آل فرّوخ

من الأسر الإسلامية البيروتية واللبنانية والعربية. برزت عبر التاريخ الإسلامي والعربي، وانتشرت مع علمائها وأمرائها وحكامها في مختلف المناطق العربية والإسلامية.

وحول الجذور التاريخية لأسرة فرّوخ هناك عدة آراء منها:

الرأي الأول: أشار إليه المرحوم حسن عبد الرحمن فرّوخ مدير ثانوية حوض الولاية، مفتش التربية، وقائمقام الشوف بالوكالة، بأن زازان فرّوخ أحد شاهات العجم في إيران نزح إلى شبه الجزيرة العربية لاجئاً. وكان حاكماً أو ملكاً من ملوك إيران. تبعه أخصامه واغتالوه حيث استقر في شبه الجزيرة العربية، خوفاً من عودته إلى إيران.

وهذا ما كتبه لي المرحوم الحاج سعد الدين فرّوخ في 25 نيسان عام 1989.

الرأي الثاني: أشار إليه العلامة الدكتور عمر فرّوخ (1906-1987) لأخيه المرحوم سعد الدين فرّوخ، بأن «أسرة فرّوخ نزحت من المغرب العربي إلى إيران، ومن إيران نزحت قبل الدعوة الإسلامية إلى شبه الجزيرة العربية».

وهذا ما كتبه لي أيضاً المرحوم الحاج سعد الدين فرّوخ في 25 نيسان عام 1989.

الرأي الثالث: يشير إليه صاحب كتاب «أسماء القبائل وأنسابها» ص (93) بأن «قبيلة فرّوخ أو بو فرّوخ هي من عشائر خفاجة من بني عمرو بن عقيل بن كعب بن عامر بن صعصعة من العدنانية، وتفرع منها قبيلة الصلخة وفروعها: الشريف، الحلقة، الحمّاد، بو فرّوخ، بو خليف».

وهكذا يلاحظ من خلال مصادر آل فرّوخ والمصادر العربية تأرجح الرأي بين الأصول العربية والأصول الفارسية لآل فرّوخ. وبالرغم من أن اسم «فرّوخ» يوحي بالجذور الفارسية للأسرة، غير أن مصادر عربية عديدة تؤكد بأن الأسرة عربية الأصول والجذور.

ومن الأهمية بمكان القول، إن أسرة فرّوخ انتشرت بعد الفتوحات الإسلامية في مختلف المناطق العربية والإسلامية، وما من عهد عربي أو إسلامي إلا وبرز أعلام وقادة وفقهاء وعلماء من آل فرّوخ سواء في العهدين الأموي أو العباسي، أو في العهود الفاطمية والزنكية والأيوبية، أو في العهدين المملوكي والعثماني، فضلاً عن التاريخ الحديث والمعاصر. لهذا نجد انتشار الأسرة في جميع الولايات العربية والإسلامية.

أما فيما يختص بانتشار الأسرة في لبنان، فإنه لم يقتصر على بيروت المحروسة، بل امتد هذا الانتشار إلى بنت جبيل، وصور، والغازية، وكفرشوبا في العرقوب، وفي الهرمل، وغزير وسواها، غير أن بروز الأسرة القوي إنما هو في بيروت. كما انتشرت الأسرة في دمشق، وفي قرية الحارة السورية القريبة من القنيطرة، فإن جميع سكانها من آل فرّوخ وعددهم يزيد عن خمسة آلاف نسمة، وللأسرة انتشار واسع في القاهرة في «حي آل فرّوخ»، كما شهدت الأندلس خلال الحكم العربي العديد من علماء وقادة آل فرّوخ. كما شهدت فلسطين انتشاراً لآل فرّوخ، وقد وفد فرع منهم عام 1948 إلى لبنان مع نكبة فلسطين. وعرف منهم في نابلس أحمد فرّوخ. كما يوجد في المغرب ضريج لسيدي فرّوخ ما يزال يزار إلى اليوم للتبرك والصلاة والدعاء. وشهدت تركيا، لا سيما مدينة إِزمير فرع من آل فرّوخ، فقد كان رئيس بلديتها ونوابه من آل فرّوخ. ويقول المرحوم سعد الدين فرّوخ «يوم دعيت إلى إيران بمناسبة عيد الثورة، اجتمعت إلى نفر من آل فرّوخ، وفيهم المتعلم والتاجر والطبيب والمهندس والموظف...».

