القشلة العُثمانيّة  ( السراي )

 

حرصت الدولة العُثمانيّة على الإهتمام بالأوضاع الأمنيّة في بيروت، لا سيما بعد الاضطرابات التي شهدتها المدينة قبل وبعد خروج الجيش المصري من بيروت وبلاد الشام عام 1840م، ذلك أن الأساطيل الأجنبيّة المتحالفة: الإنكليزيّة، الروسيّة، والنمساويّة، بدأت في صيف 1840م بقصف بيروت وسكانها وأحيائها إلى أن أجبرت إبراهيم باشا على الخروج من المدينة، وبعد هذه الأحداث تبيّن أن بيروت تعاني فراغاً أمنيّاً حرص العُثمانيّون على سده، ومن بين الأساليب المتبعة لسد الفراغ الأمني تجنيد المزيد من أبناء بيروت في الجيش العُثماني إستناداً إلى نظام التجنيد الإجباري الذي سبق أن أعلن في خط كلخانة عام 1839م، وأستلزم ذلك بناء قشلة (ثكنة) لإستيعاب الجنود والأسلحة والخيول، وقد اختارت لجنة القشلة عام 1848م ربوة مرتفعة فوق سوق المنجدين، فوق شارع المصارف اليوم ، في باطن بيروت إزاء طلعة الأميركان قريباً من بوابة يعقوب، غرب مدينة بيروت القديمة.

 

في عام 1856م أشرف البناء على الإنتهاء، وقد تألف من طبقة واحدة، طابق واحد، لإيواء الجند، في حين أستُخدمت الطبقة السفلى المعقودة لإيواء الخيول، وقد توزعت الغُرف الداخليّة تتوسطها باحة ورواق كبير، ويُلاحظ بأن المبنى كما كان، وما يزال، له ثلاثة مداخل من جهة الشمال ومن جهة القبلة (الجنوب) ومن جهة الشرق، كما تميّز المبنى من الخارج بوجود شرفات هي عبارة عن بوائك (Arcades) هندسيّة تحملها أعمدة من الرخام، فضلاً عن واجهة شرقيّة تبدو اليوم رائعة المنظر لا سيما وهي مضاءة ليلاً.

 

وبعد حوالى عشر سنوات أي في عام 1865م أقامت الدولة العُثمانيّة بالقرب من القشلة، المستشفى العسكري العُثماني المعروف باسم الخستة خانة أو الأستخانة، خدمة لأفراد الجيش العُثماني، وهذا المستشفى هو الذي أصبح في عهود الإنتداب والاستقلال مقراً للقضاء اللبناني، العدليّة القديمة، قبل إنتقال العدليّة إلى مقرها قرب المتحف، كما إتخذتها الجامعة اللبنانيّة مقراً مؤقتاً لكلية الفنون ردحاً من الزمن، وقد قام مجلس الإنماء والإعمار بترميمه وإعادته إلى ما كان عليه في العهد العُثماني مع بعض التطويرات الحديثة، وإتخذه مقراً له إبتداء من عام 1993م.

 

ونظراً للحروب التي خاضتها الدولة العُثمانيّة في القرن التاسع عشر، لا سيما الحرب الروسيّة–العُثمانيّة عام 1877م، تبيّنت الحاجة إلى مزيد من التجنيد سواء لأمور خارجيّة وقد إستتبع ذلك إحداث توسعات في الثكنة العُثمانيّة حيث تمّ بين أعوام 1877-1894م أستحداث ملاحق جديدة في الثكنة، وبناء طبقة ثانية، وبسبب التوسعات صارت تُعرف باسم الثكنات نظراً لزيادة حجمها وطبقاتها، وفي عام 1899م عام جرت الإضافات إلى المبنى، وأصبح سقفه من القرميد، وأضيف إليه الدرج الداخلي المزخرف الذي يشبه نضوة الحصان، وهو يصل الطابق الأول بالطابق الثاني.

 

ومن الأهميّة بمكان أن قسماً من التوسعات التي استحدثت على الثكنات لم تكن لأسباب عسكريّة فحسب، وإنما لأسباب إداريّة وسياسيّة، فبعد أن أُعلنت ولاية بيروت عام 1888م، وباتت بيروت قاعدة للولاية الممتدة من بيروت حتى اللاذقيّة شمالاً، ومن بيروت حتى نابلس جنوباً، كان من الضروري إيجاد مركز رسمي لوالي بيروت، وبالفعل فقد إتخذ والي بيروت مقره الرسمي في القشلة، ومنذ ذلك التاريخ بدأ بتغير إسمها تباعاً إلى سراي الولاية، وتكّرست تسمية السراي مع عصور الإنتداب الفرنسي والاستقلال، وكان أول والٍ على ولاية بيروت علي باشا والي آيدين السابق.

