أوقاف المسلمين في بيروت خلال العهد العثماني

المقدمة العامة

 

إن دراسة سجلات المحكمة الشرعيّة في بيروت المحروسة في العهد العُثماني، تعتبر أمراً مهماً وملحاً، بسبب الأهميّة السياسيّة والإقتصاديّة والإداريّة والإجتماعيّة التي كانت بيروت تتبوأها. أضف إلى ذلك بأن المحاكم الشرعيّة سواء في بيروت أو طرابلس أو صيدا أو دمشق أو القاهرة أو سواها، كانت هي المحاكم الوحيدة التي تسجل فيها مختلف المعاملات الشرعيّة الدينيّة والمدنيّة والعسكريّة والإداريّة.وتعتبر سجلاتها التاريخ الحقيقي لمختلف وجوه الحياة في الولايات العُثمانيّة، وهي سجل لمختلف المعاملات ولمختلف الطوائف الإسلاميّة والنصرانيّة واليهوديّة.

والحقيقة فإن نشر مستندات ووثائق هذه السجلات لن يؤدي إلى إحياء التراث الإسلامي واللبناني فحسب، بل سيؤدي إلى إعادة كتابة التاريخ وقلب المفاهيم التاريخيّة والتقليديّة، فهي مستندات لا يمكن الطعن في صحتها مطلقاً.

وعلى سبيل المثال فإن هذه السجلات والمستندات تمدنا بأنواع وأعداد الوقفيات الإسلاميّة والمسيحيّة وأماكنها المشرذمة والمتعددة، وأوقاف السلاطين والأمراء، وأوقاف المساجد والزوايا.

كما تضمنت هذه السجلات أسماء المناطق والشوارع والأحياء والخانات التي إندثرت في بيروت وصيدا وطرابلس. كما تمدنا بأسماء المفتين والبطاركة وقوانين الثكنات العسكريّة والفرمانات العُثمانيّة الخاصة بالأوقاف وبسواها.

ولقد حرص الدكتور حسّان حلاق، مؤرخ بيروت الكبير، على دارسة لمئات من السجلات ولآلاف من الوثائق، ولم يعثر الدكتور حلاق على أي سجل من سجلات المحكمة الشرعيّة يعود إلى ما قبل العام 1259هـ1843م. وقد أضاع ذلك فرصة علميّة وتاريخيّة لدراسة التاريخ الإجتماعي والإقتصادي لبيروت في فترة ما قبل القرن التاسع عشر الميلادي. ولعل سبب ضياع هذه السجلات الحروب والفتن المدمّرة التي مرت على بيروت خلال التاريخ العُثماني، كما أن كثرة تبدل مكان المحكمة الشرعيّة من منطقة إلى أخرى أضاع قسماً آخر من السجلات.

والحقيقة فإن هناك غموضاً يكتنف تاريخ (سجلات المحكمة الشرعيّة في بيروت) على غرار أكثر سجلات المحاكم الشرعيّة في الدولة العُثمانيّة التي كان ـ ولا يزال ـ يعوزها التنظيم والتوثيق والفهرسة وتصويرها على (ميكروفيلم) حتى يمكن حفظها وصيانتها من التلف والضياع.

وهذا الغموض يكمن في تاريخها وموجوداتها من السجلات والوثائق. وعلى سبيل المثال فإن الدكتور أسد رستم ذكر في العام 1933م بعض هذا الغموض بقوله: (لما باشرنا جمع الأصول العربيّة لتاريخ سوريا في عهد محَمّد علي باشا، حاولنا مراراً أن نقف على كل شيء من آثار المحكمة الشرعيّة في بيروت فرددنا خائبين. ولما سألنا المغفور له السيد محَمّد أفندي الكستي عن سجلات المحكمة البيروتيّة قال لنا: إنها لا ترجع إلى ما قبل سنة 1270هـ 1853م. فاستغربنا كلامه وقتئذٍ وأسفنا لضياع هذه السجلات، وقد ذكرنا شيئاً من هذا القبيل في مقدمة كتابنا المشار إليه آنفاً...).