برز من آل فرّوخ عبر التاريخ العديد من الأعلام والعلماء والقادة والأمراء والفقهاء منهم على سبيل المثال لا الحصر السادة: الفقيه محمد بن فرّوخ (المتوفى 6 ذي الحجة 158هـ) المعروف باسم ربيعة الرأي بن أبي عبد الله بن فرّوخ ويكنى «أبا عثمان» وهو شيخ مالك وسفيان الثوري، والليث بن سعد. وكان يجلس في حلقته أربعون من علماء شيوخ الحديث في المدينة المنورة. كان إِماماً وفقيهاً ومحدثاً. ومما يذكر عن والد هذا العالم الفقيه والد ربيعة، أنه قضى من عمره ثلاثين سنة متواصلة في الفتوحات الإسلامية.

وعرف من أسرة فرّوخ العالم عبد الله بن فرّوخ (115-176هـ، 733-792م) من علماء القرن الثاني الهجري، فقد كان فقيهاً وعالماً بالحديث الشريف، من أهل المغرب العربي، ولد بالأندلس، وسكن القيروان، وعرض عليه رَوْح بن حاتم القضاء فأبى، وخرج حاجاً فمر بمصر، وفي عودته توفي فيها، ودفن بسفح المقطم. له ديوان جمع فيه مسموعاته وسؤالاته للإمامين أبي حنيفة ومالك، وكتاب في الرد على أهل البدع والأهواء، على ما جاء في الأَعلام للزركلي (جـ4، ص 252).

كما عرف من الأسرة الأمير محمد بن فرّوخ (المتوفى 1048هـ-1368م) مولده ووفاته في نابلس في فلسطين، ولي إِمارة الحج الشامي بعد والده ثماني عشرة سنة، اشتهر بشجاعته ونخوته وكرمه، وضُرب المثل ببسالته، كما امتدحه ابن النحاس بقصيدته الحائية المشهورة، كما مدحه الأمير المنحكي بقصيدتين، على ما جاء في خلاصة الأثر، (جـ4، ص 108). وأورد المؤرخ أحمد البديري الحلاق، في كتابه «حوادث دمشق» (ص 84) اسم الأمير فرّوخ بن عبد الله فرّوخ حاكم نابلس والقدس. كما أورد اسم الأمير عساف باشا فرّوخ المتوفى عام (1081هـ-1670-1671م) وقد تولى قيادة قافلة الحج الشامي.

وفي العصور الوسطى برز فنان فارسي كبير من آل فرّوخ ما تزال رسومه ولوحاته الفنية متداولة من جيل إلى جيل. وفي العهد العثماني برز الكثير من العلماء والأعلام من آل فرّوخ، منهم على سبيل المثال السادة: الحاج سعد الدين فرّوخ الأول الذي كان حاكماً لقلعة بيروت عندما سيطر إبراهيم باشا على بيروت وبلاد الشام (1831-1840). وقد لقي إبراهيم باشا مقاومة من الحاكم سعد الدين فرّوخ الذي اضطر لأن يتولى عن الأنظار مع بعض أفراد من آل فرّوخ، ليلجأوا إلى منطقتي غزير وزيتون ومن ثم الهرمل. وما تزال أسرة فرّوخ في تلك المناطق، ومن بينهم هادي فرّوخ ناظر المدرسة المهنية في الهرمل، وهو من نسل سعد الدين فرّوخ حاكم قلعة بيروت في القرن التاسع عشر، ولا بد من الإشارة إلى أن سعد الدين فرّوخ حاكم قلعة بيروت، كان يسكن في دار يملكه، يقوم مكان مبنى بلدية بيروت حالياً، في حين كانت زوجة الجد عبد الرحمن فرّوخ عايده عباس السبليني تملك منزلاً ملاصقاً لتلك الدار تجاه الجدار الشمالي للجامع العمري الكبير.