ومن الولاة العُثمانيين الذين مروا على هذه السراي والسراي الصغير أو إتخذوها مقراً لحكمهم :

مدحت باشا
خالد بك أفندي
عزيز أفندي
أدهم باشا
بكري سامي بك
حازم بك
حمدي باشا
خليل باشا
رشيد بك
ناظم باشا
عزمي بك
علي منيف بك
إسماعيل حقي

 

وكانت سراي الولاية تتكامل مع بقية الأجهزة الحكوميّة والإداريّة وتتعاون مع مجلس إدارة الولاية، والمحكمة الشرعيّة، ودوائر الأوقاف، وقومسيون لمّ العسكر، وإدارت البنوك، ودوائر الشرطة، ورؤساء البلديّة .....

ولا بد من الإشارة بأنه كان للثكنة العسكريّة العُثمانيّة السراي الكبير عدة مسؤولين عسكريين ومدنيين وعلماء، وفي أوائل القرن العشرين كانوا على النحو التالي:

قومندان الموقع  سعاد تلو علي باشا
كاتب القومندان الملازم عبد الوهاب أفندي
بينباشي الطابور رفعتلو شكري أفندي
قول آغاسي  رفعتلو زكريا أفندي
أمين آلاي  رفعتلو عثمان أفندي
الكاتب  رفعتلو أحمد حمدي أفندي
الإمام  فضيلتلو كمال أفندي

   

وكانت الدولة العُثمانيّة قد خصّصت رواتب لأفراد الجيش العثماني ورواتب أخرى لعناصر الشرطة في بلدية بيروت نظراً لطبيعة عمل كل سلك عسكري، وقد عُثر بين أوراق الحاج عبد الرزّاق حمادة، حفيد متسلّم بيروت عبد الفتّاح آغا حمادة الإسكندراني، على دفتر معاشات مفتش وجاويشيّة بلدية بيروت عن شهر آذار لسنة 1803 ماليّة، وهو على النحو التالي :

600 قرش معاش المفتش أحمد أفندي رمضان
300 قرش معاش الجاويش عبد الرحيم أفندي عانوتي 
300 قرش معاش الجاويش محمد أفندي فايد
300 قرش معاش الجاويش أمين آغا قسطموني
300 قرش معاش الجاويش متري أفندي شويري
300 قرش معاش الجاويش نجيب أفندي فيعاني
300 قرش معاش الجاويش نخلة أفندي سلامة
300 قرش معاش الجاويش سعيد أفندي الأغر
300 قرش معاش الجاويش بشارة أفندي الزند
300 قرش معاش الجاويش سعيد أفندي نعماني
300 قرش معاش الجاويش أحمد أفندي العرب
300 قرش معاش الجاويش أسعد أفندي عقل
300 قرش معاش الجاويش الحاج خليل آغا منيمنة

 

وتميّزت الثكنة العُثمانيّة بإعتمادها بشكل أساسي على الفرق العسكرية التالية:

الخيّالة، المدفعجيّة، المشاة، وكان عدد الخيّالة في بيروت في أواخر العهد العُثماني 28 آلاي، ولا بد من الإشارة إلى أن الدولة العُثمانيّة أقامت مدارس عسكريّة في الولايات الشامية لتخريج ضباط عسكريين، وكانت هذه المدارس الرشدية، عسكريّة وملكيّة، تتبع الجيش الخامس في سوريا، وقد استأثرت بيروت عام 1886م بمدرسة رشدية عسكرية واحدة ضمّت 120 طالباً ، كما استأثرت بمدرسة رشدية ملكيّة واحدة ضمّت 80 طالباً .

 

والحقيقة فقد قامت القشلة العُثمانيّة بدور بارز في بيروت في الإطار الأمني والإداري والحكومي، وباتت منطقتها المركز الرسمي للولاية، بالإضافة إلى مبان رسميّة أخرى مثل السراي الصغير الذي كان قائماً في آخر ساحة البرج قرب سينما ريفولي، وقد وردت في بعض المصادر التاريخيّة معلومات عن سراي الولاية الخاصة بسراي الأمير فخر الدين المعني الكبير بالقرب من جامع الأمير عسّاف وباب السراي.

