المهندسون ومعلموا البناء 

يستنتج من الوثائق الشرعيّة والمصادر الأخرى أن الذين كانوا يقومون بالبناء في بيروت ويشرفون عليه، هم من أصحاب الخبرة المتوارثة من جيل إلى جيل.

وكان المعمار باشي أو شيخ المعماريين بمثابة المهندس أو رئيس المهندسين. وكان أكثر هؤلاء من منطقتي المصيطبة والمزرعة.

وكان يستعان برأيهم عند حصول منازعة بين الجيران حول البناء وحقوق الارتفاع، وعند حصول مقاسمة بين شركاء أو ورثة في عقارات لتقييم الحصص وتعديلها.

لم يكن لقب مهندس يؤدي المعنى نفسه المعروف حالياً، بل كان أحياناً أقرب إلى صانع فنيّ. ويبدو من النظام الذي كان متبعاً في العصور العربيّة الإسلاميّة أن يكون المهندس هو المقاول الذي يخطط البناء ثم يشرف على تنفيذه بنفسه.

يذكر أن السلطان المملوكي قانصوه الغوري في وقفيته على المجمّع المعروف بإسمه في القاهرة (الغوريّة) جعل مخصصات للنفقة على صيانته، مرتباً لإثنين (مهندسين) وإثنين (سبّاكين) وإثنين (مرخّمين) ونجّار واحد.

في خروج أمير الحاج في محمد سنة 801هـ ، أنه إصطحب معه لعمارة ما تهدّم من المسجد الحرام المعلم شهاب الدين أحمد بن الطولوني (المهندس). وقد توفي المهندس المذكور في السنة التالية وقد وصف إبن أياس عندها بأنه كبير المهندسين (نقيب بلغة العصر) ومعلم المعلّمين وأنه جد البدري حسن معلم المعلمين الآن (802هـ).

ويبدو أنهم كانوا خاضعين في ممارستهم أعمالهم للنمط الذي ساد الحرف والمهن في بيروت إبان العصر العُثماني والذي كان مشابهاً للنمط السائد في بقية المدن والعواصم العربيّة. والمعروف بنظام الطوائف والأصناف وأرباب الصنايع وأصحاب المهن وأهل الحرف، وكلها تعابير تعطي معنى الجماعة لأبناء الصنعة الواحدة.

وأقدم ما عثر عليه في مجال تنظيم الحرف في بيروت يعود للنصف الثاني من القرن التاسع عشر وهو مأخوذ من بعض وثائق محكمة بيروت الشرعيّة منذ سنة 1843م ومن بعض التعليمات الصادرة عن بلدية بيروت منذ العام 1858م.

ففي سنة 1881م اختار المجلس البلدي لأرباب الحرف شيوخاً يسألون عنهم، وكلّف كلا منهم تقديم دفتر بأسماء التابعين لصنعته وبيان أعمارهم وأسماء والديهم، ومحال إقامتهم، وأثار هذا التعيين انتقادات كثيرة، فتقرر أن ينتخب كل أهل صنف بمعرفتهم شيخاً من صنفهم معروفاً بالإستقامة وحسن السلوك وعين وقت الإنتخاب في المدة بين 4 و2 حزيران سنة 1881م وعلى فترتين صباحيّة ومسائيّة.

وكان من ضمن الفئات التي حددت لها مواعيد إنتخاب العاملين في مجال البناء:

·       الدهانين

·       الرّمالة

·       الكلاسين

·       المبلطين

·       المرخمين

·       المعماريّة

·       المقلعجيّة

·       المورقين

·       النجارين

ثم فرضت البلدية سنة 1887م ضرورة الإستحصال على رخصة منها تجيز ممارسة الصنعة مصدّقة من شيخ حرفته على أهليته لذلك. ومن مراجعة سجلات محكمة بيروت الشرعيّة عرفنا بعض شيوخ الحرف فكان شيخ البنائين سنة 1267هـ المعلم حنا زعزوع.

وكان خبراء العقارات سنة 1280هـ الحاج أحمد إبن الحاج صالح الداعوق والحاج أحمد إبن الحاج سليمان خليل وعبد اللطيف عباس السبليني. وكان المعلم إلياس شاهين صباغة معمار باشي (أي شيخ المعماريين) سنة 1292هـ ، فيما كان المعلم فضّول إبراهيم حبيب جنحو ، معمار باشي بين سنتي 1308/1311هـ .

ذاعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهرة يُوسُف أفندي الخيّاط مهندس بلدية بيروت، وكان علم الهندسة بدأ يحظى بالإهتمام، وأشتهر في تلك المرحلة مهندس الولاية ورئيس المهندسين بشارة أفندي الذي أشرف على بناء السراي الصغيرة التي بنيت سنة 1882م في ساحة البرج القديم، مكان سينما متربول التي أزيلت بدورها أيضاً.

ويُذكر أن مجلس إدارة بيروت قرر سنة 1892م حلّ المجلس البلدي الذي كان برئاسة محمد زنتوت وإنهاء خدمات مهندس البلديّة وعيّن لجنة مؤقتة برئاسة محمود الخوجة. وعيّن للبلدية المهندس أمين عبد النور الذي إشترك مع إسحاق لوي مفتش الزراعة في ولاية سوريا سنة 1895م في تخطيط موقع الرمل غرب بيروت ودرس التربة وإقتراح الوسائل الناجحة لمنع تقدّم الرمال إلى المناطق الداخلية في المدينة.

 

ومنذ أوائل القرن العشرين، بدأت تتكون شركات مقاولات الأشغال، منها السادة جبران لبّس وشركاه الذي أعلنوا سنة 1904م أنه (غني عن البيان ما يتكبده أصحاب الأبنيّة من العناء، ويخسرونه من الوقت الثمين والأكلاف الزائدة لعدم إعتمادهم على خبير يكفل دقة الشغل والمتانة والإقتصاد، والإكتفاء بملاحظة أشغالهم بأنفسهم مع معاملة صنّاع مختلفي الحرف، فننصح لمن يريدون التخلص من هذه المتاعب والخسائر في بيروت والجهات، أن يُشرف مكتب الهندسة والمقاولات الكائن في سوق سرسق تجاه إدارة المحبة حيث يستعملون عن الإيضاحات الفنيّة التي يرغبونها، ويستحصلون على الرسوم والخرائط والرسوم المقتنية على إختلاف أنواعها، ويطلعون على أسعار وشروط مناسبة فضلاً عن مساهلات خصوصيّة بالدفع لمن لا تمكنهم حالتهم المالية من الوفاء العاجل، ويتضح لهم ما يتوفر لديهم من معدات وأسباب المتانة والراحة والجمال والإقتصاد بالوقت والمال معاً وعظم الفوائد التي تعود عليهم من عقد المقاولات بشأنها).

كما أعلن أنطوان تلحمة أنه مهندس مقاول في خان فخري بك وأنه (بنفس أكلاف البنايات الدارجة) ينشئ البنايات وجميع الأشغال على الطراز الباريزي الحديث مع الزخرفات الخارجيّة فضلاً عن الترتيبات الداخليّة.