كما برز منهم عبد الرحمن ابن سعد الدين فرّوخ، جد العلامة الدكتور عمر فرّوخ، وكان القواص الأول في القنصلية الألمانية قبل الحرب العالمية الأولى. وأثناء زيارة الأمبراطور الألماني غليوم الثاني لبيروت وللبلاد السورية عام 1898، أُنتدب عبد الرحمن فرّوخ والد الدكتور عمر فرّوخ، لمرافقة الأمبراطور ولحراسته. ولما انتهت زيارة الإمبراطور الألماني للمنطقة منحته الإمبراطورية الألمانية وسام الصليب الذهبي، كما منحته الدولة العثمانية الوسام المجيدي. وكان يحمل سابقاً الوسام العثماني المعروف باسم «نيشان افتخار». ويقول المرحوم الحاج سعد الدين فرّوخ بهذا الصدد: «هذه الأوسمة احتفظ بها، في حين أن صور جدي مع غليوم موجودة في مكتبة المرحوم أخي عمر».

وبرز في العهد العثماني عبد الله فرّوخ والد العلامة الدكتور عمر فرّوخ والحاج سعد الدين فرّوخ. وكان عبد الله فرّوخ مديراً للبوسطة النمساوية (البريد) قبل الحرب العالمية الأولى، كما كان يحسن ثلاث لغات: العربية، والتركية والفرنسية، ويلم بالإنكليزية والألمانية. ولما رافق قنصل ألمانيا الإمبراطور غليوم الثاني في رحلته، ومعه القواص عبد الرحمن فرّوخ، حل في القنصلية مسؤولاً ابنه عبد الله بن عبد الرحمن فرّوخ. وكان عبد الله فرّوخ قد عمل أيضاً قبل الحرب العالمية الأولى مترجماً في مكتب المحامي أرقش. وكان المرحوم الحاج سعد الدين فرّوخ يحتفظ في منزله بوسام نمساوي رفيع لوالده عبد الله فرّوخ.

وأشارت وثائق سجلات المحكمة الشرعية في بيروت لا سيما السجل (1259هـ) إلى عدد وفير من آل فرّوخ نذكر منهم السيد علي فرّوخ وابنته الحاجة رقية فرّوخ زوجة السيد علي القوتلي. وأشار السجل نفسه إلى توطن بعض آل فرّوخ في منطقة الساحة الشهيرة في باطن بيروت.

كما برز من أسرة فرّوخ حسن عبد الرحمن فرّوخ مدير مدرسة حوض الولاية الرسمية. وكان مفتشاً للتربية، وقائمقاماً للشوف بالوكالة، وهو مؤلف كتاب «النحو الواضح» للصفوف الابتدائية والمتوسطة، وله عدة مقالات أدبية واجتماعية وسياسية في صحف الأحرار والنهار والعهد الجديد، تحمل توقيع «طفيل الغنوي». وله عدة محاضرات في الندوة اللبنانية، كما كان شاعراً وحامل وسام الأرز الوطني.

وعرف من أسرة فرّوخ الأديب حسن فرّوخ (1898-1966) أحد مفتشي المعارف في زمانه. كما عرف من الأسرة الفنان اللبناني والعالمي المعروف مصطفى فرّوخ (1902-1957) أحد كبار الفنانين الرواد في لبنان وفي العالم العربي. جال في عدة معارض عربية ودولية، ونال جوائز تقديرية في باريس وروما وسواهما. ورد اسمه في كتاب «لاروس» (La Rousse) وفي موسوعة (Who is Who) وقد كرسته الجمعية الوطنية للفنون الجميلة في فرنسا فناناً ورساماً عالمياً. احتفل في عام 2007 في بيروت بذكرى مرور خمسين سنة على وفاته بمبادرة من الأديب والشاعر هنري زغيب.

وعرف من الأسرة المرحوم الحاج سعد الدين فرّوخ أحد أهم الناشطين في الميادين التربوية والفكرية والعلمية والدينية والإسلامية. فقد كان عضواً فاعلاً في جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت، وعضواً في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، كما كان رئيساً للجنة تعليم أبناء القرى، ورئيساً للرابطة الإسلامية في بيروت. حاصل على وسام الأرز الوطني، مؤلف كتاب «الأمثلة البيروتية في سياق الأمثلة اللبنانية» الصادر في بيروت عام 1985، وقد وزع منه مجاناً أكثر من ألف نسخة تمشياً مع قناعاته بأهمية نشر وحفظ التراث البيروتي واللبناني.