 

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى 1914-1918م هزيمة الدولة العُثمانيّة، وبعد أن تبلّغ عمر بك الداعوق برقيّة من الأمير سعيد الجزائري باسم الأمير فيصل بن الشريف حسين بضرورة إعلان الحكومة العربيّة في بيروت، وصل عمر بك الداعوق على رأس وفد بيروتي إلى سراي الولاية، واجتمعوا بالوالي إسماعيل حقي، وأبلغوه ضرورة ترك السراي ومن ثم ولاية بيروت، وبالفعل فقد خرج الوالي وكبار القادة مع الموظفين الأتراك من السراي، في حين بقي فيها أبناء بيروت المجّندين، ومن ثُم أُعلنت ولادة الحكومة العربيّة في بيروت، ورفع العلم العربي فوق سراي الولاية وفوق بلدية بيروت والأبنية الرسميّة.

غير أن هذه الفرحة لم تستمر سوى أيام قلائل ، إذ بادرت القوات الفرنسيّة بقيادة الجنرال دي بيا باب (De Piepape) إلى الدخول إلى مرفأ بيروت، ومن ثم السيطرة على المدينة، ومنذ ذاك التاريخ إتخذ القائد الفرنسي والقوات العسكريّة الفرنسيّة السراي مقراً له ولقواته، كما إتخذها المفوض السامي الفرنسي مقراً رسمياً له وللإدارة الفرنسيّة ابتداء من عام 1920م بعد أن خضعت سوريا ولبنان لانتداب الفرنسي إثر قيام قرارات مؤتمر سان ريمو في أيار عام 1920م.

 

وخلافاً للرأي السائد بأن القشلة العُثمانيّة تبدّل إسمها إلى إسم السراي ابتداء من العهد الفرنسي ، فإن المصادر المعاصرة للعهد العُثماني ، أطلقت على الثكنة – القشلة مصطلح السراي خاصة بعد إعلان بيروت ولاية عام 1888م، وقد لوحظ ذلك في أثناء الاحتفالات والمناسبات العديدة التي كانت تجري في بيروت في العهد العُثماني، كما أُطلق عليه السراي الكبير، تميّيزاً له عن السراي الصغير في ساحة البرج، وفي العهد الفرنسي جرت عدة احتفالات في السراي الكبير، منها على سبيل المثال: إعلان الجمهورية اللبنانيّة عام 1926م، وحصول الاجتماعات الرسميّة بعد تأليف الحكومات اللبنانيّة المتعاقبة في عهد الإنتداب، وفي مقدمتها حكومة أوغست أديب في عهد أول رئيس للجمهوريّة شارل دبّاس عام 1926م، ومن السراي الكبير انطلقت إذاعة لبنان من بيروت في العام 1943م، ثم انتقلت إلى مبنى حديث في منطقة الصنائع عام 1961م.

 

وكانت سلطة الإنتداب الفرنسي قد أضافت بعض الإضافات على الجهة الشماليّة من السراي، بمثابة شرفة يطّل منها المفوض السامي أو رؤساء الجمهوريات، وفيما بعد رؤساء وزراء حكومات الاستقلال، لإلقاء خطبهم وكلماتهم أمام المحتفلين أو المتظاهرين المتجمعين، وقد إستمر السراي الكبير مركزاً رسميّاً للسلطات الفرنسيّة إلى أن نال لبنان استقلاله عام 1943م وجلاء القوات الأجنبيّة عنه عام 1946م، فحولته حكومة الرئيس رياض الصلح إلى مقر للحكومة اللبنانيّة المستقلّة، وقد إستمر على هذا النحو إلى عام 1981م، حيث إنتقل مقر الحكومة إلى قصر الصنائع في منطقة الصنائع في عهد الرئيس شفيق الوزّان، في حين تحّول السراي الكبير إلى مقر مؤقت لوزارة الداخليّة وإداراتها لا سيما النافعة، مديرية تسجيل السيارات، وذلك حتى صيف عام 1994م، حيث أخلي السراي بغرض ترميمه وإعادة تأهيله، ولا بدّ من الإشارة إلى أن السراي الكبير، لم يكن مقراً رسميّاً لرئاسة الوزراء منذ عام 1926م فحسب وإنما كان أيضاً مقراً رسميّاً لرئاسة الجمهوريّة منذ عهد الرئيس شارل دبّاس حتى أواخر عهد الرئيس بشارة الخوري وفيما بعد إتخذ الرئيس كميل شمعون قصر القنطاري مقراً له، في حين إتخذ اللواء فؤاد شهاب منطقة الذوق مقراً شتوياً له وعجلتون مقراً صيفيّاً، بينما الرئيس شارل الحلو إتخذ قصر سن الفيل مقراً له، ثم أقام رؤساء الجمهوريّة منذ عام 1970م حتى اليوم: سليمان فرنجيّة، إلياس سركيس، أمين الجميّل، إلياس الهراوي، وإميل لحّود في قصر بعبدا، الذي بات منذ تلك الفترة قصراً رسميّاً لرؤساء الجمهوريّة.

