدولية الواسعة التي لا تقف عند حد: من فرنسا جاك شيراك، إلى ألمانيا شرودر، وبريطانيا بلير، إلى واشنطن جورج بوش الأب ثم كلينتون وصولاً إلى جورج بوش الابن، مروراً بإيطاليا برلسكوني، وإسبانيا اليمين واليسار ومعهما الملك، فإلى روسيا بوتين، واليابان والصين، انتهاءً بإيران الثورة الإسلامية وباكستان في العهدين وتركيا قبل الإسلاميين ومعهم.

لقد مارس (سياسة الطائرة) بنجاح استثنائي مع القيادات العربية عموماً، فجمع بين صداقاته الكبار في السعودية، الملك فهد وولي العهد الأمير عبد الله والأمير سلطان، والرئيس المصري حسني مبارك، والملكين في المغرب وفي الأردن وصولاً إلى يمن علي عبد الله صالح وعُمان السلطان قابوس... إلخ.

إنه قرار بفتح أبواب جهنم على لبنان، بما تبقى من مناعته، وبالأساس على روحه المقاومة، و(حزب الله) سيكون المستهدف الأول، باعتباره (المعادل الموضوعي) وطنياً وقومياً.

وعلينا أن نقرأ موقف الرئيس الفرنسي، عنواناً للحقبة المقبلة، خصوصاً أنه يعلن فقدان الثقة بالسلطة ويطالب بتحقيق دولي في الجريمة... ووزير خارجيته، بارنييه، يوضح المخفي أو الملتبس في كلام شيراك فيؤكد أن الوقت سيأتي لمحاسبة المسؤولين، كائنين من كانوا.

والإدارة الأميركية تلوّح بطرح الجريمة في مجلس الأمن كمدخل لمعاقبة المسؤولين...

إن ذلك كله لا يؤكد فقط مكانة الحريري التي لم تكن تدانيها مكانة أي سياسي آخر في لبنان، بل يؤكد فداحة الفراغ الذي تركه، والاحتمالات المفتوحة على المجهول بعد غيابه. فمن زاوية النزاعات اللبنانية اللبنانية كان بإمكان المتسرّع الافتراض أنه أقرب إلى المعارضة... لكن نظرة متروية إليه، ومن زاوية الموقع الاستثنائي الذي شغله، تكشف أنه ظل حتى النفس الأخير مع العودة إلى التسوية التاريخية ممثلة باتفاق الطائف.

ولقد دلت بيانات الإدانة والاستنكار التي صدرت، مساء، على احتمالات الخطر التي فتحتها جريمة الاغتيال، وهذه نماذج منها:

في بيان أعقب اجتماعاً موسعاً لأركان المعارضة في منزل الحريري في قريطم، طالبت قوى المعارضة بأنها (تحمّل السلطة اللبنانية والسلطة السورية بكونها سلطة الوصاية في لبنان مسؤولية هذه الجريمة وغيرها من الجرائم المماثلة)، كما طالبت برحيل السلطة الفاقدة شرعيتها الشعبية والدولية وقيام حكومة انتقالية وانسحاب القوات السورية الكامل قبل الاستحقاق الانتخابي. كما دعا بيان المعارضة المجتمع الدولي الى تحمل مسؤولياته تجاه لبنان الوطن الأسير والدعوة الى تشكيل لجنة تحقيق دولية تضع اليد على هذه الجريمة في ظل انعدام ثقة اللبنانيين بهذه السلطة وأجهزتها كافة.

في اجتماع آخر، طالب أركان من الطائفة السنية برئاسة المفتي محمد رشيد قباني في دار الفتوى، بالكشف عن ملابسات الجريمة، وأكدوا أن الاغتيال (يستهدف المسلمين السنة) في وجودهم ودورهم وهم قد نالهم من الضيم ما يكفي ومن الصبر ما لم يعد يحتمل. ودعا البيان المسلمين الى عدم الانجرار الى أعمال تخل بالأمن والسلامة العامة.

أما كتلة الرئيس الحريري النيابية فكانت أعلنت سابقا أنها تحمّل السلطات المعنية المسؤولية، وقال بيان وزع بعد اجتماع لها (إن من قتل الحريري يعرف نفسه، وإن اللبنانيين يسمعون منذ سنين طويلة من يتباهى بتحمّله المسؤولية وهم سمعوا كما سمع العالم اتهامات التخوين التي وُجهت الى الشهيد ورفاقه في المعارضة).

إن لبنان يتجه إلى أزمة مصيرية. كان رفيق الحريري يعرف باليقين أن التطورات الإقليمية هي الأكثر تحكماً بالوضع الداخلي ومآله، وأنها تدفع به نحو اصطدام تستدعيه بقدر ما يستدعيها. وكان مقدراً للانتخابات النيابية أن تكون محطة لرسم موازين القوى، وللفرز، ولإنتاج معطى سياسي جديد. إلا أن هناك من تصرف، وفي ما يخص هذه الانتخابات، على أساس أن إرضاء أكثر المعارضين تطرفاً ممكن، ولكن المطلوب الاقتصاص من المعارض المانع نفسه من المعارضة.

والمستغرب أن الحكم كان يعمل كمن يريد توسيع قاعدة الاعتراض عليه.

جريمة اغتيال رفيق الحريري، أمس، سرّعت التاريخ، في ما يشبه الإنضاج المفتعل لعوامل انفجار أكبر. هناك مَن لا يريد قوى وسيطة في لبنان. هناك مَن يرفض استمرار الالتزام بالتسوية، حتى لو أدى الأمر إلى انفتاح أبواب جهنم في لبنان عليه وعلى جيرانه الأقربين.

إن لبنان صغير جداً، بلا رفيق الحريري، وأزمته كبيرة جداً.

والحريري لغة واصطلاحاً، فهي طريقة دينيه، وهي نسبة لمنطقة حرير بُصري الشام، والحريري لقب لمن يعمل في تجارة او صناعة الحرير، كما أن بيروت والبيارتة عرفوا في السابق أكلة بيروتية قديمة هي من نوع من الحلوى تعرف باسم «الحريرة» أو «الحريري».