ونظراً لإسهامات البارزة للعلامة الدكتور عمر فرّوخ، فإننا نشير إلى سيرته الذاتية المختصرة على النحو التالية:

العلامة الدكتور عمر فرّوخ (1906-1987) سيرة ومسيرة
ما من شك أن أفضل ما يُكتب في ترجمة حياة أي شخص هو ما يكتبه المترجَم له نفسه عن نفسه، وهذا ما كان يفعله بعض أسلافنا من المؤلفين والعلماء الذين تركوا في آخر مؤلفاتهم بضع صفحات لتقديم أنفسهم إلى قرائهم، وبذلك يوفرون على من يليهم عبء تتبع أخبارهم في كتب الطبقات وملاحقة أبنائهم أو أحفادهم أو غير هؤلاء وأولئك ممن يُظن أن عندهم علماً أو بعض علم عنهم.

وعمر فرّوخ كفانا مؤونة ومعرفة أحواله وتحولاته من غيره وذلك في الصفحات التي سجّل فيها ما سماه (الواقعات من حياتي) يوم السبت في 29 صفر 1407هـ 1 تشرين الثاني 1986م، ونقلها الدكتور حسّان حلاّق الذي قدّم وجمع وحقق الكتاب الذي أصدرته لجنة تكريم العلامة الدكتور عمر فرّوخ، ونشره مجلس أمناء وقف البر والإحسان في جامعة بيروت العربيّة في بيروت سنة 1408هـ 1988م .

يقول عمر فرّوخ إنه ولد في بيروت في مطلع سنة 1322هـ 1906م عندما كانت هذه المدينة ما تزال صغيرة الرقعة، وكان معظم أهلها لا يزالون يسكنون في المْدينة، بتسكين الميم في أول الكلمة، وكان البيت الذي ولد فيه يقع غرب السراي الكبير، التي كانت تُعرف عند عامة البيروتيين باسم القشلة.

ويقول عمر فرّوخ، إن نشأته الأولى كانت في بيئة على شيء كثير من العلم بالنسبة لذلك الزمان، والده اسمه عبد الله 1872م- 1849م كان يتقن ثلاث لغات: العربيّة والتركيّة والفرنسيّة، وربما عرف غيرها لأنه كان موظفاً في مكتب البريد النمساوي في خان أنطون بك، شرق المرفأ، كما كان عمّاه حسين 1885م 1936م وحسن 1892م 1966م يعرفان اللغتين العربيّة والتركيّة معرفة جيدة، وكان جده لأبيه عبد الرحمن بن سعد الدين بن عمر فرّوخ 1845م 1917م أول أمره نجاراً ثم عمل قواصاً في القنصليّة الألمانيّة.

أما والدته فهي شفيقة بنت سليم المكداشي 1880م 1957م فكانت أميّة لا تقرأ ولا تكتب ولكنها كانت ذات حكمة وسعي مفيد. وبالإضافة إلى البيئة العلميّة لأفراد أسرة عمر فرّوخ فإن البيت الذي نشأ فيه كان يتردد عليه طائفة من علماء بيروت المعروفين منهم: الشيخ عبد الرحمن الحوت 1846م 1916م فقيه بيروت في أيامه، ثم الشيخ أحمد عمر المحمصاني 1873م 1951م عالِم بيروت وخطيب محافلها الدينيّة والاجتماعيّة، وجميل العظم، عالِم دمشق وأديبها وجامع أخبار المؤلفين المكثرين وتراجم النابهين 1873م 1933م.

وإذ كان في كنف جده فإنه تعلّم منه الصلاة وقراءة القرآن الكريم والسباحة والاعتماد على نفسه بشراء حاجات البيت من السوق، يقول عمر فرّوخ حول بداية تعلمه في المدارس:
(دخلت المدارس باكراً، مدرسة الشيخة حليمة الفيل، في زقاق البلاط، وكنت صغيراً جداً فلا أدري أني تعلمت فيها شيئاً، ثم مدرسة لجنة التعليم 1909م ثم دار العلوم 1910م ثم سكزنجي نمَّونة، هي المدرسة الابتدائيّة النموذجيّة الثامنة التابعة للمكتب السلطان ، ثانوية المقاصد للبنات اليوم في البسطة التحتا 1913م ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فدخلت مدرسة لا أذكر اسمها اليوم للشيخ يُوسُف الحلواني في منطقة رأس بيروت قرب السفارة الألمانية اليوم، وفيها تعلمت أشياء كثيرة: القرآن الكريم، واللغة العربيّة، والحساب، والخطّ وأشياء من الدين والتاريخ).