 

وفي كلمة تاريخيّة عن الوصف المعماري لمبنى السراي، لا سيما وأن المرحلة الحالية شهدت تغييرات أساسيّة في بنيانه لا سيما في الداخل، فالسراي الكبير يتألف من ثلاث طبقات في الجهة الشرقيّة التي تُعتبر الجهة الرسميّة المواجهة لباطن بيروت، في حين تتألف الجهة الشماليّة والجنوبيّة من طبقتين بخلاف بعض الاستخدامات والغرف في الدور السفلي، للخيول في العهد العثماني، وأبعاد المبنى هي 120م بمائة م، أما الحجر المستخدم فهو من الحجر الرملي البيروتي المشهور استخراجه من مقالع بيروت.

 

ويتخلل طوابقه شبابيك مستطيلة ومسنّنة يحيط بها كادر من الحجر الكلسي الأبيض، كما توجد قمريات بين الشبابيك، كما يتميّز المبنى من جهته الشرقيّة ببعض الزخارف وشرفات وأعمدة وقناطر، ثم يظهر في أعلى المبنى، الطرة العُثمانيّة، ثم أضيف فوقها بعد العهد العثماني الأرزة اللبنانيّة.

 

ويتميّز المبنى أيضاً بكثرة القناطر حيث يوجد فيه 120 قنطرة من الداخل، ويتميّز بالرواق العثماني مع قناطره المختلفة من الداخل، ومن ملامح المبنى القرميد الأحمر الذي كان ربوة بيروت المُطلّة على الأسواق التجاريّة.

 

وبكلمة موجزة فإن هذا السراي الذي طرأ عليه تغييرات وتعديلات عديدة منذ عام 1856م في عصور عُثمانيّة وفرنسيّة واستقلاليّة، فإنه بات واضحاً أن التغييرات والتعديلات الأساسيّة التي طرأت عليه تعتبر في هذه المرحلة هامة جداً، حيث أعدت شركة أوجيه دراسات لترميم وتأهيل السراي الكبير، لا ليكون مقراً للحكومة اللبنانيّة فحسب، وإنما ليكون قصراً لرئيس الوزراء أيضاً، وقد حظيت بيروت العُثمانيّة مجدداَ بالإهتمام والتقدير، ولإثبات التواصل بين الأيدي البيروتيّة العُثمانيّة التي أقامت هذه الصروح، وبين الأيدي البيروتيّة واللبنانيّة الحريصة اليوم على حفظ تراث وتاريخ بيروت.

 

ويبدو السراي الكبير اليوم، يضاهي بقية القصور التاريخيّة في القاهرة ودمشق وباريس ولندن وروما.

 

هذا وقد إفتُتح السراي رسميّاً وابتدئ العمل فيه بإنعقاد أول جلسة لمجلس الوزراء برئاسة الرئيس رفيق الحريري في18 آب 1998م كما عُقد فيه العديد من المؤتمرات والإجتماعات العربيّة والدوليّة، ولا بد من الإشارة أيضاً، وإنصافاً للتاريخ أنه لولا متابعة الرئيس رفيق الحريري الشخصيّة، ودعمه المعنوي والمالي لهذا المشروع العملاق، لما تمّ إنجازه على هذا النسق المعماري الحضاري.

على مدخل السراي وضعت قديماً وما زالت اللوحة التالية :

لو دامت لغيركَ   لما إتصلت إليك