التكون التاريخي والحضاري للمواقف البيروتيّة    

( صفحات مضيئة من تاريخ بيروت ) 

     

الفصل الرابع والأخير

الحقيقة فإن بيروت كثيراً ما دفعت الدم والضحايا نيابة عن سواها، وكثيراً ما دفعت الدم نتيجة للخلافات والصراعات الإقليميّة والدوليّة. فبعد تخوف الدول الأوروبيّة والدولة العُثمانيّة من طموحات وتوسعات محمد علي باشا وإبنه إبراهيم باشا الذي سبق له أن سيطر على بيروت وبلاد الشام عام 1831م، وبعد مضي حوالى تسع سنوات على حكمه في البلاد الشاميّة، فقد إجتمعت الدول الأوروبيّة: أنكلترا، النمسا، وروسيا عام 1840م في لندن، وتمّ الإتفاق مع الدولة العُثمانيّة على محاصرة الجيش المصري في بيروت مقدمة لطرده من بلاد الشام.

 

وبالفعل ففي أوائل شهر آب من عام 1840م بدأت السفن الأوروبيّة محاصرة شواطئ بيروت عبر سواحل الكرنتينا وجونيه ورأس بيروت. ولما رفض سليمان باشا حاكم سوريا ورئيس أركان الجيش المصري بتسليم بيروت والخروج منها، بدأت الأساطيل الإنكليزيّة والنمساويّة قصف الآمنين في مدينة بيروت إبتداء من 10 أيلول عام 1840م، فدمّر القصف المنازل وأحرق المحال والحوانيت التجاريّة وقتل الأبرياء من المدنيين والعزل، فما كان من الجيوش المصريّة ـ الشاميّة البالغة عشرة آلاف جندي إلا أن واجهت قوات الحلفاء البالغ عددها مع الجيش التركي حوالي سبعة عشر ألف جندي وإحدى وثلاثون سفينة مشتركة، وواجهت القصف بقصف مضاد. ووقف البيارتة للدفاع عن مدينتهم قرب االشواطئ. ويستخلص من جواب القائد سليمان باشا إلى قائدي الأسطولين الإنكليزي والنمساوي في 11 أيلول 1840م واقع بيروت وواقع البيارتة وموقفهم مما يجري على أرضهم. ومما قاله سليمان باشا : (... فقد إستطعت البارحة أن أعرف مدى الضرر الذي تستطيعان إيقاعه بعائلات وديعة وغريبة عن العراك القائم. لقد استطعتم قتل خمسة من جنودي، ولكن بعد أن خربتم بيوتاً، وأيأستم عيالاً، وقتلتم نساء وطفلاً رضيعا مع والدته، وشيخاً وفلاحين مساكين... إن نار بوارجكم بدلاً من أن تخمد، زادت شدة وفتكاً بالفلاحين المساكين أكثر منها بالجنود. يظهر أنكما عازمان على إحتلال المدينة في حين أن هذا الإحتلال لن يؤثر في الموضوع، وهب أنني فشلت في هذه الحرب فلن تستوليا على بيروت إلا بعد أن تصبح هذه المدينة رماداً. إن بيروت ما تزال مأهولة ليس بإستطاعتي تسليم المدينة وقد أمرت بحمايتها، سأحميها مهما جرى... فإن هاجمتم بيروت وإذا دُفن سكانها تحت أنقاضها، فلن أكون مسؤولاً عن الدم المرهق...).

لقد ظل الجيش المصري ـ الشامي مدافعاً عن بيروت، يشد أزره أهل بيروت، غير أن صمود المدينة لم يستمر كثيراً بسبب الضغط الدولي، فسقطت في تشرين الأول عام 1840م، وجلا المصريون عن بيروت وبلاد الشام. وبذلك انتهى الحكم المصري في المنطقة بعد أن إستمر طوال تسع سنين (1831-1840م)، وفضّل الكثير من المصريين البقاء في بيروت في ظل فوضى الحرب، فتصاهروا في المجتمع البيروتي.

 

ومنذ أن تولى خورشيد باشا حكم بيروت من قبل العُثمانيين عام 1274هـ 1857م، واجهت البيارتة بعض الأزمات، وكان لا بد من بعض المواقف، فقد كان خورشيد باشا يعين في كل سنة لجنة قوامها ستة أشخاص من أعيان بيروت، كانت تُسمى (قومسيون لمَ العسكر) أو (مجلس قومسيون فوق العادة في بيروت) . وكان على هذا المجلس مسؤولية جمع العساكر من أبناء بيروت للسفر للجهاديّة وللخدمة العسكريّة خارج بيروت وخارج البلاد. وكان خورشيد باشا قد أوكل هذه المهمة لأحد الضباط الأتراك حديثي العهد في بيروت وطلب منه جمع العساكر في بيروت. فطلب هذا الضابط من (مجلس القومسيون) جمع الشبان البيارتة الذين هم دون السن، خلافاً لما حددته الفرمانات السلطانيّة. فما كان من الحاج حسين بيهم العيتاني (1833-1881م) عضو(مجلس القومسيون) ورئيس الجمعيّة العلميّة السوريّة المشهور بجرأته وقدرته على مواجهة السلبيات في العهد العُثماني إلا أن إعترض على تصرف الضابط التركي موضحاً بأن بيروت لا تقدم للجنديّة الذين هم تحت السن القانونيّة، وإنما ستقدّم العدد الذي يمكن أن تقدمه، لأن بيروت عانت كثيراً في السنوات الماضية، وضحّت ولا تزال تضحّي. وأنه لا يمكن للأفراد الذين يعيلون أرامل وأيتاماً وأطفالاً أن يذهبوا إلى أقاصي الولايات العُثمانيّة، ومن الممكن ألا يعودوا مطلقاً، وفي هذه الحال من يتولى ويعيل أمر هذه العائلات؟.

فأوضح الضابط العُثماني : (أنا لا أعرف بهذه الأمور، إنما أريد أن أنفذ أمر الدولة) وقال: (بو دولت أمريدر) أي (هذا أمر الدولة). مما أغضب الحاج حسين بيهم العيتاني ولجنة القومسيون، فطوى سجل نفوس وقيد العسكر وذهب محتجاً. ولما وصل الخبر إلى خورشيد باشا، أرسل فوراً مساعده لتقديم الإعتذار على ما جرى، وعلى ما أبداه الضابط من تصرف غير لائق، غير أن الحاج حسين رفض الإعتذار مؤكداً أن (مجلس القومسيون) لن يجتمع بعد الآن، إلا إذا نقل الضابط من مركز عمله من بيروت إلى الخارج. وبالفعل فقد إستجاب خورشيد باشا لطلب الحاج حسين بيهم العيتاني وطلب أهل بيروت، ونقل الضابط في اليوم التالي منن بيروت إلى منطقة أخرى. ثم أكّد الحاج حسين لخورشيد باشا أن على أبناء بيروت أن يدافعوا ويصونوا مدينتهم أولاً في ظل الظروف الحرجة والصعبة التي كانت قائمة في جبل لبنان.