في سنة 1919م دخل عمر فرّوخ المدرسة الابتدائيّة التابعة بمنهاجها للكلية السوريّة الإنجيليّة، الجامعة الأميركيّة اليوم. وفي سنة 1921م انتقل إلى الصف الثالث الثانوي في الجامعة المذكورة. وفي سنة 1924م تخرج في الدائرة الإستعداديّ، وسنة 1928م تخرج من الدائرة العلميّة برتبة بكالويوس علوم في نفس الجامع .

وفي سنة 1928م مارس التعليم في مدرسة النجاح الوطنيّة بنابلس وفي السنة التي بعدها عاد إلى بيروت وارتبط بالتعليم في مدارس جمعيّة المقاصد الخيريّة الإسلاميّة واستمر على ذلك حتى سنة 1982م. وخلال هذه السنوات تابع دراسته العالية في ألمانيا وفرنسا 1935م 1937م حيث درس فصلاً في جامعة برلين وفصلاً في جامعة ليبزغ وفصلين في جامعة أرلنجن وتخرج فيها برتبة دكتور في الفلسفة.

وفي سنة 1940م1941م استدعي للتعليم في دار المعلمين العليا ببغداد وعُيّن أستاذاً للتاريخ الأموي والعباسي.

وفي سنة 1940م تزوج آمنة بنت أمين حلمي من بيروت وله منها خمسة أبناء أسامة ومروان ومازن الذي إستشهد برصاصة طائشة خلال أحداث لبنان ، ولينة ولميس.

وما بين سنة 1951م وسنة 1960م كان أستاذاً زائراً في جامعة دمشق لمادة تاريخ المغرب والأندلس وتاريخ العلوم عند العرب.

من سنة 1960م حتى سنة وفاته سنة 1987م كان أُستاذاً محاضراً في جامعة بيروت العربيّة لمادة التاريخ العربي في جانبه الحضاري وتاريخ العلوم عند العرب.

كانت نهاية المطاف في الرحلة الدنيويّة لعمر فرّوخ ليلة يوم السبت السادس عشر من ربيع الأول سنة 1408هـ الموافق للسابع من تشرين الثاني 1987م، فودعته بيروت، المدينة التي أحبها وأحبته ووقف عليها قلبه وعقله ولسانه وقلمه ومشت وراء نعشه بأعيانها وحكامها وعلمائها وجموع عامتها من مختلف الطبقات الاجتماعيّة والطوائف الدينيّة داعية إلى الله عزّ وجّل بأن يحله دار الخلد في جواره الكريم.

كان لعمر فرّوخ مكانهُ المرموق في داخل مجتمعه المحلي البيروتي كما كانت له مشاركة فعّالة في المحافل العلميّة داخل لبنان وخارجه، يقول عمر فرّوخ وهو يتحدث عن واقعات حياته:
(إنني كنت أعاني الصِّلات بالمجتمع، كنت عضواً في جمعيّة اتحاد الشبيبة الإسلاميّة وفي المجلس الإسلامي فيما بعد، كما كنت في أثناء ذلك عضواً في نقابة المعلمين في بيروت أما المؤتمرات التي حضرتها في بيروت وفي خارج بيروت في العالم الإسلامي من شنقيط، موريتانيا، إلى باكستان الشرقيةّ، بنغلادش، فلا عداد لها، هذا إلى أنني أصبحت عضواً في مجمّع اللغة العربيّة بدمشق، وجمعيّة البحوث الإسلاميّة في بومباي، الهند، سنة 1948م، ثم عضواً في مجمّع اللغة العربيّة في القاهرة سنة 1961م، وفي المجمّع العلمي العراقي).

ومن هنا ونحن نتحدث عن عمر فرّوخ ومنظوماته في ديوانه فلا علينا إذا نحن أثبتنا في هذه المناسبة قصيدته التي نظمها عندما كان معلماً في مدرسة النجاح بنابلس بعيداً عن موطنه بيروت التي برحه الشوق إليها وإلى لياليها التي كان قلبه مشدوداً إلى ذكرياتها، هذه القصيدة عنوانها (ليالي الهوى ببيروت) من كتاب (بيروت في الشعر العربي)، كما نشرتها مجلة الكشّاف الصادرة في بيروت سنة 1929م المجلّد الثالث العدد 1و2 لشهري كانون الثاني وشباط.
وفيما يلي القصيدة بتمامها:

لا الهوى راجع ولا ليلاتـه بعد لأن فارق الشجيّ ثقاته
كل يوم من الدهر بـرهان على غدره وتلك صفاتـه
ما على مُدْنف تذكر بيروت ففاضت من الجوى عبراته
أي أرض أحق بالذكر منها وفيها أصدقاؤه ولِداتــه
كلما حاول التسلّي عنهــا روّعته إذا خلا ذكرياتـه
وإذا أمّ مسجداً لصـــلاةٍ ذكرّته عهد الشباب صلاته
إذا ما أراد نافلــــــة الفجر تُقطعُ ترتيله حسراته
حسنات الزمان تمحى ولكن  ليس تمحى إذا عُدّت سيئاته
لا تَلُمْ دهرك الظَّلُوم فقد تحكم في ظلمه الفريض رواتـه
رُب إلفِ يربك ما شدَّ يوماً من أضْعاف ما ترى عاداته
إنما يحرز التجارب شخص كثرت في حياته عثراتــه
باليالي الهـــوى ببيروت هل ترجع الهوى لنا ليلانـه
يا زمان الصبــا ببيروت ما أنصفت في هجرنا ظبياته
رُب ظبي تركته عند بيروت  ولكن في مهجتي لحظاتــه
إن قلبي وإن تــراه جليداً ليس تخلو من الهوى نزعاته

وللدكتور عمر فرّوخ في الجامعة الأميركية صولات وجولات سواء على الصعيد العلمي أم على الصعيد السياسي الاجتماعي والديني، فقد رفض منذ شبابه تسخير العلم للاستعمار أو للتبشير. لقد روى لنا – رحمه الله – هذه الأحداث أكثر من مرة دون أي حرج، كما أكدها في كتابه «التبشير والاستعمار». وبالرغم من أنه لم يكن متعصباً ضد الأديان الأخرى مطلقاً، ولكنه كان يرفض أيضاً المساس بدينه، ورفض أيضاً استهانة العلم وجعله واسطة خبيثة في سبيل الوصول إلى غايات لا تمت إلى العلم بصلة. ولهذا تنبّه له أساتذته، وأخبروا الإدارة بهذا الفتى المميز علماً وسلوكاً، وحاولوا إقناعه القبول بتلقي دروس الدين البروتستانتي، ولكنه رفض ذلك وأوضح بأن هذه الأساليب لا يمكن أن تنفع معه أو مع الدكتور مصطفى خالدي ولا الدكتور زكي النقاش ولا الدكتور صبحي المحمصاني ولا مع بقية زملائه الآخرين، لذا وبعد إصرار عمر على موقفه اتخذ رئيس الجامعة الأميركية قراراً سمح فيه للطلبة المسلمين بعدم حضور الدروس الدينية واستبدال هذه بالدروس الأخلاقية والتربية المدنية، وما تزال هذه المادة تعطى إلى الآن في الجامعة الأميركية، وذلك بتأثير من عمر فرّوخ وصموده وتمسكه بمبادئه وعقيدته. وبتأثير منه أيضاً قررت الجامعة الأميركية منذ عام 1926 تدريس اللغة الألمانية.

والحقيقة فقد بدأ د. عمر حياته العلمية، وترجمة علومه إلى ميدان الحياة العامة بعد أن تخرج من الجامعة الأميركية عام 1928 بدرجة بكالوريوس علوم، ففي عام 1928-1929 كان مدرساً للتاريخ والجغرافية الطبيعية في مدرسة النجاح الوطنية (جامعة النجاح فيما بعد) في نابلس في فلسطين، والتقى هناك بصديقه الدكتور زكي النقاش.

وخلال العام الذي قضاه د. عمر في فلسطين، أثرى نابلس وطلابها ومجتمعها بالكثير من المقومات العلمية والاجتماعية والسياسية أيضاً. وحاولت السلطات البريطانية في فلسطين الضغط عليه، ولكنه رفض هذه الممارسات، وأعلن منذ ذاك التاريخ «أن الخطر الذي يهدد فلسطين، هو ذاته الذي سيهدد لبنان وبلاد الشام». وكان صادقاً في تنبؤاته السياسية.

