التكون التاريخي والحضاري للمواقف البيروتيّة    

( صفحات مضيئة من تاريخ بيروت )

 

 الفصل الأول      

إن الحديث عن بيروت ومواقفها التاريخيّة، يعني الحديث عن الحواضر والمدن العربيّة والإسلاميّة، والحديث عن العائلات البيروتيّة، يعني الحديث عن العائلات العربيّة والإسلاميّة وإن التأريخ لمواقف بيروت، هو التأريخ نفسه للمواقف العربيّة والإسلاميّة، هو التأريخ عن مواقف دمشق والقاهرة والقدس وبغداد وصنعاء وعمّان والحجاز والجزائر وفاس وتونس وطرابلس الغرب وسواها من العواصم والحواضر العربيّة والإسلاميّة.

 

وعندما نتحدث عن بيروت ومواقفها التاريخيّة والنضاليّة، فإننا لا نتحدث من منطلقات ومفاهيم التقوقع، بل إننا عندما نتحدث عن بيروت، فإننا نتحدث عن العروبة والإسلام، ومن منطلقات ومفاهيم الانتماء إلى عاصمة اعتبرت سيدة العواصم بل أميرة العواصم، هذه العاصمة التي حوت واكتنزت فيها العناصر العربيّة والإسلاميّة، وعبر التاريخ امتزجت وتكثفت هذه العناصر، فكانت بيروت التاريخ وبيروت الموقف والنضال.

 

كيف يمكن اعتبار بيروت بوتقة للعروبة والإسلام ؟

إن العائلات البيروتيّة ـ وكذلك العائلات اللبنانيّة ـ ذات أصول عربيّة وإسلاميّة، غير أنها ليست من منطقة واحدة بل من أقطار مختلفة من بلاد الشام، من مصر والمغرب العربي،، ومن شبه الجزيرة العربيّة. وقد امتزجت هذه العائلات عبر التاريخ لتكون المجتمع البيروتي المتشابه في عاداته وتقاليده ولهجته البيروتيّة المميزة. وقد امتزجت مع هذه العائلات وتعربت عبر الأجيال العناصر التركيّة والألبانية (الأرناؤوط والبشناق) والعناصر التي خضعت للفتوحات الإسلاميّة، بما فيها الفتوحات العُثمانيّة، حيث استقدم الأتراك معهم عناصر عسكريّة وإسلاميّة شاركت في الرباط والدفاع عن بيروت والمناطق الإسلاميّة الأخرى، فالعناصر العربيّة والإسلاميّة التي استوطنت بيروت مع بعض العناصر المسيحيّة كوّنت التركيبة السكانيّة للمدينة. ويكفي أهل بيروت فخراً أنهم حولوا هذه المدينة إلى مدينة إسلاميّة عربيّة، بعد أن كانت فترة وثنيّة ويونانيّة أو رومانيّة أو بيزنطيّة أو إفرنجيّة. ومن الأهميّة بمكان القول أن (سمات البيارتة) ومميزاتهم صورة صادقة لواقع بيروت ولملامحها العُمرانيّة، فلم يتميّز البيروتي بالتجارة فحسب كما يدعي البعض، بل إن الحقائق التاريخيّة تثبت الصفات العسكريّة والجهاديّة للبيروتي على غرار بقية العرب والمسلمين. ومن يدرس تاريخ بيروت وملامحها يدرك تماماً المطابقة والتجانس بين أبناء بيروت وبين مدينتهم.

 

فالميزة العسكريّة في البيروتي تبرز من خلال مشاركته في أعمال الجهاد والرباط منذ الفتوحات الإسلاميّة، ولا ننسى مطلقاً أن البيروتي هو العربي المسلم الذي شارك وناضل وجاهد في سبيل الإسلام والمسلمين. وتبرز الميّزة العسكريّة في البيروتي من خلال أبراج بيروت وقلاعها وثكناتها وعساكرها وضباطها وولاتها، ومن خلال أسلحتها وذخيرتها.

 

والميزة السياسيّة في البيروتي تبرز من خلال تكوين الجمعيات والأندية السياسيّة، ومن خلال المشاركة في مجلس المبعوثان (مجلس النواب) والمؤتمرات السياسيّة المحليّة والعربيّة. ومن خلال المقالات السياسيّة في الصحف منذ العهد العُثماني.

 

والميزة الإقتصاديّة والتجاريّة والمهنيّة تبرز في البيروتي من خلال مرفأ بيروت ومن خلال أسواق بيروت ومهنها وصناعاتها وقيسارياتها المسقوفة وخاناتها ونقودها.

 

وميزة التدين والإيمان تبرز في البيروتي من خلال تعدد مساجد بيروت وتعدد الزوايا والعلماء والأوقاف الإسلاميّة.

 

والميزة الصحيّة تظهر من خلال البيمارستانات والخسته خانات وتعدد الأطباء والحمامات العامة.

 

والميزة الثقافيّة تظهر من خلال جامعات وكليات ومدارس وكتاتيب بيروت، ومن خلال صحفها ومنشوراتها ومفكريها وجمعياتها الثقافيّة والعلميّة.

 

والميزة الإجتماعيّة تبرز في البيروتي من خلال عاداته وتقاليده وأخلاقه، والعلائق الإجتماعيّة بين الأفراد والعائلات والجماعات والطوائف والتصاهر.

 

والميزة الإداريّة في البيروتي من خلال دواوين الدولة والسرايات، والتنظيمات والقوانين الإداريّة، ومن خلال المواصلات والبريد والبرق والهاتف، ومن خلال الوظائف والموظفين.

وتبرز الميزة الجماليّة في بيروت منذ العهد العُثماني من خلال تنسيق البساتين والحدائق، ومن خلال الساحة الحميديّة والسبيل الحميدي، ومن خلال ساحة البرج (برج الكشّاف) وحديقة الموسيقى وحديقة الصنائع الحميديّة، ومن خلال حرج صنوبر بيروت التاريخي ومن خلال البحر الممتد على طول شاطئ بيروت. ومن خلال الأنماط المعماريّة الرائعة من دور وقصور المجللة بالقرميد الأحمر.