وكان أسد رستم قد ذكر أيضاً منذ العام 1929م بأن المسؤولين العُثمانيين لم يهتموا بتنظيم المحاكم المحليّة الصغيرة، وأن قضاة هذه المحاكم (كانوا مخيرين بين أن يسجلوا المعاملات أم لا، ولهم الحرية عند إنتهاء مدة قضائهم أن يحملوا سجلاتهم معهم حيث شاؤوا) وكان ذلك سبباً من أسباب ضياع أكثر سجلات المحاكم الشرعيّة، أضف إلى ذلك أحداث الحرب العالميّة الأولى 1914-1918م. وأضاف أسد رستم (وينسب سماحة قاضي بيروت الحالي الشيخ محَمّد أفندي الكستي ضياع سجلات عاصمة لبنان قبل سنة 1270هـ 1853م إلى هذه الأسباب نفسها).

وفي الوقت الذي أشار فيه أسد رستم نقلاً عن الشيخ محَمّد الكستي، بأنه لا توجد سجلات في المحكمة الشرعيّة تعود إلى ما قبل العام 1270هـ، فإذا بالسيد شفيق طبارة ينشر عام 1953م بعض وثائق سجلات المحكمة الشرعيّة في بيروت خاصة بآل طبارة يعود أقدمها إلى عام 1231هـ غير أن هذا الوثيقة لم تكن من محفوظات المحكمة الشرعيّة، وإنما من محفوظات أحد أصحابه، وما وجده في سجلات المحكمة الشرعيّة إنما يعود أقدمه إلى العام 1259هـ ـ وهو ما عثر عليه الدكتور حسان حلاق من سجلات في الفترة ذاتها ـ . وقد نشر شفيق طبارة في حينه عشر وثائق، سبع منها من المحفوظات الحاصة وثلاث وثائق من محفوظات المحكمة الشرعيّة. وبهذا يقول: (... أسعفني الزمان بوثائق شرعيّة قديمة وقعت على بعضها في خزائن أبناء أسرتي وعلى الآخر عند بعض أبناء الأسر البيروتيّة ....أما الوثيقة الشرعيّة الأولى والثانية (1268هـ، و1294هـ) فعثرت عليهما عند إبن عمي السيد مختار إبن الشيخ أحمد طبارة، والثالثة (1268هـ) عند السيد إبراهيم قاسم القوتلي، والرابعة والخامسة والسادسة (1260هـ، و1319هـ، و1234هـ) عند إبن عمي السيد حسن خليل طبارة، والسابعة (1231هـ)عند السيد عبد الرحمن المجذوب. ووجدت الثامنة والتاسعة والعاشرة (1272هـ، و1259هـ، و1263هـ) مدّونة في سجلات المحكمة الشرعيّة في بيروت.

وعلى هذا، يمكن القول بأن المعلومات التي أعطاها الشيخ محَمّد الكستي للدكتور أسد رستم في العشرينات من القرن العشرين، إنما كانت معلومات أوليّة أو تقريبيّة، ولم تكن معلومات أكيدة، لأنه يبدو أن الشيخ الكستي سئل فرد فوراً دون التدقيق ودون مراجعة سجلات المحكمة الشرعيّة. وعلى كل حال فإن الوثائق الشرعيّة التي نشرها السيد شفيق طبارة العائدة بعضها للعام 1231هـ، كما أن الوثائق الشرعيّة الأخرى الموجودة في البيوتات الإسلاميّة البيروتيّة العائدة لما قبل هذا العام، بل للقرن الثاني عشر الهجري وقبله، لهو من الدلائل على وجود سجلات شرعيّة وتدوين المعاملات في تلك الحق، ومن ثم لهو من الدلائل على ضياع هذه السجلات، طالما أن أقدم سجل موجود الآن في المحكمة الشرعيّة في بيروت يعود إلى العام 1259هـ 1843م.