ورأى د. عمر العودة إلى مدينته المحروسة بيروت للمشاركة في العملية التربوية والتعليمية، فتعاقد عام 1929 مع جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت للتعليم في مدارسها، واستمر في رسالته العلمية وتحقيق طموحاته، بالسفر إلى ألمانيا لمتابعة دراساته العليا والتخصص في الفلسفة واللغة وتاريخ العرب في أوروبا، وأثناء دراسته في ألمانيا عرج على فرنسا وزارها عام 1936 حيث تلقى بعض المحاضرات والدراسات في السوربون وكلية فرنسا ومدرسة الدراسات العليا. وفي ألمانيا تلقى دراساته في جامعتي برلين وليبزغ وفي جامعة أرلنجتن حيث تخرج منها برتبة دكتور في الفلسفة في 27 آب (أغسطس) 1937.

وفي الحادثة التالية يستدل على المستوى العلمي والثقافي للدكتور عمر فرّوخ حتى قبل نيله الدكتوراه. يقول عمر فرّوخ في مذكراته: «مشى إليّ ليڤي بروفنسال (اليهودي) يوماً وقال لي: أنت لست تلميذاًً، فمددت يدي إلى جيبي، وأخرجت بطاقة جامعة برلين، وبعد أن تأملها، قال لي: ولكن أنت غير هؤلاء (وأشار إلى طلبة في صدر القاعة أعرفهم) قلت له: طبعاً، أنا غير هؤلاء، هؤلاء حصلوا على البكالوريا – ومن الخير ألا أذكر نوع تلك البكالوريا – وجاءوا تواً إلى هنا. أنا أحمل شهادة بكالوريوس علوم من الجامعة الأميركية، ثم أني علمت سبع سنوات، وقد ألفت عدداً من الكتب المدرسية والأدبية، وأنا أحسن أربع لغات، وألم بلغة خامسة، حينئذ قال لي ليڤي بروڤنسال: وما جئت تفعل عندنا».

ومن أساتذته في الجامعة الأميركية د. فيليب حتى، وبيار دودج الذي أصبح رئيساً للجامعة، ثم والتر رايت وأصبح أيضاً رئيساً للجامعة في استانبول وادواد نيقولي. أما أساتذته في ألمانيا، فمنهم: المستشرق يوسف هل ويوليوس روسكا، وشايدر، وبيوركمن وروسن وفرانكل وغيرهم.

ومن أساتذته في فرنسا المستشرق وليم ماسيه وديمونبين ولويس ماسينيون وقولان وليڤي بروڤنسال (اليهودي)، وسواهم. ومن هنا ندرك حرص عمر فرّوخ على لقاء العلماء من كافة الاتجاهات، مما ساعده في النضوج العلمي والتنوع الثقافي، مؤمناً بقاعدة ابن خلدون «الرحلة في طلب العلم».

ونظراً لإعجاب المستشرق وليم ماسيه بعلم عمر فرّوخ عرض عليه يوم عودته إلى ألمانيا البقاء في فرنسا ليتعلم مجاناً ويعطى منحة، ووعده عند عودته إلى بيروت ليجد منصباً رفيعاً ينتظره. غير أن عمر فرّوخ أيقن ما يقصد أستاذه، فرفض هذا العرض، لأنه غير مستعد مقايضة علمه ومبادئه بمنحة جامعية أو بمنصب أكاديمي.

وليس المقصود بهذه الأسطر السرد التاريخي لكيفية تلقيه العلم، ولكن المقصود بها لفت النظر والإشارة إلى منابع العلم وأساليبه التي تلقى د. عمر منها علومه العليا، بالإضافة الى تبلور شخصيته العلمية وتأثرها بالنمط الألماني الذي لا يعرف للمزاح مكاناً في حياته، ولا يعرف للعبث أو للهو مكاناً آخر في تصرفاته.

كانت ألمانيا في الثلاثينات لافتة نظر الشعوب والأفراد والجماعات بعد أن بانت قوتها وتقدمها في أوروبا، وكانت تلك الشعوب ترى في ألمانيا المنتقم لها من بريطانيا وفرنسا وسواهما من الدول الاستعمارية التي تسيطر على أكثر بلدان العالم العربي والإسلامي والثالث. وكان عمر فرّوخ من جملة المتأثرين في تلك الفترة «بالعصر الألماني» وكانت عناصر التأثير هي العناصر الإيجابية في بعض ملامح التيار الألماني، وهو على كل حال لم يؤمن مرة واحدة بالديكتاتورية ولا بالنازية ولا بالفاشستية كأنظمة سياسية أو عسكرية أو اجتماعية أو اقتصادية. ومن خلال تجربتنا معه باعتباره كان رئيساً لنا في إطار مجلس أمناء وقف البر والإحسان – جامعة بيروت العربية. كان مؤمناً إلى حد كبير بالديموقراطية والشورى، ولم يكن يأخذ قراراً منفرداً ولو لمرة واحدة، بل كان على الدوام يطلب الشورى والمشاورة.

