من بيروت الصغرى إلى بيروت الكبرى

الفصل الأول

 

إستأثرت بيروت باهتمام الإمبراطوريات والدول والشعوب القديمة، واحتلت موقعاً هاماً عبر التاريخ، وتعتبر بيروت من أقدم المدن على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، وبالتالي من أولى المدن في العالم القديم، بدليل ورود اسمها في النقوش والكتابات القديمة السامية والهيروغليفيّة وفي رسائل تل العمارنة وفي التوراة. وكانت بيروت قد بدأت أهميتها العسكريّة والسياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة تتزايد تباعاً سواء في العصور القديمة أو الوسطى أو في العصور الحديثة والمعاصرة وكانت رقعة بيروت تضيق وتتسع تبعاً للحكم المسيطر عليها. وقد سكن بيروت منذ تاريخها القديم موجات سامية عربيّة إنطلقت من شبه الجزيرة العربيّة في الألف الثالث قبل الميلاد نتيجة الجدب في الصحراء العربيّة، وهي الموجات التي عُرفت باسم الفينيقيين.

 

وبعد مضي قرون عديدة من الحكم اليوناني والروماني، وبعد حركة التغريب، عادت بيروت إلى حركة التعريب بعد أن إفتتحتها الجيوش العربيّة الإسلاميّة في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب في العام الثالث عشرة للهجرة النبويّة الشريفة الموافق للعام الميلادي 634. وقد عهد القائد أبو عبيدة بن الجرّاح إلى يزيد بن أبي سفيان بفتح بيروت وصيدا وعرقة وجبيل، بعد أن تمّ فتح مدينة دمشق.

 

وبالرغم من أن بيروت لم تكن في هذه الفترة مدينة كبرى، وبالرغم من أن جمهرة المؤرخين المسلمين لم يتوسعوا من التأريخ لها، غير أنهم حرصوا على الإشارة إلى فتحها ومنهم : البلاذري، إبن الأثير، واليعقوبي، ثم توسع في الحديث عنها إبن عساكر في كتابه (تاريخ دمشق)، وصالح بن يحيى في كتابه (تاريخ بيروت)، والمقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم)، والإصطخري في كتابه (مسالك الممالك)، وإبن خرداذبة في (المسالك والممالك) أيضاً، كما أشار إلى بيروت الكثير من الرحالة العرب مثل إبن حوقل في كتابه (صورة الأرض)، وإبن بطوطة في (الرحلة) والكثير من الرحالة الأجانب والعرب في العهد العُثماني.

 

والواقع فإن بيروت قامت بدور بارز نظراً لموقعها الإستراتيجي في الدفاع عن السواحل والمناطق الشاميّة في إبان هجمات الإفرنج على ساحلها لذا أدرك معاوية بن أبي سفيان أهمية تحويلها إلى مركز للأسطول الإسلامي، وجلب السكان إليها. وقد أشار صالح بن يحيى إلى أن معاوية بن أبي سفيان والي الشام، عمّر المراكب في بيروت عندما أراد غزو جزيرة قبرص عام 27هـ 647م. كما أشار إبن حوقل إلى أن مدينة بيروت يرابط بها أهل دمشق وسائر جندها، وينفرون إليها عند إستنفارهم. ومن الصحابة والتابعين الذين رابطوا في بيروت أبو الدرداء الأنصاري الخزرجي، وسلمان الفارسي، وبشير بن سعد، وأبو ذر الغفاري، وعبد الملك بن جادر، وسعيد المقبري، والدرداء بن أبي الدرداء وزوجته العيصاء بنت ملحان الأنصاريّى المشهورة بأم حرام، وغيرهم الكثير. وكان هؤلاء يقضون فترات في بيروت تصل إلى ثلاث سنوات، يقاتلون ويحدّثون ويدرّسون. وأشار إبن عساكر في تاريخ دمشق إلى أن سلمان الفارسي سأل أهل دمشق عن أبي الدرداء قالوا له : لأنه مرابط. فقال: أين مرابطكم يا أهل دمشق؟ قالوا : بيروت المحروسة، فذهب للرباط معه هناك.

من هنا يدرك الناس الصفة الجهاديّة والعسكريّة القديمة لبيروت، وضرورة تحصينها لرد الإعتداءات عنها، فعمد المسلمون إلى تحصينها وتعيين جنادة بن أبي أميّة الأزدي في منصب أمير بحر الشام وقد أقام في بيروت. ومنذ تلك الفترة بدأت حصونها وأبراجها وسورها تظهر تباعاً لأسباب عسكريّة بحته. والملاحظ في هذه الفترات الإسلاميّة الأولى أن جميع سكان بيروت كانوا مقاتلين، لذا فإن أنماط الحياة الإقتصاديّة والإجتماعيّة كانت مرتبطة بهذا الواقع العسكري. وتبعاً لتطور الأحوال واستقرار الأوضاع في بعض السنين شهدت بيروت تحسناً ملحوظاً في عدد سكانها. وكانت بيروت قد بدأت ترتسم ملامحها وهي بيروت السور أي داخل سورها. وكلما مرت العصور كانت بيروت تزداد بسكانها وملامحها. وكان بعض الحكّام يعملون باستمرار تبعاً لنوع الحكم على نصرنتها أو تعريبها أو أسلمتها تبعاً لواقع الحال. ففي عام 1183م انتزع صلاح الدين الأيوبي بيروت من الصليبيين الذين سبق لهم أن سيطروا عليها. وفي العهد الأيوبي بدأت تتسع بيروت لأن صلاح الدين نقل إليها سكاناً من صيدا وصور وجبيل، وهكذا فعل المماليك والعُثمانيون عندما إفتتحوا بيروت، وذلك لإعطائها طابعاً إسلاميّاً.