السوق الجميل   

 

في أوائل سنة 1894م بدأت ورشة حفر وبناء في الأراضي الخاصة بالسادة بيهم وبسترس الكائنة في المنطقة الممتدة من باب إدريس جنوباً نزولاً إلى ميناء القمح شمالاً. ويروي المعمرون أن هذه المحلة كانت مستودعاً للغلال تتكدس فيها الحبوب وتتجمع البهائم والعربات وتتطاير منها الأتربة والغبار. مما دفع آل بيهم وبسترس إلى المباشرة بإنشاء سوق جديد سمّوه (السوق الجميل) لجمال ترتيبه وكان يحتوي على إثنين وسبعين حانوتاً. وعرضه عشرة أذرع،رصف بالحجارة الناعمة على جانبيه لتسهيل مرور المشترين وأبناء السبيل. وقيل في حينه إن محسناته أنه ممتد من الجنوب إلى الشمال فلا تؤذيه حرارة الشمس وإنه أجمل سوق في المدينة بالنظر لإتساعه وطوله واستقامته وإتساع حوانيته وإنتظامها واحتوائها على الخزائن والواجهات الجميلة. وقد جذبت نظافة السوق أنظار تجار الأدوات والآلات التي يحتاجها الفنانون والعاملون في الحرف والفنون الجميلة. فكان ندره ومتري طرزي وشركاؤهما أول من نقل محله إلى السوق الجميل، واشتهروا بتعاطي تجارة الأشغال الحريريّة والتحف الشرقيّة والخشبيّة، وكانوا قبلاً قد أسسوا سنة 1868م محلاً لتجارتهم في الطابق العلوي من قيساريّة التوتة (خان الحرير في سوق البازركان) باسم متري وندره طرزي ثم تجدد باسم ندره طرزي وأولاده.

 

وكان على من شاء منذ سنة 1900م اقتناء فونوغراف جيد جامع بين حسن الصوت الطبيعي ومتانة آلاته الفولاذيّة المعروف بفونوغراف أديسون، أن يقصد السوق الجميل قرب البوسطة العُثمانيّة، فيجد الأسطوانات المأخوذة عن أحسن أجواق مصر وذلك في مخزن شكري عودة وإخوانه، وليجد أسطوانات الغناء الشامي القديم والجديد وثمن القالب ثمانية قروش.

 

إلا أن ماكينات الخياطة من صنع معمل سنجر في نيويورك كانت أشهر ما يباع وكان محل بيعها في السوق الجميل (سوق مينة القمح)، ومن الطريف أن ماكينة سنجر كانت من أوائل السلع التي بيعت بالتقسيط في بيروت، فقد أعلن وكيلها سنة 1891م عن بيعها تقسيطاً بمبلغ (ريال مجيدي واحد أسبوعيًّا) أو زيادة بالتسهيل بالدفع في كل أسبوع عشرة قروش، كما أعلن أن تركيب الماكينات وتصليحها هو مجاني مهما كان المحل بعيداً في البلد ولمدة ست سنوات.

 

وفتح سنة 1904م في السوق الجميل محل لبيع ماكينة الخياطة الألمانيّة (نومن) كان صاحبه إلياس شنفلد ممثل المصنع في تركيا وقبرص ومصر ومدير المحل المير شامل مسعود شهاب، وكان يبيع الماكنات نقداً وأقساطاً أسبوعيّة ويكفلها لمدة عشر سنوات. وفتحت السيّدة برجيس مركزاً للخياطة في السوق الجميل وجلبت من باريس الأمثلة المستحدثة في أشهر محال الأزياء وأعلنت قدرتها على تحقيق مطالب السيدات في بيروت واختيار ما ينطبق على أذواقهن من براقع من أحسن جنس وألطف زي، تنانير حرير ومشدات وبياض وفساتين مثناة وروائح عطريّة.

 

من المفيد الإشارة إلى أهميّة الإعلانات في عرض آخر الاكتشافات وتعريف الجمهور بالمعدات والآلات والمواد الحديثة. وهو ما فعله قيصر ديمتري بسترس وكان محله في السوق الجميل قرب لوكندة كاسمن في تعريف الجمهور بالألومنيوم سنة 1911م فقال فيه: (هو معدن أبيض تصنع منه كافة أواني المطبخ والمائدة التي لدى الاختبار عرفت أنها أوفر وأوفق من سواها، إذ أنها لا تتكسر ولا تتقشر ولا تتصدى (تصدأ) ولا يلزمها طلي بالقصدير ولا تحتاج إلى تبيض، وتدوم زماناً طويلاً كالنحاس (وأعلنوا اتفاقهم) مع أحد معامل أوروبا المشهورة الممتازة بطيبة بضاعتها من هذا الصنف، فإننا مستعدون أن نقبل طلبيات بالقومسيون ونبيع بالجملة والمفرق...).

وأعلنت مخازن السيوفي حسنات (الألمينيوم) فقالت سنة 1912م (إكتشف العلم مؤخراً هذا المعدن وأخذت المعامل تصنع منه القدور على أنواعها. الألمنيوم لا يصدأ ولا يحتاج إلى تبييض كل مرة ويُفضّل عن الحديد والنحاس لستة أمور منها أنه لا يتأكسد ويوفر الوقود).

 

أصبح السوق الجميل موضع إقبال الناس للتنزه أو للشراء بالنظر لجماله وتنوع بضاعته الأمر الذي حمل بعض شركات التأمين على اتخاذ مكاتب لها فيه لجلب انتباه البيروتيين إلى موضوع ضمان الحياة. ومن هذه الشركات ( لافكتوريا دو برلين ) المؤسسة سنة 1853م وقد اتخذت مكتباً لها في السوق المذكور سنة 1902م (وكانت لديها طريقة ضمان محصورة بها وهي الدفع بأقساط أسبوعيّة عن ضمان الحياة دون الفحص الطبي، وهذا الضمان موافق لكل طبقات الشعب) وكان وكيلها العمومي في سوريا وفلسطين وقبرص السادة فرعون وعيسى وشقير وشركاهم ووكيلها الخصوصي في بيروت نقولا إسكندر طراد وتتعامل مصرفيًّا مع البنك السلطاني العُثماني وبنك فرعون وشيحا.