ولعل مجمل الأسباب السابقة مجتمعة هي التي أدت إلى ضياع سجلات المحكمة الشرعيّة في بيروت، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي:

1.   إهمال بعض المسؤولين العُثمانيين تنظيم سجلات المحاكم الشرعيّة، وفيما بعد إهمال المسؤولين المسلمين اللبنانيين.

2.   الحروب والفتن التي مرت على بيروت ولبنان، وكانت الحرب العالميّة الأولى 1914-1918م إحداها وليس آخرها، إضافة إلى الحروب اللبنانيّة والفتن الداخليّة المتتالية.

3.   السماح لبعض القضاة بنقل السجلات إلى منازلهم والإحتفاظ بها أو ببعضها.

4.   تبدل مكان المحكمة الشرعيّة في بيروت من باطن بيروت إلى مناطق متعددة خارج السور.

5.   عدم شعور المسؤولين بأهميّة هذه السجلات من النواحي التاريخيّة والسياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة.

غير أن الملاحظة التي لا بد من الإشارة إليها، هي أن سجلات العام 1259هـ 1843م وهي أقدم سجلات موجودة في محكمة بيروت الشرعيّة، والتي كانت موجودة منذ العام 1953م، لا تزال موجودة ومحفوظة، وهذا ما يُبشّر بالخير، بالرغم من أنها تحتاج إلى تنظيم توثيقي حديث وإلى تجليد فني حديث، كي تحفظ من التلف والإهتراء. وبالرغم من أن الدكتور حسان حلاق قام بهذه المهمة بمبادرة فرديّة، غير أن ذلك غير كافٍ.

من جهة أخرى، فمن الأهميّة بمكان أن نشير إلى أن مفتي بيروت في فترة السجل الأول 1259هـ 1843م، كان العالِم الشيخ محَمّد أفندي الحلواني الذي عُزل عن الإفتاء فيما بعد لأسباب سياسيّة، وقد إنتقل إلى دمشق وتوفي فيها.

أما الأهداف والعوامل والأسباب التي دفعت الدكتور حلاق لنشر هذه الأملاك الوقفيّة فهي عديدة منها:

1.   تبيان أهمية الأملاك الوقفيّة وأثرها في الأوضاع الخاصة والعامة للسكان، وليتبين الدارس النظرة الشموليّة لنظام الوقف وكيفيّة إعتباره العالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ حيث يخصص واردات وقف ما في بلد إلى غاية الخير والصلاح في بلد آخر مهما بعدت المسافات.

2.   دراسة وتتبع الأملاك الوقفيّة ومنها الأوقاف الإسلاميّة التي بدأت منذ أمد تتضاءل وتضعف وتضيع.

3.   إحياء التراث الإسلامي واللبناني وتبيان معالمه الحضاريّة والإنسانيّة.

4.   الحرص على نشر هذه الأوقاف والأملاك والسجلات عامة خوفاً عليها من الضياع والإندثار.

5.   إن هذه المستندات تمثل حقبة هامة من حقب التاريخ العُثماني واللبناني والبيروتي. وأهميتها أنها تقدم معلومات وافية للتاريخ الإجتماعي والإقتصادي والثقافي في هذه البلاد.

6.   إن نشر هذه الأوقاف والأملاك يلقي الأضواء على الكثير من الحقائق الأساسيّة الخاصة بحقوق ووجود المسلمين في هذه البلاد، وتقدّم شواهد تاريخيّة وثائقيّة على أملاكهم وأوقافهم السابقة والحالية.

7.   وأخيراً فإن نشر الأملاك الوقفيّة ودراستها تظهر الجانب الإنساني لنظام الأوقاف الإسلامي في رعاية وحمايته لجميع فئات المجتمع دون تمييز في أديانهم أو ألوانهم أو أجناسهم. فنجد أن واردات الأوقاف كان يستفيد منها اليهود والنصارى والمسلمون معاً.