لقد قضي في بيروت بعد عودته من ألمانيا ثلاث سنوات بين 1937-1940 مدرساً في مدارس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، وبعد أن قضى سنة واحدة في العراق 1940-1941 في التدريس في دار المعلمين العالية في بغداد، عاد مجدداً إلى مدارس المقاصد واستمر فيها إلى عام 1983 بعد أن قضى فيها تعليماً وتربية أكثر من خمسين عاماً.

وفي سبيل العلم وفي سبيل دعم المعلم ورفع مستواه، سعى مع زملاء له إلى تأسيس نقابة المعلمين في لبنان، ثم أصبح عضواً فاعلاً لهذه النقابة بين 1946-1969، وفي هذا المجال فإني سأذكر نشاطه العلمي من خلال عضويته في عدد من المجامع والهيئات العلمية اللبنانية والعربية والدولية.

هذا وقد أستأثرت دراسات د. عمر فرّوخ باهتمام العديد من الهيئات والدول العربية والإسلامية، فقد دعي لأن يكون أستاذاً زائراً في جامعة دمشق بين أعوام 1951-1960، محاضراً في التاريخ الأموي وتاريخ الأندلس. وقد استطاع د. عمر بمنهجه العلمي أن يحول محاضراته الدمشقية إلى ندوات علمية استقطبت الطلاب والأساتذة معا، وبعض المستشرقين المقيمين في دمشق، وبعض الهيئات الثقافية. وباعتباره أحد المؤسسين الفاعلين والمشاركين في انطلاقه جامعة بيروت العربية عام 1960، واستمر عاملاً فاعلاً في جامعته منذ عام 1960 لغاية وفاته في تشرين الثاني 1987.

وبعد أن أصبح د. عمر محط اهتمام في العالمين العربي والإسلامي، أصبح مستشاراً للعديد من الهيئات العلمية. تأخذ رأيه في القضايا العلمية والتربوية والثقافية وأحياناً رأيه في القضايا السياسية والاجتماعية. فمن باكستان إلى مصر، ومن العراق وسوريا إلى تونس وليبيا، ومن السعودية إلى دولة الإمارات العربية، ومنها إلى بلدان إسلامية أفريقية وآسيوية، ومن هيئات إسلامية في ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية وسواها، كان د. عمر يستشار، فيبدي رأيه رأي العالم المتجرد المتصف بصفات خلقية وعلمية في آن.

عرف أيضاً من أسرة فرّوخ في التاريخ الحديث والمعاصر الموسيقار العالمي توفيق فرّوخ. كما عرف من أسرة فرّوخ الأستاذ صالح فرّوخ الناشط الاجتماعي والسياسي وهو أحد كبار المسؤولين في تيار المستقبل، وفي جمعية التنمية التابعة لمؤسسات الرئيس الشهيد رفيق الحريري. والمعروف عن الأستاذ صالح فرّوخ أنه الجندي المجهول للكثير من الأنشطة السياسية والاجتماعية والثقافية والتنموية، وللعديد من المهرجانات والاحتفالات التي ينظمها تيار المستقبل، وذلك منذ عهد الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى اليوم.

كما عرف السادة: إبراهيم، أحمد، أمين، حسن، ديب، سامي، سعد الدين، سليم، صبحي، طالب، عثمان، علي، عمر، غالب، فؤاد، مازن، مالك، محمد، محمود، مصطفى، موسى، وسواهم الكثير.

وفرّوخ لغة من الفارسية وتعني الرجل السعيد، أما فرّوخ بالعربية كما أشار الحاج سعد الدين فرّوخ فإنها تعني الرجل الذي ذهبت عنه الفزع والروع، ودخلت نفسه الطمأنينة، فهو المطمئن. وأوردت المصادر الفارسية والعثمانية والعربية كثيراً مصطلح فرّوخ زاده أي ابن فرّوخ. (أنظر مادة: فرشوخ ومادة الفر).

 د. عمر مع زوجته وأولاده بمناسبة الذكرى الـ 20 لزواجه (5/11/1960)